محمود خيرالله: أفرح بالعُزلة ولا تبهجني المهرجانات الشعرية

محمود خير الله
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاورته: هبة إسماعيل

على الرغم من أن تجربته الشعرية لا تتعدى الدواوين الأربعة، إلا أنها من العمق بحيث تدل على روح شعرية مُثابرة، في ديوانه الأخير “كل ما صنع الحداد” الصادر مؤخراً عن دار صفصافة ينتقل الشاعر محمود خيرالله بتجربته إلى منطقة جديدة، يبحث فيها عن ذاته من خلال تفاصيل حياتية بسيطة.

الديوان يضم سبع قصائد هي: “يدي أسوأ مني، كل ما صنع الحداد، مثل سيارة مستعملة، عن عشرين إصبعاً ودمعتين، عالقٌ كقبلة، عمل ، أفضل ما يمكن أن يحدث لي”محمود خيرالله له من قبل ثلاثة دواوين هي: فانتازيا الرجولة ولعنة سقطت من النافذة، وظل شجرة في المقابر

هنا حوار معه عن ديوانه الجديد وعن رؤاه للمشهد الشعري في مصر..

لماذا كانت الكتابة عن خيبات وآلام الفرد والجماعة حاضرةً بقوة في كل أشعارك خصوصاً في قصائد ديوانك الأخير “كل ما صنع الحداد” ؟

ـ أنا من المؤمنين بأن قصيدة النثر ـ وكل شعر يهدف إلى الوصول العميق لقراءة الأشياء في العالم ـ عليه أن يقدم نفسه بديلاً عن  الدهشة التي يحركها الناس كل يوم أمام الشعراء، ما تسمِّينه أنت الخيبة والألم ـ وأسمِّيه أنا الدهشة ـ يكمن في اللحظات التاريخية التي تنهار فيها الطبقات الاجتماعية وتتحلل، لكن يحتاج المرء إلى سنوات من الشعر لكي يفهم هذه الحقيقة، أشعر أن آلامَ الناس هي بصورة من الصور آلامي والعكس صحيح، ويكون علىّ أن أتحمَّل المسئولية التي أُلقيت على عاتقي، كل شعراء العالم الكبار يحملون جزءاً ـ مهما كان ضئيلاً ـ من آلام المحيطين بهم في القصائد، رغم أنهم دائما يكتبون عن أنفسهم، ولا يسألهم أحد هذا السؤال أبداً.

هل تعتبر ذلك نوعاً من الالتزام الأيديولوجي مثلاً أم  بحثاً عن موقع للذات في العالم؟

ـ لا ، في الماضي كنتُ أظن أن المرء يستطيع أن يفعل ذلك بمجرد الإدراك العقلي لضرورته، الآن اكتشفت أن المعرفة بالعالم المحيط بي لا تكفي لتأمله، يقينا من الضروري أن ندرك العالم الذي نعيش فيه، لكن من الشعري أن نتأمل أنفسنا، وأن نكتب الخيبة التي يتوحّد فيها الآخرون معنا، كلما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، كأننا جميعاً ننظر في مرآة هائلة هي كل قصيدة تُكتب، أجمل الشعر هو الذي يأخذنا إلى هذه اللحظة، وأتمنى أن أكون فعلت ذلك في “كل ما صنع الحداد”؟

حملت بعض قصائد هذا الديوان رسائل مباشرة أحياناً، ألم تنحرف وتخرج عن الشعرية التي تحتاجها من أجل ما تسميه “الدهشة” ؟

