لا أعرف لماذا يناسبني شكل الرواية القصيرة، ربّما لجمعها بين خصائص القصة والرواية. فهذا الشكل يتطلّب الكثافة التعبيرية من جهة، ويعطي فرصة للتدفُّق الموجز ـ إن صحّ التعبير ـ من جهة أخرى. إلى جانب أنّ هناك نماذج عديدة في الرواية القصيرة أثَّرت في عقلي بقوّة، أذكر منها «إخطيَّة» لإميل حبيبي، و«مخلوقات الأشواق الطائرة» لإدوار الخراط، و«يوميّات كتابة قصة» لخوليو كورتاثار. شكل الرواية القصيرة شديد الإحكام، ويتطلّب ـ وهذا أحبّه كثيرًا ـ مهارات كتابية يسمّيها بعضهم بالألعاب الشكلية، وأنا لا أعترض على التسمية طالما لا يُقصد بها أحكام قيّمة. من ضمن المهارات الكتابية، مثلًا، المزج بين هموم القصة الدرامية كما يحكيها الكاتب وبين هموم الكتابة المهنية البحتة التي من المُفترض ألّا يعرضها الكاتب داخل حكايته. لكنّني لن أنفي التفضيل العاطفي المحض الذي يتمثّل في كوني أحبّ هذا الشكل القصير حتّى إذا لم تتوفّر لديّ الحجج الجمالية، ففي النهاية الحجج الجمالية لاحقة على التفضيل العاطفي، إنّنا نختار بالقلب والعاطفة والانفعال، ثم نجد المبرّر العقلي بعد ذلك. شيء أخير دفعني إلى الرواية القصيرة، وهو شيء هامّ. أخوف ما أخافه هو الإطالة على القارئ، إنني أذكِّر نفسي دائمًا بهذا الرُّهَاب، كُنْ غامضًا ولا تكنْ مملًّا. الشيء الوحيد الذي أخافه في الكتابة هو أن تكون مملّة، ولهذا أعتمد المُفاجأة الدرامية في الكتابة، وهي للحقّ أضعف من المُفارَقَة الدرامية. أنتَ مع المُفاجأة أمام موهبة الكاتب العارية من أيّة تحصينات، المُفاجأة في الدراما هي من جنس المُقامَرة، يا صابتْ يا اتنين عُور كما يقول المثل العامي. كافكا كان يعتمد المُفاجأة الدرامية، كذلك ديستوفسكى، والعظيم إدجار بو. القارئ مع المُفاجأة لا يستطيع التنبؤ بشيء، فقط يتلقّى الضربات من الكاتب، لا يملك سوى الانفعال.
عندما تزهد الذات في الوطن والتاريخ والجماعة والسياسة والقضايا الكبرى لا يبقى أمامها سوى الانحطاط في ظرف وجودها الفردي وزمنها الخاصّ. من هنا تأتي وحشيَّة التفاصيل الصغيرة التي تلتهم السرد. ففي كتابي الأول “تدريبات على الجملة الاعتراضية” اعتمدتُ تفصيلة جدّ تافهة بشكل استراتيجي على مدى الكتاب كلّه، وهي الجملة الاعتراضية بكلّ تداخلها وانعكاسها على نفسها، وكأنّها مرآة تُضاعِف وجودها، أو هي جملة تشبه صندوق الهدايا الشهير الذي يحتوي صندوقًا أصغر، والأصغر يحتوي الأصغر منه، هكذا إلى ما لا نهاية. الغريب أنّ الجملة الاعتراضية ضعيفة بلاغيًّا في اللّغة العربية، وكان استخدامها عند القدماء والمحدثين محدودًا، على اعتبار أنّها جملة فرعية، لا يصحّ للبليغ أن يعترضه شيء وهو يقيم أودَ الجملة الأساسية. كان هذا الاختيار الاستراتيجي وهو اختيار استراتيجي لكنّه قابل للخرق والانتهاك والخيانة ويخضع في النهاية للحظة الكتابة الفعليَّة، وهذه اللحظة غير مشروطة بشيء، بل قد تُعَمَّد بين يديها أكثر الأساليب تقليدية، وقد نغفرُ تحت هيبة صدقها سولافيَّة ديستوفسكي وشوفينيته وعنصرية نيتشه ورومانيته- نفيًا للبلاغة والفصاحة. كان انحيازًا للجملة المُترجَمة الهجين التي قرأنا بها بروست وجويس وإدجار بو. كنتُ على اعتقاد ، وما زلت، أنّ الأساليب الأدبية غريبة داخل قواعد وأصول اللّغة. إنّ الأساليب الأدبية بمثابة فيروسات تضرب أساس اللّغة.
