مختارات من “خطوط الضعف”

مختارات من "خطوط الضعف"
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

علاء خالد

أى مسافة للبعد عن شىء ما، هى أيضا مسافة للخوف. خوف من نوع آخر، لنقل الصدام الوشيك إلى مكان جديد، سيتغير فيه الطرفان، لأستقبل ذاتى فى مكان جديد وعبر وسائط جديدة. ماذا أفعل وهناك أشياء مازالت تخيفنى؛ الظلام، وتجسد الموت. وأن أفقد روحى فى مجتمع لن يحافظ عليها، أو داخل إنسان أحبه.

ماأعتقده أن خوفى لم ينشأ من دونية طبقية صافية كأهل الواحة. دونية صنعتها الجغرافيا، وجعلت للآخر مواسم للصدام، وأيضا للاستفادة. بل نشأ من دونية أخرى بعزلة اخرى، وسط الناس،صنعها الاختلاف بيننا، وجعلت الآخر غير مرئى وكثيفا فى آن. إلا فى أحيان قليلة، إلا فى فترات عُكس فيها الميزان؛ فترات التميز: التفوق الدراسى، وعندها أستمع لهموم وقصص حب أصدقائى من بعيد. وأى حضور لهذا الآخر، الأنثى مثلا؛ هو عبور بلحم تكوينى وصدام مرعب من أجل مكان لاثنين.والآن لم يعد خوفى طفوليا، من أجل تواطؤ بسيط لأرضى عن مقتنياتى أو لأزيد المسافة بيننا، بل كطاقة هامة للتعجيل بنمو الذات أو موتها إن كان فاسدا. هو خوف للمستقبل.

****

لم أتخلص من الخوف لأنى لم أحب نفسى بصورة جيدة. تعاملت معه كعدو، ولم أتعامل معه كصديق لكل منا نصيب فى الآخر. استخدمت القسوة مضطرا، كتابع من توابع القهر ومعاداة السلطة، وفى جزء منها كان يعيش تاريخ الرجل السلطوى، بمعنى أنه سيظل سلطويا إلى الأبد وستظل جذوره خافية عنه. استخدمتها ضد مظاهر للشخصية كنت أكرهها فى نفسى، وأود لو أتخلص منها ” بالموت”. مظاهر تكونت كغياب للمرأة أو حضورها كأصل أمومى مقدس؛ أو كحاجة مزمنة ليس لها القدرة على أن تتعدد وتتجزأ وتبطل مفعول تدميرها، برغبتها فى أن تحافظ على الإنسان الذى عاش داخلها وأصبحت جزءا من تكوينه. وأيضا استخدمتها ضد مظاهر للشخصية كنت أحبها فى نفسى، وكانت تدعم وجودى طوال سنوات الحاجة، وأيضا ضد الخوف الفطرى لعائلتى، وحسابها الدقيق للغد.

كأنى اخترت القسوة كسلاح لن يبعث الأنوثة- المرأة إلا للتخلص منها اجتماعيا وإحيائها كأصل خفى، لتتساوى الكفتان فى غياب المادة، الجسد الآخر، وجسدى أنا. كأنى اخترت وعيا مفتوحا لقمعها مؤقتا لأتفرغ على أى أسس تقوم شخصيتى، لأتعامل مع الحاضر ومع الذى مازلت أملكه وأملك ماضيه بوضوح من حس وحركة وأصدقاء وعمل وصباحات ورموز حية.

كانت القسوة سلاحا للإزاحة، من اجل اكتساب أراض جديدة فى الذات، وأيضا للإيمان بأراض ناقصة. كانت سلاحا للتصنيف ولو لم يكن متوافقا معى لنقل الصراع فى غير أرضه.

كانت القسوة هى الجانب المعطَّل من الحب.

إلى أن أمارس القسوة بأصلها الوجودى، بأصلها الذى تكونت به، وسياقها الذى عاشت خلاله؛ كقسوة ذاتية: كحب لم يكتمل من قبل.

***

كنت أبحث عن غياب مادى للآخرين غير الموت. غياب مؤقت لم أعرف كم كان سيطول زمنه. وكما تعمدت أن أتغافل عن الله لأرى الأرض التى أتحرك عليها والصباح بدون ضوء سماوى. كنت لاأريد أن أحتمى فى دفء لاأحتاجه، ولا لأحد أن يستثمر خوفى من أجل أن أحبه. الجسور موجودة، لم أكتشفها تماما، ومازالت صالحة لعبور دماء نوعية، من فصيلة نادرة. أحاول فى أماكن أخرى. واكتشافها جميعا لن يتم إلا بعد انتقالنا كمادة حية فى هذا النسيج الكونى. إلا بعد تحولى، بعد أن يبعث مجتمع الداخل من الموت والنسيان ويطفو على سطح جسدى، بألوان مختلفة. ليست مقايضة من أجل الحب، ولكن تسليمى بهذا الحب سيفرض وجود ثالث غائب بيننا، ليرعى هذا الالتزام الأخلاقى. وقاع البئر ” لطبقتى” وكل من سأحبه، مازالا قاصرين على أن يحلا مكانه. تهديد دائم، وكأنك توجد لجسدك، مختارا، مركزا بعيدا، وإن كان من قبل هو الداخل وطفولته، وبعثهما كلحظة وجودية تختار فيعا إلها خاصا ليخلصك؛ فهو الآن من صميم المخاوف التى حاربتها. لم ينضج الخوف، لذا لم ينضج الغائب الذى حاربته لأحدد مايعنينى من الخوف. وبينى وبين من سأحبهكعهد مستقبلى لحصر هذا الغائب: الشاهد؛ بإفساح مجال بيننا لتحققه، بعلامات من تطابق عقارب روحينا وجسدينا، بتنظيم ومراقبة والسهر على الخوف فى صوفية جسدية، وأكثر رحمة. لن تجد الذات المتمردة طبقتها جاهزة، أو خطا صاعدا للتمرد، فقط لتوسع من أرض وجودها وتعمقها. وأخشى أن أتحول إلى ذات طبقية، بالخوف التقليدى للطبقة.