ـ أشعر أحيانا أن المباشرة تصنع نوعاً خاصاً من الألم، وأن الشعر من حقه ـ على نحو ما ـ أن يصرخ،  لا تنسي أننا نكتب ضد العالم الرسمي الذي يدور حولنا وضد كل تياراته الرئيسية وثقافته، لا تنسي أننا أكثر أجيال الشعر العربي اختلافاً مع واقعهم ومؤسساتهم الثقافية، نحن الشعراء العرب الوحيدون في التاريخ الذين كان عليهم أن يعيشوا وسط أكبر كمِّ من الكراهية والحقد والتآمر ضدهم شخصياً وضد ما يكتبون، لقد تأكد ما سبق أن قلته ـ في شهادة ملحقة بديواني السابق “ظل شجرة في المقابر” ـ إن قصيدة النثر ضربت الشعر العربي قلماً على قفاه، ونقلته إلى منطقة أوسع دلالة وأرحب معنى، ساعتها رفض كثير من الأصدقاء الذين يكتبون قصيدة النثر هذا التعبير واعتبروه صادماً، اليوم تتعذب المؤسسة الثقافية الرسمية شوقاً لاقتناء ملتقى قصيدة النثر، وتصارع أمانة أدباء الأقاليم أمانتها لكي تعقد احتفالية ـ مشروطة بعجزها الكُلِّي وتخلفها العام ـ عن قصيدة الشعر الراهن، ما الذي يعنيه ذلك سوى أننا نجحنا في جذب المؤسسة التي تعاني الشيخوخة إلى منطقنا، بحيث أصبح من قبيل عجزها وتعاستها أن تستبعد قصيدة النثر، أن يتفرج العالم على الشاعر عبدالمعطي حجازي وهو يرفع جائزة منحتها له لجنة التحكيم التي شكلها بنفسه، بينما ينجح شعراء قصيدة النثر في استقطاب شعراء دعاهم حجازي على نفقة الدولة العام الماضي مثل الشاعر الكردي شيركو بيكه سي إلى ملتقاهم المستقل، لقد كان ذلك بتدبير شخصي مني، دليلاً على قوة حضور هذا النص، وعلى ضرورة أن يتحلى أحياناً بالصوت العالي، دون أن يتخلى أبداً عن صوته الهامس، أشعر أحياناً أن القصيدة تريد، مثلي ، أن تصرخ.

تدفع قراءة دواوينك الأربعة إلى الظن بأنك لست واحداً من قبيلة قصيدة النثر المصرية، أنت خارج السرب بشكل ما كأنك تصنع عُشاً في شجرةٍ بعيدة؟

ـ لا أدعي تميزاً بما أكتبه، أحترم تجارب الآخرين وأفعل ما بوسعي لقراءتها والتعرف إليها، أنا من الذين يبنون أعشاشهم ببطء، أخذتُ وقتاً كافياً لكي أستمع إلى نفسي، القصيدة الجميلة ليست هي التي كُتبت أولاً بل التي كُتبت أجمل، أشفق على الكثير من أشعاري السابقة، وأتحسَّر لأنني  تركتها تولد هكذا، لكن بعض أبناء جيلي ـ خصوصاً الأكبر مني سناً ـ تعرف إلى صوته مبكراً، وأنا تعلمت منهم دون شك.  

لكنك لماذا لا تشاركهم الصخب، قل لي كيف ترى الفرق بين قصائد جيلك؟

ـ لا أستطيع أن أدعي أنني قرأت كل تجاربهم بالشغف ذاته، لكنني أشعر منذ الديوان الأول لي أنني أمشي بمفردي في شارع طويل مظلم، اختار الكثير منا طرقاً مختلفة، أنا سعيد لأننا كلما كبرنا ابتعدت عوالمنا الشعرية أكثر، صرنا عوالم متباعدة، أشعر منذ البداية بهذه الروح التي ـ ويا للعجب ـ جمعتنا عند النقاد ووسائل الإعلام تحت لافتة قصيدة النثر، في البداية مشى فصيل وراء قصيدة الجسد، وكنت لا أستطيع إلا أن أحسدهم، تربيتي المتحفظة ـ ربما ـ ذكرتني بأن الجسد ليس فقط هو النصف الأسفل، رغم أهميته وضرورته، وحين كتبتُ عن جسدي تذكرت يدي، التي صارت أقدم مني، بفعل ما تعرضت له من تجارب، أعترف أنني أحببت بعض حدائق قصيدة النثر المصرية، لأننا في النهاية محض بستانيين “غلابة”، و”على باب الله” إلى أقصى حد.

