حاورها: حسين عبد الرحيم
س1 .. كيف تقيميين وجودك بكندا ؟
هناك شقان للهجرة، الأول هو الشق الأكاديمي، فقد هاجرت بهدف الحصول على الدكتوراة في الأدب المقارن والسينما وبعد الحصول عليها عرض علي العمل بجامعة أوتاوا في العاصمة الكندية حيث أعمل منذ 2006 كأستاذ للدراسات العربية والسينما. لقد تطور وعيي بشكل كبير بسبب الهجرة ونضجت كتابتي الأكاديمية نتيجة للاطلاع على ثقافات العالم في بلد يحتفي بها وهو وطني الثاني الآن: كندا. أما الشق الثاني فهو الشق الإبداعي، وكانت الهجرة فيما أعتقد سببا في تراجعه أو انحساره لسنوات. كنت في تلك الأثناء مشغولة بكتابة الدكتوراة، والحقيقة أني أيضا انشغلت عن الإبداع بالتدريس والترجمة. بين روايتي هليوبوليس وأكابيللا نحو اثنا عشر عاما، نشرت خلالهما كتابا عن تجربة الهجرة عام 2009 بعنوان للجنة سور. وعددا من الأبحاث الأكاديمية الهامة. الشق الإبداعي عانى بلا شك بسبب الهجرة، وبسبب المسافة من لغتي الأم التي أكتب بها، وبسبب انقطاع الجسور مع القارئ العربي. في هذا المناخ، كان من الصعب على أن أكتب بالعربية، ولذا حاولت الكتابة بالفرنسية وأنجزت رواية بهذه اللغة فعلا، لكني ما زلت مترددة في نشرها. تظل الصعوبة الرئيسية التي تواجهني ككاتبة مهاجرة تكتب بالعربية هي القدرة على مد جسور للتواصل المستدام مع القراء. فبالرغم من ترجمة روايات “دنيازاد” و”هليوبوليس” و”أكابيللا” إلى اللغات الأوروبية، إلا أن فرص التواصل بيني ككاتبة عربية وبين القارئ الغربي أو العربي المقيم في شمال أمريكا تظل ضعيفة جدا.
س2 .. ما هي رؤيتك فيما يخص الكتابة العربية وكذلك المصرية وكيف تقيميين صداها في كندا او الغرب الأوروبي ؟
بصفة عامة ليس هناك اهتمام بالأدب العربي في كندا إلا في حدود ضيقة جدا وعادة ما يأتي من داخل الجاليات العربية المقيمة في المدن الكبرى مثل مونتريال وتورونتو. ليس للأدب العربية مكانة كبيرة في شمال أمريكا على أية حال، بالمقارنة بفرنسا وانجلترا وألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية التي تخصص سلاسل كاملة لترجمة الأدب العربي.
س3 .. ليتك تعددين الفارق بين وجودك في الغرب الأوروبي والشرق المصري والعربي فيما يخص المجتمعي والسياسي والحياتي والنسوي ؟ وهذا من خلال تجربتك الذاتية وممارساتك العلمية والأكاديمية والحياتية ؟
أتمتع بحرية أكبر في كندا، حرية تفكير وتعبير واعتقاد، وهي حريات أساسية لكي يتطور عملي كأكاديمية وكروائية وأيضا كامرأة تحظى بالمساواة في مجتمع يحترم انجازها وعقلها وخبراتها الخ. كل مهاجر بين الشرق والغرب يدرك ذلك ويستفيد منه بأشكال متنوعة. الحريات الثلاث يتم احترامها عادة في المجتمعات العلمانية وهو ما نفتقد إليه في مصر والعالم العربي بسبب المد الديني من ناحية والقهر السياسي من ناحية أخرى. الفارق بين كندا ومصر فارق اجتماعي وسياسي خطير: كندا مجتمع قائم على الهجرة ومجتمع علماني كما ذكرت، يكفل حرية الدين ويدافع عن حق كل جماعة في الاحتفاظ بثقافتها في ظل القانون العام للدولة. الواقع في مصر غير ذلك، فما زلنا نعاني قدرا هائلا من الغطرسة القومية يقابله على النقيض قدر كبير من الاحباط وفقدان الأمل في التغيير، نتيجة لسيطرة التيارات الدينية على العقول وسيطرة المؤسسة العسكرية على الإعلام وعلى الحياة السياسية. أما فيما يخص علاقتنا بالغرب فمازلنا ننظر للغرب نظرة استهجان أو عداء وفقا لنظرية المؤامرة التي روج لها التيار الإسلامي لسنوات والتي يروج لها الآن التيار القومي العسكري. في كندا، هناك بالطبع تصورات وتخيلات عن الآخر الغريب، العربي أو المسلم، يختلط فيها الوهم بالحقيقة، وتتكاثر فيها الأكاذيب والدعاوى المغرضة، لكن حرية المواطن تظل مكفولة من الدولة وهذا فرق شاسع بيننا في مصر وبين المجتمعات الغربية بصفة عامة. العرب والمسلمون المهاجرون لا يعبأون كثيرا بتغيير تلك النظرة إلى الأفضل لأنهم في كثير من الأحيان لا يسعون للاندماج في المجتمع الجديد ولا يدركون أهمية التعامل مع هذا المجتمع بشروطه لا بشروط المهاجر المنغلق على ثقافته.
