أحمد ثروت
ملمح بدائي
تلك أجنحة الخيول بيضاء، دافئة كالبنفسج، تسعني بالكاد، تسع الكون كلّه، خفّاقة في هدوء، وذلك الوجه المنمنم أبيض حاد. تنّزلت أعلاه شعيرات الرأس الناعمة، لتسقط إحداها فوق عينه البُنية اليسرى، فيزيحها خنصره الدقيق، ثم تعود راحته الصغيرة سريعاً لتلتحم بذراع أمه، قمحية نحيفة، تصل آثار خياطة قديمة ما بين فتحة أنفها اليمنى وبداية شفتها العليا، فتبتسم نحو الطفل ليطمئن، كي تستمد من رجولته الغضّة سكوناً ما، علّهما يعثران بذلك الوجه الغائب، منحوتٌ فوق الذاكرة، وحدهَا والطفلُ الشقي كثير السباب كطفل مصري تدير المحل تماماً كرجل، كامرأة مصرية، ترتدي الجينز وتدق أخشاب البراويز الرفيعة، تُفاصل الزبائن أو تجادل مُدّرسة الولد في كونه ذكياً يسبق عمره، بينما جريان السطور الإنجليزية فوق الشاشات الخضراء يُذهل الولد، فيحاول فكّ شفراتها، رنين الإذاعة الداخلية يُعلن اسم الغائب مسبوقاً بكلمتي “زوجة السيد”، فيرتعش قلبها.
-بابا هنا.. بينادي علينا.
تحوم رقبتها في المكان، فتُشكّل سلالم كهربائية وأرضاً ملساء، تُشكّل بشراً بقطعتي ثياب بيضاء فقط، ساكنين يُتمتمون، يُلبّون نداء الر. تلتصق عيناه بالجسد الغائب.. استبدل “الشارلستون” بسروال داخلي أبيض رقيق.. استبدل القميص “المحلّاوي” بجلباب أبيض شفاف.. استحال الوجه القمحي الحاد أسمراً ممتلئاً.. و روزٌ لدن وسط الجسد تماماً.. احتضن الولد ..رفعه عالياً ثم قبّله.
-وحشتوني .
.
ملمح توضيحي ..
تصهل الخيل أن ” اصنع لنا أجنحة من عسل مُصفّى …”.. فانسال الارتياح بين خلاياه .. ذاب .. صراعاً خاضه ليُلحق الولد بالمدرسة انتهى بانتصاره …
لا نقبل أكثر من ثلاثة أجانب في الصف ..
و كان الولد يتساءل …
– هوّ احنا أجانب ؟!
كان ” أحمد منذر” السوري النحيف .. كان ” أكرم ” الفلسطيني ذو الوجه الأحمر .. و كان الولد ..
ملمح مدهش ..
آذان الخيول عالية عن الماء .. لا تصالح صفحته .. و مُدرس التاريخ غضب لأن ” عادل إمام” أكّد في البرنامج أن جذوره فرعونية .. و قال المدرس :..
-لا فراعنة … و لا عرب
حينها انفعل الولد .. فأصّر المدرس على إكمال حكاياته عن التاريخ الإسلامي ..و كان في وسعه تأكيد أن أسماء رؤساء مصر ” محمد نجيب” و ” محمد أنور السادات ” و أن “جمال عبد الناصر” كافر لأنه حذف اسم الرسول من اسمه ..فبكى الولد ..
-أنا أنادي ” احمد منذر ” يا ” منذر” …..
فابتسم المدرس ابتسامة حمراء أحاطت مادة التاريخ .. أحاطت دماغ الولد .. و تشكّلت كنزف يبحث عن شيء ما .. عن شخص ما .. عن مكان ما .. و كان حمّام المدرسة يختبئ فيه مع “منذر” و ” أكرم” .. يخططون أو ينفعلون ..
-نُلصق صليباً فوق إليته .
.
4-ملمحٌ انفجاري ..
