«2»
لا أعرفُ شكلاً واحدًا للموت.
تشتعلينَ من بكائي، من رائحةِ البيرةِ في فمي، من شبقِ الحكايات، ومن صوتي الذي ينتهي في الحقول.
تتعامدين كالشمسِ على شهوتي، تتفتحُ أزهارٌ في جسدي، وأسمعُ زقزقةً بين ضلوعي، ترفرفُ فراشاتٌ في أنفاسِك، وفي جسدِك، أشمُّ رائحةَ الشجرِ المقطوع، وألمسُ هالاتِ الرغبةِ وطفولةَ الحواس.
كلُ شيءٍ هنا ضدّ طفولتي، ضدّ حريرِ الشهواتِ وطزاجةِ المشاعر، ضدّ الفِردَوْسِ المعلّقِ في فضاءِ الغرفة، ضدّ الموسيقا، ضدّ الألوانِ والقبلاتِ والقصائد.
إنني أعزلُ كملكٍ على الهواء
لكنني لا أستطيعُ أن أحرّكَ عاصفةً
ولا أن أنقلَ اللّقاحَ من زهرةٍ إلى زهرة
لا أعرفُ شكلاً واحدًا للموت.
«3»
تعالَيْ معي يا جميلتي، معي يا مفجّرةَ العبقرياتِ الصغيرةِ في حواسي، إن قلبي صريحٌ كرائحتِك، متوهّجٌ وحُرٌّ كقمرٍ خارجَ المدار.
العالمُ لا يحتاجُني، يريدُ لو يقذفُني كحجرٍ صغير في محيط الأبد. العالمُ لا يُطيقُ تصوراتي. عنيدٌ ومقاومٌ حتى آخرِ قصيدةٍ في حقيبتي. إننا متكافئانِ في الشراسة. متعادلانِ في الرغبةِ بأن يستمرَّ الصراعُ حتى النهاية.
تعالَيْ معي. إني أعرفُ اندفاعَك. أعرفُ رعونةَ عينيكِ وحريةَ عطورِك. أعرفُ قلبَك الصريح. متوهجًا وحرًا كقمرٍ خارجَ المدار. أعرفُ أننا لن نهزمَ العالم. لكنه لن يهزمنا أنا وأنتِ. إن واحدًا منا سيسقط. فيما سيغادر الآخرُ دونَ كلمة. مرصعًا بالصورِ، والأشعارِ، والخواتم، والقبلاتِ الشهيةِ الكاملة.
«4»
حبيبيَ مؤلمٌ كالجَمَال، مريعٌ وهادئٌ كبحرٍ يواعدُ قصيدةً. يأخذُني في مظاهرةِ الأنوارِ واللافتات، في الشوارعِ التي لا تكترث لنا، تعبُرني كلُ إشارات المرور، وأنا أقبضُ على يديه كطفلةٍ تتكشف الحبَّ خارجَ المنام.
خذني أيُها الليليُّ، يا عشيقَ الخمورِ والمواعيد، أنا لا أحتملُ وجودًا دونَ أنفاسِكَ، وأحلاميَ بلا أهدابٍ لأتبعَ عينيكَ فوقَ سطورِ جسدي.
خذني أيقونةً في عينيكَ، أو رائحةً تبلِّلُ الوسادات.
خذني مؤامرةً على خوفِكَ، أو ضياعًا يهددُ الكسلَ في دمارِك، حريقًا لكي تمزقنا القصائد.
خذني بقوةِ العواصفِ، ورهافةِ التنهدِ، بالشغفِ الذي يعطّلُ الحياة، ويجعلُ الموتَ أكثرَ أنوثةً من الحرير، أكثرَ حريةً من الجبالِ والفضاء.
«5»
عندما تودّعينني تضيعُ انتفاضتان، وقصائدُ وضعتُ فيها خلاصةَ عبقريتي، وأمواجٌ من الدّمِ الأحمرِ كانت ستواصل هديرَها في روحي، وشوارعُ ركضنا خلالها خلفَ نجمةٍ، ولم نتعثر مرةً، أو نختفي في الدخان.
أعرفُ أن حياتين لا تكفيانِ لكي أعيش، وأن مدينتي لن تفكَ قيودَها قبلَ وقتٍ طويل، وأن أحلاميَ أثقلُ من الفضاء، لكنْ.. عيناي تجازفان بالنظرِ إلى عينيكِ البعيدتين، فأرى طفولتي بكاملِها، وأرى قصورًا باذخة، أرى أسرّةً تطيرُ في الهواء، ونهاراتٍ تليقُ بشاعرٍ طائش، وأزهارًا تُساقُ سعيدةً إلى مذبحِ الشهوة.