أطلق برودون الفيلسوف الفوضوي في القرن التاسع عشر صيحة العدالة الاجتماعية “الامتلاك سرقة”. كانت الصيحة هي الوقود العاطفي لكلّ الماركسيّات العلمية. أستطيع بالمِثل إطلاقَ مُصادرة شاعرية فيما يخصُّ الكتابة بقولي “الكتابة مرض”. التكرار في كتابي “مرآة 202” تلفحه تيارات العصاب، لكنَّ هذا التكرار من جانب آخر ينفتحُ على ألعاب درامية وأسلوبية. البطل عماد نراه بضمائر مختلفة، ضمير الغائب وضمير المُخَاطَب وضمير المُتكلم. كان حرصي على ثبات الحدث الدرامي، أو إذا شئتَ القول: حرصي على شحوب الحدث الدرامي إلى أقصى درجة ممكنة في مقابل الثراء والتنوع لصوت الراوي. هناك في الكتاب مقاطع نثرية تبدو غامضة في سياق ضمير الغائب، ثم تُستعاد مرة أخرى في سياق آخر بضمير المُتكلم، فيزول غموضها، وتلقي ضوءًا بأثر رجعي على مكانها الأول، بحيثُ يشعر القارئ برغبة في الرجوع إلى سياقها في ضمير الغائب، وكأنّه لم يقرأها كما ينبغى، وكأنّ رجوعه سيُضاعف في المعنى. هذه هي شفرة التكرار التي تدور في كتاب “مرآة 202”. هناك على طول الكتاب مونولوجات داخلية وأفكار باطنية، عابثة وعدمية ومُدققة في أشدّ التفاصيل تفاهة، تصير هذه الأشياء واقع شخصية عماد الذي يولع بتوليد أفكار من أخرى، وتحويلها إلى طريقة تفكير ورؤية للعالم. ما يبدو للجميع على أنّه مُصادفَات قدرية وتناظرات وتماثلات لا تعني شيئًا سوى أنّها تحققتْ، ينظر عماد إليه نظرة أخرى. في كلّ النصوص سنجد طرفين يُؤسَس لهما، طرف جاذب للانتباه بطبيعته، في كونه يحصد فكرةً جادّة ومثيرة وهامّة، وطرف آخر هامشي وبعيد وتافه، في كونه محض تفصيلة ما تلبث حتّى يزداد حضورها وتتضخّم لتصير هي الأصل كاسرةً توقُّع القارئ الذي ظلّ طوال الوقت مع الطرف الأول الجاذب للانتباه والجدير بالحضور والتضخم. فبينما نُهيّئ أنفسنا في قصّة “سنوات” لحدثٍ مثير يتذكّر فيه عماد صديقة ميتة زارته في حُلمٍ بعيد، وهو يمسكُ بيديه صورة فوتوغرافية تضمّ الصديقة مع زوجته، ها نحن نواجه فكرة الشيخوخة والموت والزمن، ونُهيّئ أنفسنا للدخول في مجموعة من العلاقات، فإذا بعماد يدير ظهره لذلك كلّه لينصب تفكيره على التراتبية الرقمية الخاضعة للمصادَفَة فقط التي تتمثّل في عدد السنوات التي تفصل حلمه بها عن تاريخ موتها، والسنوات التي تفصل عمره عن عمرها، ثم السنوات التي تفصل عمره عن عمر زوجته، ثم السنوات التي تفصل عمر زوجته عن عمر صديقته. ونتيجة هذا التأمل هو صعود الثغرات والفجوات الزمنية المخيفة لمن يتملّاها والحافلة بشفرة معقّدة، على حساب الطرف الكلاسيكي المُعتاد في الأدب.