لامعة أرض الغرفة كلمعان عيني ” مدرس التاريخ ” .. صفراء تلك الجدران كأسنانه .. وحدهما .. فلا ” أكرم” و لا ” منذر ” .. يُجلس الولد مقلوباً فوق الكرسي .. يربط أطرافه في هدوء بأطراف المقعد الخيزراني ..يحشو فمه قطناً و ثم يُلصق شفتيه “بالسيلوتب” .. غدا جلباب الولد الأبيض مختلطاً بصُفرة جسده .. فبدا كعصفور جزر أسطورية .. مزّق الرجل ما أسفل الجلباب .. فتقلّص جسد الولد كلّه .. مُبدداً انسياب الغرفة الصفراء .. كان في وُسع الرجل أن يركع خلف الولد .. يتلّمس الجسد المنمنم .. يُقبّله بشفتين كصبّار .. خفقات الجسدين تعلو دون صوت .. و لسانه امتد حتى النهاية .. لاعقاً اللحم الغضّ.. و مواء الولد يزيد حرارة المكان .. القطن انكمش بفعل اللعُاب الساخن .. فابتلعه الولد .. المواء حادٌ مرتفع .. فالتهب الرجل .. و قبض ذيل ثوبه بأسنانه الصفراء .. بِظهر الولد التصق .. فارتعش الجسدان .. نقاط دماء ضئيلة .. تمددت كخلية بدائية .. افترشت أرض الغرفة .. كيُنبوعٍ تفجّرت تدريجياً ……………………………
-ملابسك ..
الغُطرة – غطاء الرأس الصحراوي العتيق- هبطت فوق النزف .. امتصته .. ذاب بين نقاطها الحمراء .. ذاب الولد بين زملائه .. لا ” أكرم” .. لا ” منذر” .. بينما الخيول خرساء .. تُهمهم حوافرها حتى الانفجار .
.
5-ملمح مختلف ..
أقفاص الفاكهة الملون تحيط المكان .. مزدحم بالرجال و الخضروات .. ليست نتاج تلك الأرض .. فالصحراء لا تُنبت سوى القدرة على المسير .. و الرجال يرتدون طواقيهم البيضاء تعلوها ” الغُطر” بنقاطها الحمراء أو السوداء .. متحررين من ” العِقال” – ذلك الخرطوم الأسود الدائري- فالمكان مزدحم ..بلا هواء يُطيّر أغطية الرأس .. و هو في الوسط تماماً .. تقبض يده كف الصغير بينما أحاط ذراعُها ذراعَه الأخرى .. انطلقت عيناها بين ” التفاح الأمريكاني” و “الموز المستورد ” و ” البخارى ” …
-أُمّال الجوافة بكام ؟
-جوافة ؟
فسقطت عيناها فوق حذائها الأرضي .. خَجِلة من سؤالها المُنبئ عن ريفية خصبة .. كعذراء تسأل عن كُنه العلاقات الزوجية .. بينما يمشيان بين الكراتين و رجال الصحراء .. كعاشقين يتنزهان في جنة الخلد .. للحظة خفق جسدها النحيل ..فانزوت عيناه نحو معصمها .. كانت تطوي حبة فاكهة بين أصابعها .. بينما حطّت راحة البائع فوق ظهر كفها .. تلَمّسها في رفق .. ضغط فوقها .. ثم غمز بعينه الواحدة نحوها .. التقت نظراته و نظرات البائع .. ذلك الصحراوي القح .. الذي بانت أسنانه المُطعّمة بسوادٍ ما .. كانت ظلال أجساد البائعين تحيطه .. فألصق كوع زوجته تحت إبطيه .. و مشى .. هرول و زوجته و الولد .. تلاحقهم ضحكات الصحراويين .. تصفعهم فوق أقفيتهم .. تُدّلك أجسادهم في عنف .. بينما الخيل جائعة .. لا تجد سوى روثها .. فتلعقه في صمت
……..
6- ملمح عادي ..
ثلاثة مكعبات أسمنتية بألوان متناسقة ..و مساحات رملية واسعة .. يحيطها سور بيضاوي من أشجار النبق .. و كان الصف الأول المتوسط الفصل ألف مقسّماً بين ملعبي كرة القدم و السلة .. بينما الولد و “منذر” و “أكرم” في غرفة تنس الطاولة .. كان “منذر” و الولد يتبادلان الهزيمة و الانتصار .. يتفوقان على “أكرم” دائماً .. و هو مُحمّر الوجه .. سمين ذو حركة هامدة .. و الولد خفيف الحركة كالمنتصرين مثلاً ..