***

والآن ضمن ماحصّلته عن نفسى، لن يُبعث تاريخ الأنوثة التى تعنينى، لأنها كانت السياق المغناطيسى لكل الرموز التى اجترحتُ بها ماديات مؤلمة مع الحياة. كنت فى حاجة لأن أحب أحدا، وأن أحدا يحبنى، بتساو عاطفى كأنه صدفة ضرورية. فسخّرت كل طاقات الجسم ورموزه لصالح تلك المعادلة ونسيت سياقات أخرى كتفوقى الدائم فى الدراسة وحبى لكرة القدم وموهبتى فيها. لن يُبعث تاريخ الأنوثة التى تعنينى والمغفل عنها كمكان، كان ذاتيا، ومن ضمن أماكن أخرى، يتحقق داخله اتصال طرفى الجسم لمواجهة حقيقية مع جسم آخر، مع الخارج. ومادام البعث هو أصل الوعى : الرجوع به قبل نقطة البدء، بالكتابة التى اخترعتها كصدفة ضرورية؛ لتتحرر مخاوفه من جذورها الأحادية. لن يُبعث تاريخ الأنوثة إلا بنفس النوع؛ بأنوثة أكثر قسوة، باكتشاف مشترك، كمكان جديد من ضمن أماكن أخرى لتلقى وممارسة الحياة. ليس فقط ” الهزيمة المنجزة” التى تجعل الجدران والأبواب تتزايد فى الطريق.

للحياة التى تكونت قبل أن أعرَّف نفسى، وعليها أن تُمارس بهدوء، بعد أن تعديت الحاجز الذى تُطحن وتتألم فيه الذات، والذى عرَّفته جيدا بالكتابة وبعلانية مستفزة. أنا بعد ذاتى التى أعرفها، بالقرب بمسافة من الأخلاق التى تكونت ضمن سلطة الرجل، والحرب مع الأب. بالقرب من تضحية أمى، كانت من أجل آخرين فاقدين لموهبة التساوى مع الحياة. ولكنى اقتسمت أخلاقيات التضحية مع أمى، وعلى أن أسدد الدين بعلاقة مجدية معها، بتخل. وأى تضحية سابقة هى تخل بدون ثمن، ولكنه الآن تخل من فائض وليس من أجل الرغبة فقط فى حفظ البيت من الضياع. فى حفظ خيط الود بين الأب وبين أخى الذى يكبرنى بسبع سنوات؛ تخل ليس من أجل الخوف.

لحياة خلف العقاب والخير والشر، حيث كانت تُخزَّن بدون طموح فى سلطة ظالمة أو فى ذكورة لن تجد لها سياقا إلا فى ارتفاع الصوت وفى تعصب إلى جهة واحدة فى الرأى ومائدة الطعام. حتى أنسب جسمى” لكينونته” المعطَّلة، ليس فقط كمقهور، كمصدر من ضمن مصادر الطاقة؛ بل كفاعل بدائى يتلمس الحياة.

وأى موت سيصادفه هو إضافة لموت أكبر يسرى فى نسيجه وآمن به: الفقد. وفرة فى الموت. وأى أنثى تعتريه لن تتوه، أيا كان نوعها، هى تهديد لأنوثة سلطوية فى الخلف ودحض لها وتوسيع لمكانها، والطرق على أبوابها بالرغبة. وأيضا أنسنة للتضحية كأخلاق تلقيتها من البيت، كمصير كان لابد أن أصادفه. وأيضا تهذيب للميزان الذى كان دائما خارج العدالة، فى علاقات سابقة ونشاطات سابقة ومناهج للتفكير سابقة. المهم أن تتسرب الأنثى ويكون لها نصيب فى فطرة الوعى، أن يكون لها خاصية عبور الحواجز: لتشابه واتساق يظل العمود الفقرى، فى أى محاولة لاكتساب الوعى، بين كل الماضى العبء ولحظة الاستنارة، لو كانت حقيقية. أو أصبحت الحواجز متضمنة داخل الوعى، أصبح الماضى جزءا حيا من الحاضر. وأمام كل من يحبنى، الآن، خريطة جاهزة بالعلامات السوداء، بكل خطوط الضعف.

فطرة الوعى التى حاولت أن أستردها كبدائى حديث، فى علاقتى مع الحياة، بدون جذور منسية، بل مؤجلة، أو استردها بقِدَم متساو، بلحظة مستوية بيننا، أنا والحياة. أو هكذا أحلم بها. كنت لابد من أجلها أن أتخلى مؤقتا عن زمنى الخارجى لكى ألتقى بجذورى فى أرض بيننا، فى زمن بيننا.

ــــــــــــــــــــــــ

دار شرقيات- 1995

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

خالد السنديوني
يتبعهم الغاوون
خالد السنديوني

بستاني