في الحقيقة لا ينتابني السأم والملل من طغيان الرؤى الكابوسية والعنف والأحلام على أعمالي. أجدُ نفسي دائمًا أثناء الكتابة على مسافة من الكوابيس والأحلام والعنف، لكنّني لا أحقّق ذلك في كلّ مرة، ويبقى وعد التحقيق في مرة لاحقة، لهذا فأنا أشعرُ بالإطراء من وصفكَ لتلك الأعمال بالكابوسية. هذه ليست مُصادرة تصديق على سؤالكَ ـ وربّما اتهامكَ ـ الغرض منها قلب العيوب مزايا بل هي مُصادرة فرحة عميقة مفادها أنّني اقتربتُ خطوة من سلب الحياة عبر الكابوس والعنف والأحلام. سيبدو مؤلمًا لي فقط أنّ نفي الحياة في كتاباتي يخلو من السعادة والتواطؤ وشرف وضع مسمار صغير في نعش ما اصطُلِحَ على تسميته بالإنسانية، إذ يتوق الكاتب أحيانًا إلى شرف وضع المسمار الصغير، ومع هذا يبقى بعيدًا، وتبقي مُحاولاته شيئًا مُنفِّرًا ساقطًا لا يرقى إلى الوصف، وإلى أن تأتي تأكيدات أخرى من غيركَ، فأنا هذا الكاتب المُنفِّر الساقط الذي لا يرقى إلى الوصف.
تمثّل لي الذهنية الرافد المُجاور المُطمئن لما أغرق فيه أحيانًا من العاطفية الشديدة التي يحكمها الشطط. لن أنفي الذهنية عن أعمالي، لكنّني أضعها في سياقها الاستراتيجي بجوار العاطفية، وهما رافدان ليسا في حالة صراع بل في حالة تجاور، في حالة فُصام بالمعنى السيكولوجي للكلمة. إنّني أُفضِّل نزاهة وحدَّة التجاور في العمل الفني على خداع وزيف الصراع. إن مَنْ يكتب في وصف انْفلات القمر من السُحب المتراكمة “والقمر المُقاتل بضوءٍ مسلولٍ جحافلَ براثنها دُفِنَ في أبد الساعات المُتبقية من الليل” يكتب أيضًا بنوع من الفُصام عبارة طويلة مُتكلفة تأتي على لسان بطله بضمير الغائب مفادها التعبير عن فشل في الحب “التغيير الذي تمنّاه ولم ينطق به هو أخذ الأمر هذه المرّة بصفات مناقضة للصفات التي تم عليها في المرات السابقة دون الإيحاء بأنّ الصفات الجديدة تتمتّع بوجاهةٍ تفتقدها الصفات القديمة إلّا إذا خرجتْ منه إيماءة التفضيل خفيَّة مموَّهة تمامًا على وعود التغيير”. عبارة غارقة في العاطفية وأخرى مُجاورة غارقة في الذهنية.
أعلنت مرارًا كوني ممارسًا لنوعين فنيين، هما الأدب والسينما، وأنّ هذه الممارسة تجد معناها الجمالي في الإزاحة الدائمة، وأنا في نوع فنيّ، على النوع الآخر، بحيثُ تبقى القيمة في استدعائها لكلّ حيل وألعاب النوع الغائب.
قد يكون حقيقيًّا أنّ ما ينقصني أدبيًّا أقوم بتعويضه سينمائيًّا وأنّ ما ينقصني سينمائيًّا أقوم بتعويضه أدبيًّا. لكنْ دعني أدافع عن موت المشهد الدرامي العظيم في السينما والأدب على حدّ سواء. إنّ موت الدراما لا يتطلّب منّا كصُنَّاع مهنة سوى بعث شبحها الذاوى. إنّ الشظايا والنتف والمِزَق الدرامية ليستْ رفاهية اختيار وطموحًا مُتعجرفًا لبلوغ تجارب قصوى في السينما والأدب بل هي انسجام مع تاريخ الدراما الطويل. مَنْ يستطيع الآن أن يطمح في خلق المشهد المجتمعي المُعقد الذي خلقه بروست في “البحث عن الزمن الضائع” ومَنْ يستطيع التراجع عن موت المشهد الدرامي الذي صنعه أنطونيوني في “بلو أب”. إنّنا محكومون بالتجارب القصوى.