-عارف؟.. المصريين يِجِوا هنا منشآن يشحتوا ..
فتصلّبت يدا الولد .. التصقت خطوط رأسه و ارتفع حاجباه ..
-عارف ؟.. كل الخرايط مكتوب عليها “إسرائيل ” ..
فانكمش ” منذر” في ملابسه .. توترت دماغه ..
-عارفين؟؟.. بَلكي نصير كلنا عرب ..
لم يكن الولد قادراً على الكلام .. رافعاً ذراعه لأعلى خلف باب حجرة المدير .. يستمع لتفاهاته حول شكوى ” أكرم” .. يستمع لموعظة أبي ” أكرم” عن صفات الطالب المثالي ؛ و مقارنتها بصفات ابنه ..و جسد السمين يتقلّص .. ينّز عرقاً .. و مُهر صغير يحلّق .. قد التصق جناحاه بمنخريه ليمنع صوتاً ما .. كان صوت المدير حاسماً ..
-أبوك يستلم ملفك .
.
7- ملمح نهائي نوعاً ..
دوائر متتالية .. تضيق تدريجياً .. دائرة المباني يعلوها جنود العمليات الخاصة .. أسفلت الساحة الكبيرة ، انتشروا فيها بمدافعهم الرشاشة .. بأرديتهم الكابية .. حتى سطح ” المسجد الكبير ” و مئذنته اعتلتها تلك النقاط الداكنة .. و الحشد البشري متزاحم .. الكل متطلع نحو الكائن الأبيض .. نفس التكوين الإنساني ؛ لكنه أبيض زاهٍ .. راكعاً بزاوية قائمة .. و خلفه ذلك الزنجي العظيم .. لا اسم له غير ” مسرور” .. كالمسلسلات التاريخية تماماً .. و كأنه ابن سلالة لا تنتهي .. و الدوائر لا تضيق أو تتسع حول الأبيض .. ينغز الزنجي الرقبةَ بسيفه الذي بحجم الولد .. فيرتد الأبيض للخلف .. عندها ينشطر قفاه عن السلسة الظهرية .. كحيوان ملدوغ تنتفض الرأس فوق الأسفلت المحبب .. بينما الأبيض احمّر فجأة .. كان الحشد يرى الأبيض أبيضاً .. و كان الولد و أبوه يعلمونه أسوداً .. طويل كأعمدة الإنارة .. يقترب كتفاه من أذنيه .. مخلوق من مخلوقات خط الاستواء يتحدث السودانية .. كشمبانزي يحمل طفرة جينية .. الفواصل بين كلماته تُوقف رذاذ لسانه المندفع .. كان يتحدث بلا فواصل .. كان اسمه ” مالك” .. و لم يكن حزيناً بأي حال .. إنه الوحيد القادر على تبديد صمت الأسرة الصغيرة .. على إضحاكهم بلُغته المدغومة .. باهتزاز يديه الأطول من الولد .. تلك الاهتزازة العفوية المضحكة .. تلك الاهتزازة القاتلة .. قتلت الصبي المستهتر بسيارته الفخيمة .. و قتلته هو الآن .. قبله تذّكر قول الشرطي ..
-لا سعودي مستهتر .. الأجانب دوماً مخطئون ..
فتذكر الولد مدرس التاريخ .. و قال ” مالك” للولد ..
-ذات أيام جلسنا فوق الخازوق .
…
8- ملمحٌ ما ..
فرَسٌ كسحابة لن تمطر يوماً .. الأطراف أجنحة .. جناح نابت أعلى سلسلة الفرس الظهرية .. كهيئة “مالك” تماماً .. أسود شفاف .. و الولد مُهر يصّاعد .. الحشد أجساد برؤوس مدرسي تاريخ أو زنوج و سيارات فخيمة .. فاختلط صهيل الأفراس بقرقعة سيوف أسطورية .. و تنزّل صوت حينها أن ” خيولاً شفافة و أمهاراً مهقاء لن تُخلق أبداً ……..”.
…..
فبراير- مارس 2000