س4 .. ومع ما يقرب من الثمانية عشر عاماً في كندا كيف تقييمين كتابات جيلك التسعيني الآن أو صدى وخارطة ووجود . ما يكتبون .. مثال ميرال الطحاوى ، مصطفى ذكري ، منتصر القفاش ، سحر الموجى كذلك الجيل اللاحق عليكم ؟
الحقيقة أتابع قدر الإمكان كتابات جيلي من التسعينيات كلما سنحت الفرصة وأقتنى معظم ما ينشر حتى لو لم تتح لي فرصة قراءته لحظة نشره. أرى أن لهؤلاء الكتاب الذين ذكرتهم ولغيرهم مثل عادل عصمت ونورا أمين ومي خالد مشروعا أدبيا واضح المعالم ولكل منهم طموحه وبصمته الخاصة. أتابع على سبيل المثال كل ما يكتبه منتصر القفاش وعادل عصمت، بشغف واهتمام كبير بما يكتبان نظرا لأن مشروعهما الأدبي صادق ولأنهما يحاولان دائما تجاوز الوصفة السهلة. الجيل اللاحق علينا بمعنى من المعاني مستمر في حفر مسار له هو امتداد لما بدأه جيل الستينيات ثم جيل التسعينيات وإن اختفت كلمة “جيل” من المعجم النقدي الذي تناول هذه الأعمال اللاحقة. أتابع بشكل خاص كتابات محمد ربيع (كوكب عنبر، عطارد) وأحمد عبد اللطيف (إلياس) لكني لا أدعي القدرة على متابعة كل ما يكتب وينشر الآن لضيق الوقت وبسبب الإقامة خارج مصر.
س5 .. سفرك وإقامتك في كندا هل يطلق عليها هجرة أم دراسة أم منفى اختياري .. ليتك تحدثينا عن رؤيتك الذاتية والوجودية والإبداعية في هذا الإطار ؟
سافرت بهدف الدراسة وأقمت في كندا نحو أربع سنوات كطالبة دكتوراة وليس كمهاجرة، ثم قررت مع عائلتي البقاء في كندا لاستكمال الدكتوراة وتحول السفر إلى هجرة اختيارية، لا أسميها منفى، لكني أطلق على التجربة بعد مرور ثمانية عشر عاما من الإقامة في كندا كلمة “ترحال” أو “ترحل”. تظل الحركة مستمرة بين هنا وهناك بلا استقرار ولا دوام كامل، وهذه هي حياة المهاجر الجديد في عالمنا المعاصر. نشرت كتابا عن تجربة الهجرة والسفر من وإلى مصر وكندا بعنوان “للجنة سور” نشر عام 2009 في دار شرقيات. وهو كتاب يجمع بين اليوميات والقصة القصيرة والمقال، ويحكي عن تجربتي الخاصة كمهاجرة عربية وكأستاذة جامعية ونظرة المجتمع المصري للمهاجر وأيضا موقع المهاجرين في المجتمع الكندي.
س6 .. عن السينما وعشقك لها وعن حصولك على درجة الدكتوراه عن الحارة في السينما المصرية ــ ليتك تحدثينا باستفاضه عن علاقتك بالسينما . وكيف بدأ عشقك لها . وصدى تلك الظلال في كتاباتك الإبداعية او الروائية ؟
تعلمت من أبي ومن عمي تقديس الفن بكل أشكاله بلا انتقاء ولا غطرسة، فالعارف يقول لا أعرف كلما استغرقته المعرفة ومتذوق الفن ينفتح على أنماط متنوعة منه بلا حدود ولا ضفاف. لا تخلو إذن رواياتي من إشارات مباشرة للسينما والموسيقى ومن تداعيات وأحلام مصدرها السينما العالمية أو المصرية. السينما والفن التشكيلي والموسيقى الكلاسيكية فنون تتشابك مع الأدب ولها حضور قوي في أعمالي من حيث الاهتمام بتفاصيل المشهد البصرية والتقطيع الذي يحاكي أو يستلهم قواعد المونتاج السينمائي. هناك حضور خاص لتلك التشابكات في روايتي الأخيرة، أكابيللا، الصادرة عن دار شرقيات عام 2012 مما دعا المخرج تامر سامي لتحويلها إلى فيلم سينمائي سيتم تصويره في المستقبل القريب. في سياق البحث الأكاديمي، قمت بعمل دكتوراة عن صورة الحارة في السينما المصرية نشرت باللغة الفرنسية ثم ترجمت إلى العربية ضمن اصدارات المركز القومي للترجمة عام 2015. وفيها أناقش فكرة الهوية القومية وكيف تم التعامل معها من خلال الأنماط المعروفة مثل ابن البلد والافندي والفتوة ومن خلال تصوير المكان الاسطوري للحارة بوصفه مكانا واقعيا تنعكس من خلاله أحلام وطموحات واحباطات الطبقات العاملة والفقيرة والطبقات المتوسطة ذات الأصول الريفية النازحة للمدينة، وهو أيضا المكان الذي تتشكل من خلاله هوية قومية ساهمت السينما في تنميطها على مر السنين. التناول السوسيولوجي للحارة سمح لي بنقد النمط السائد وربطه في نفس الوقت بتاريخ مصر المعاصر وتاريخ السينما المصرية بشكل عام.
س7 .. ما هو جديدك في الأيام القادمة فيما يخص أعمالك الإبداعية ؟
لدي مجموعة قصصية تصدر قريبا بعنوان تسلل منظم، وتضم عددا من النصوص المنشورة وعددا أخر لم يسبق له النشر. كما أعمل حاليا على اصدار مجلد يضم الروايات الثلاث، دنيازاد، هليوبوليس وأكابيللا، يصدر عن دار شرقيات بمناسبة 25 سنة على انشاء الدار، والروايات الثلاث صادرة في طبعتها الأولى عن الدار في 1997، 2000 و 2012. أما الرواية الجديدة التي بدأت الكتابة فيها منذ عام، فما زالت قيد الاحتمال، وتحتاج لعامين للانتهاء منها وتدور فكرتها الأساسية حول فكرة البيت ومعنى الوطن.
…………
* نشر في مجلة الدوحة، يوليو 2015