«6»
قل لي، يا معجزة من السُكْرِ والتشرد، لماذا أضفتَ القصائدَ في مزيجِ روحي؟ لماذا تنقلتَ بين الكتبِ، وخرجتَ من ملحمةٍ صغيرةٍ لتجتاحَ رغبتي؟ قل لي هل ستأتي ملطّخَ اليدينِ، وقد تركتَ في كلِ شارعٍ علامةً تدلُّ عليك؟ هل سنتحابُّ من جديدٍ تحتَ أجهزةِ التنصّت؟ ونشربُ برفقةِ الجواسيسِ والهاربين من السجون؟ هل تقدّرُ المقاهي غيابَنا وسيرتَنا؟ إنها لا تملُّ سماعَ الشعرِ، لكنها لا تحزنُ أبدًا لغيابِ القصائد.
أنا ملكةُ الهمهماتِ والضوءِ الخافت، قصيدةٌ من حريرٍ تنتظر لكي تصنعَ منكَ حريقًا، أنا الوحيدةُ الواقفةُ في يأسِك، ومن أجلِها تولدُ القصائد. تعالَ كما كنتَ، وكما كان العالمُ، تعالَ
بتحضرك وبربريَّتك
بطلَّتكَ التي تُبهجُ المقاعدَ
وحصارِك الرهيف
لكلِ نوافذِ الجسد.
«7»
إن فمي يتذكرُ أنَّ نُدبةً تركتْ غموضًا فوقَ صدرِكِ، وأظافرُكِ التي علمتني اللهفةَ، لم تزل خطوطُها محفورةً فوقَ ظهري، كان الرصاصُ يعبُرُ في هتافِك، لهثتُ لأنقذَ القتلى، بينما تجمعينَ الأحجارَ في الميدان.
وكنتُ أحبُّكِ والموتُ ساخنٌ فوق كتفي
أحبُّكِ
والشوارعُ مزهوّةٌ بدمِ الحبيبات
أحبُّكِ
والعالمُ لا ينتظرُ اعتذارًا عن إقامتي وصخبي، التماثيلُ لا تعرفُني، والعشّاقُ يجمعونَ تذكاراتِهم من عبوّاتِ القنابلِ وفوارغِ الطلقات.
مَساءُ الخَيْر أيُّها الموت
مَساءُ الخَيْر أيّتُها الحرية.
«8»
حبيبيَ طاقةٌ من نفادِ الصبر، لا تشغله العادات، ولا يعرفُ اللصوصُ أينَ يخبئُ ابتسامته، غضبه باتساع العالم، وثورته تبدأ من دمي، ثم تغمرُ الميدان، ولا تنتهي بالموتِ تحتَ العرباتِ المصفحة.
اقتربْ من الفردوسِ، ولا تسألْ: متى تنتهي المعارك؟ متى يحينُ الحصاد؟ متى ينقادُ العالمُ أمامَ رغبتنا؟ متى تأتي الغيومُ التي تجعلُ الساحاتِ أليفةً؟ والمقاهي التي سئمتنا، متى نستطيعُ أن نكتبَ فيها قصائدنا الأولى من جديد؟
أنا كوْنٌ إيروسيٌ لا تحدّني الكتابةُ، هنا أؤسسُ ديانتي، وعرشي الذي تُزيْنُه الرغبة، يطفو على سريرِ العطايا السخيةِ والنعاس.
«9»
إيثاكا ليست مطلقَ الحبِ، ولا مطلقَ الحلمِ، أو مطلقَ الحياة. ليست طالعةً من خيالٍ كما تصوّرنا. ففي كل زاويةٍ، في كل مقهىً أو شارعٍ، وحتى في السجون، إيثاكا جديدةٌ تخصُّنا، لم يبحرْ إليها أحدٌ، ولا اشتهاها محارب.
هنا يا جميلتي جنتنا المليئةُ بالجنودِ والمخاطر، المحاصَرةُ بالعصاباتِ والعملاءِ والانتحاريين، أنا شاعرُها، وأنتِ عيناها الطافرتانِ بالموسيقا، المشبعتانِ بنزْفِ الكبرياءِ ونصاعةِ البراءة. سنجعلُها حرةً من الوقتِ. نؤلُمها لكي تعترفَ بنا. ونغني لها قبل أن ننام. وعيونُها مفتوحةٌ على محبتنا.
شكرًا لضحكتِكِ التي تجلبُ الأساطير إلى غرفتي.
شكرًا لصوتِك
الذي يزرعُ الطفولةَ في دمي.. وفي موتي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من ديوان (يـارا) للشاعر محمد رياض،
يصدر قريبًا عن دار روافـد للنشر