مَنْ الذي أبعدك عن احتفاليتيْن كبيرتيْن لقصيدة النثر، رغم ما بينهما من شقاق، إحداهما في اتحاد الكتاب والأخرى في نقابة الصحفيين؟

ـ أنا .. لأنني بحاجة إلى قصيدتي الآن أكثر من أي وقت آخر، لدي ديوان جديد وأشعر بالمسئولية تجاهه، لقد فقدتُ خمسة أعوام لكي أكتب أربعة وسبعين صفحة، من القطع الصغير، حين أمسكت النسخة الأولى منه ـ وهو صادر عن دار صفصافة ـ شعرتُ أنني أرتجف من الفزع، فبين سطور هذا الكتاب الهزيل يسيل عرق السنوات المعتمة، عرفتُ أنه لن يبقى غير هذه اللحظة، في ملتقى قصيدة النثر العام الماضي ـ حين كانت اللجنة التحضيرية تضم الفرقاء الآن تحت سطح واحد ـ  وضعوني في الندوة الميتة وفي اليوم الميت حتى لا يحضر أحد بالضرورة، كدت أعلن انسحابي احتجاجاً، لولا تدخل الصديقين الشاعرين محمود قرني والبهاء حسين، اليوم أنا لي كامل الحرية في أن أرفض المشاركة في ملتقى لا ضرورة له عندي، سوى كسب المزيد من القراء للقصيدة التي سوف أكتبها غداً، ولا تربطني علاقة باتحاد الكتاب، لست عضواً فيه ولا أريد حتى أن أكون، أنا رجل يعيش وسط أبنائه، يلتقط بهدوء لحظاته الخاصة من أنياب يوم مليء بالعمل، النجومية لا تخصني ولا أعتقد أنني أصلح نجماً، هذا الشعور يملأني بالسعادة والرضا عن نفسي فعلاً، أكثر من المشاركة في ملتقى مشوه.

لماذا تقاطع مؤتمر قصيدة النثر الذي يقام في نقابة الصحفيين، ما الذي تراه من أخطاء؟

ـ لن أتحدث عن أخطاء الملتقى الأول ـ وهي بالجملة لدرجة أنها أفرزت ندوباً هائلة في القصيدة الجديدة ـ ولا عن أخطاء  الملتقى الأخير، فقط أؤكد احترامي للأصدقاء في اللجنة التحضيرية لملتقى نقابة الصحفيين وأتمنى لهم التوفيق، وأشكر لهم دعوتهم الكريمة لي للمشاركة، وربما ذهبتُ مستمعاً فقط، إذا توفر عندي وقت لذلك، لكنني لن ألقي قصائدي إلى المقاعد الفارغة، لأن في ذلك نوعاً من احترام الشعر.

هل ترى معرض القاهرة الدولي للكتاب فرصة لتعريف الجمهور بالشعر الجديد؟

ـ بكل أسف أراه فرصة لتكريس قصيدة قديمة ومشوهة، في البداية تفاءلت بوجود مستنيرين على رأس الهيئة العامة للكتاب المشرفة على أنشطة المعرض، لكنني فوجئت بأنهم لا يزالون يقولون إن الشعر في معرض الكتاب “اتحسم من زمان” ويلجأون إلى حيلة مضحكة أن يرشح ثلاثة شعراء كبار مجموعة شعراء صغار، كأنَّنا قُصَّر، وكأن جيل الستينيات لا يريد أن يفارق قدره في “لحس العتب” على نحو ما عبر خيري شلبي في واحدة من رواياته، وأنت تعرفين أن المشرف على أنشطة المعرض الكاتب يوسف القعيد، وبالتالي فإن منع قصيدة النثر من دخول المعرض في دورته المقبلة يعني أنه يعاني من ذهان ما بعد الشيخوخة، وطبعاً لا أملك لهم سوى الدعاء لهم بسرعة الشفاء.

……………..

* الأهرام المسائي20 يناير 2010

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم