ميرال الطحاوى: «أيام الشمس المشرقة» ترصد خيبة المهاجر في القبض على أحلامه

ميرال الطحاوي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاورها: أسامة فاروق

كاتبة روائية وأكاديمية مصرية، تعمل أستاذًا للأدب العربى بكلية اللغات العالمية والترجمة بجامعة آريزونا الأمريكية، ومن أشهر رواياتها: «الخباء»، «الباذنجانة الزرقاء» التى حازت على جائزة الدولة التشجيعية فى الرواية سنة 2002، «نقرات الظباء»، «بروكلين هايتس» التى ترشَّحتْ للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية، كما حازت على جائزة نجيب محفوظ سنة 2011 التى تمنحها الجامعة الأمريكية بالقاهرة. ترجمت رواياتها إلى أكثر من عشرين لغة أجنبية حول العالم، ولها مجموعة قصصية عنوانها «ريم البرابرى المستحيلة». دَرَّسَتْ فى جامعات فرجينيا ونورث كارولينا وكلية دار العلوم بجامعة الفيوم. ومن أعمالها الأكاديمية: «مُحرَّمات قبلية: المقدس وتخيلاته فى المجتمع الرعوى روائيا» صدر عن المركز الثقافى العربى، بيروت – الدار البيضاء، 2008. «امرأة الأرق: دراسة فى كتابة المرأة»، صدر عن الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2011. «الأنثى المقدسة.. أساطير المرأة فى الصحراء»، صدر عن دار بتانة، سنة 2019. «بنت شيخ العُربان»، صدر عن دار العين، سنة 2020، «بعيدة برقة على المرسال.. أشعار الـحُب عند نساء البدو»، صدر عن دار المحروسة. 

تبدأ ميرال الطحاوي روايتها الجديدة «أيام الشمس المشرقة» من النهاية. من أقسى ما يمكن أن يواجهه مهاجر بعيدا عن وطنه. تدخل «نِعم الخباز» إحدى بطلات الرواية منزلها لتجد ابنها ممدداً على الأرض بعد أن اخترقت رأسه رصاصة أطلقها بنفسه فدخلت دماغه وخرجت من الخلف لتستقر على الحائط. بداية مؤلمة وقاسية لكنها معبرة ومتناسبة تماما مع المعاناة المتوالية بعد ذلك. والتى تصبح معها نهاية كتلك مقبولة بل ومتوقعة ولا تثير الانتباه فى مستعمرة اسمها للمفارقة الشمس المشرقة! تحولت فيها هذه الحوادث ببساطة إلى «تراجيديا متسلسلة ذات طبيعة موسمية كالحرائق». وتنهى الرواية ببداية جديدة، بمركب جديد يحمل لاجئين/ضحايا جددا يحاولون دخول «الشمس المشرقة»، ليعيدوا كتابة فصول جديدة فى مأساة لا نهائية.

تستدعى ميرال خبراتها المتراكمة على مدى 15 عاما قضتها فى الولايات المتحدة الأمريكية، لتحكى قصصا اختزنتها عن الهجر والهجرة وقسوة اللجوء والحياة المتروكة فى مكان آخر. أبطالها نِعم، ونجوى، وأحمد الوكيل، وسليم النجار وآخرون، شخصيات مرسومة بعناية فائقة، ومشاهد تُحفر فى الذاكرة ولا يمكن نسيانها بسهولة، حتى الهامشية منها. والتى تحدث لآخرين من غير أبطال العمل، كيف يمكن أن ينسى مثلا ذلك الأب المهاجر الذى يضطر لرفع السلاح باجتماع مجلس الآباء بمدرسة ابنه ليبحث فقط عمن يفهمه بعد أن عجز عن التواصل مع الجميع. وعاملة السوبر ماركت المهاجرة التى تزدرى مهاجرا آخر لمجرد أنه عاجز عن التواصل معها، كمتنفس عن احترام مفروض عليها لغرباء آخرين يعبرون عما يريدون بطلاقة. فى المجمل تنسف الرواية المقولات الجاهزة عن جنة الهجرة المزعومة، لتضع فى مقابلها المأساة الحقيقية لحياة على الحافة، قد تنفجر فى أى لحظة ولأتفه الأسباب.
يصف زيجمونت باومان اللاجئين بأنهم «التالف البشرى فى تخوم الأرض، الغرباء وقد تجسدوا، الغرباء حتى العظم، الغرباء المرفوضون والمقابلون فى كل مكان بالكراهية والحقد». يقول «إنهم خارج المكان حيثما ذهبوا ماعدا فى الأماكن التى هى نفسها خارج المكان». وتزيد ميرال بأن تؤكد غربتهم حتى فى تلك الأماكن التى تعتبر خارج المكان، إنهم غرباء فى كل مكان حتى فى أماكنهم الأصلية!
أعدت قراءة الرواية مجددا بعد إجراء هذا الحوار والاستماع لميرال وما تطرحه من أفكار عن الهجرة وأدب الشتات، ومعاناة المثقف خارج وطنه، وأتصور أن متعة القراءة قد زادت، حيث تمنح ميرال هنا منظورا جديدا يمكن من خلاله قراءة العمل، توسع الأفكار المطروحة فيه وتضيء الكثير من جوانبه، توضح حجم المجهود المبذول فى جمع وصياغة مشاهده، ومقدار الحميمية التى تربط أجزاءه وتماس حكاياته مع حكاية كاتبته نفسها.

مدة زمنية طويلة تفصل بين «بروكلين هايتس» و«أيام الشمس المشرقة».. تراوغك الكتابة وتتمنع أم أن هناك أسبابا أخرى لهذا التوقف الطويل؟
نعم هناك مدة زمنية طويلة استمرت لأكثر من عشرة أعوام، توقفت قليلا عن النشر بعد روايتى «بروكلين هايتس» التى نشرت ٢٠١٠ ومن بعدها «امرأة الأرق» ٢٠١٢، ثم نشرت «بنت شيخ العربان»٢٠٢٠ و«بعيدة برقة على المرسال» ٢٠٢١ وصولا إلى «أيام الشمس المشرقة». فى بداية 2021.
ولعدة سنوات انشغل معظمنا بالظروف السياسية التى مرت بها مصر، وتقلص النشر بشكل كبير فى موجة من القلق الجماعى التى واجهت كل كاتب، كان انقطاعى عن النشر لعدة سنوات راجعا أيضا لطبيعة رحلتى أو هجرتى التى بدأت فى ٢٠٠٨ إلى الولايات المتحدة الأمريكية والتى ذهبت إليها كطالبة أو باحثة.
ثم انشغالى عدة سنوات بالبحث عن عمل والتنقل بين الجامعات والولايات بحثا عن وظيفة جامعية مناسبة لمؤهلاتي، قضيت عامين تقريبا فى نيويورك بين جامعة نيويورك وكولمبيا لاستكمال دراستى ما بعد الدكتوراه ثم بدأت البحث عن وظيفة جامعية مؤقتة فى عدة ولايات.
درست عدة فصول فى جامعة فرجينيا ثم نورث كارولينا ومن بعدها جامعة مونترى بكاليفورنيا وغيرها من الجامعات الصغيرة والكبيرة، درّست اللغة العربية لغير الناطقين ثم حصلت على وظيفة أستاذ مساعد بجامعة اريزونا حيث استقر منذ سنوات فى قسم الشرق الأوسط، أدّرس الأدب العربى الحديث والكتابة النسائية العربية والكتابة الإبداعية والصحافة والسينما وغيرها من الفصول المتصلة بالشرق الأوسط، وقد تطلب ذلك الكثير من التنقل بين الوظائف والتعلم والجهد والبحث عن موقع أكاديمي، انشغلت كثيرا بتطوير قدراتى فى التدريس الجامعى بلغة لم تكن لغتى الأولى. والنشر أيضا بها، حين أنظر لسيرتى الشخصية الآن أعتقد أننى أنجزت الكثير وأن الرحلة لم تكن سهلة على الإطلاق، بل كانت شاقة جدا على ابنة العرب الخجولة والمترددة والتى تلقت تعليما أوليا متواضعا. لكن التأقلم والنجاح كان تحديا كبيرا فى حياتى آنذاك، تعلمت ودرست وكتبت ونشرت الكثير من الدراسات والمقالات التى نشرت بالإنجليزية عن الأدب العربي، تناول بعضها عدد من الكاتبات العربيات اللاتى توقفت عند تجربتهن.
فعلى سبيل المثال نشرت عدة مقالات علمية تناولت فيها التعبير عن الجسد فى أعمال الكاتبة المصرية أليفة رفعت والتشكيل الرمزى للحج فى المقدس الإسلامى كما عبرت عنه روايات الكاتبة السعودية رجاء عالم، قدمت دراسة عن تطور مفهوم الجندر والوعى النسوى فى جيل التسعينيات.
كتبت عن أدب الشتات فى أعمال مى التلمسانى وإيمان مرسال نموذجا، إلى جانب بعض المقالات عن الرواية العربية والصحراء وغيرها من الدراسات. إلى جانب النشر الأكاديمى فقد صممت عدة فصول لتدريس الرواية العربية الحديثة، درست الكثير من الروايات التى أحبها لكثير من الكتاب العرب مثل «تفصيل ثانوي» للكاتبة الفلسطينية عدنية شبلى. و«الموت عمل شاق» للكاتب السورى خالد خليفة «وعمارة يعقوبيان» لعلاء الأسوانى و«الفاعل» لحمدى أبو جليل وغيرهم، كان تدريس الأدب العربى الحديث وتقديمه للطالب الأمريكى مترجما هو وظيفيتى وشغفى أيضا، يمكن القول أن تلك السنوات التى لم أصدر فيها أعمالا إبداعية أو روايات. انشغلت واشتغلت أيضا بجدية على إنتاجى كأستاذة جامعية تدرس فى جامعة أمريكية، لم تكن مؤهلاتى كروائية كافية لتوفر لى فرصة للالتحاق بوظيفة جامعية، أو الترقى لدرجة أستاذ، أو التثبيت فى كرسى أكاديمي. وكان هذا التثبيت يعنى بشكل ما استقرارا وأمانا وظيفيًا سعيت له بجدية تحت وطأة الخوف من فقدان الوظيفة، فانشغلت بالنشر العلمى والتدريس فترة طويلة وهو جانب أساسى فى حياتى كأستاذة جامعية.

هل فكرت فى أن هذا الانشغال ربما يضر بك ككاتبة؟
لا أعتقد أن ذلك أضر بى ككاتبة، فالكتابة تتطلب قدرا من التطور فى الخبرات والتجارب .فى الحقيقة أننى لم أكن فى يوم من الأيام كاتبة متفرغة، طالما تمنيت ذلك، لكننى لم أحظ بتلك الحظوة، كنت ومازلت أعمل وأدرس وأنشر، مشغولة دائما بمشروعاتى ككاتبة، طامحة فى التفرغ يوما ما لأكتب ما أريد وما أحب.
وتلك هى الأزمة الوجودية لكل كاتب، ليس فى مصر فقط فى العالم كله، قليل جدا من الكتاب من يستطيعون أن يحققوا دخلا ثابتا أو مجزيا من الكتابة، بالإضافة إلى ذلك فأنا شخصيا لم أستطع أن أحول الكتابة لنظام ثابت يومى كما يتعامل معها المحترفون، أو حرفة يمكن ممارستها بالرغبة والإصرار والإرادة.
أتعامل مع الكتابة كإلهام، مشاعر غامضة يصعب وصفها تحاول أن تجد معادلها بالحروف، هاجس وجودي، لحظة مؤرقة، أو شخصيات حقيقية أو متخيلة، تفرض وجودها وتطالبنى بأن أقبض عليها بالكتابة، تأتى الكتابة حينما تكتمل الفكرة، تلك العوالم التى تطاردنى أو حين أجد الوقت لتدوينها.
تمنيت بالطبع أن أتفرغ قليلا وأن أتمرن على هذا الاحتراف الذى يتحدث عنه الجميع وأن أتجرأ قليلا مع نصوصى غير المنشورة، تمنيت أن أملك الوقت لممارسة الجلوس يوميا لأحرض نفسى على الكتابة، لكننى فشلت، ما زلت أعتقد أن كم الكتب المنشورة تعكس بطبيعة الحال إنجازا كبيرا أو صغيرا، فرب رواية صغيرة مثل «البومة العمياء» لصادق هدايت أو «الرهينة» لمطيع دماج نجحت فى تخليد كاتبها فى ذاكرة الكتابة وفشلت غيرها من المجلدات، فعلى سبيل المثال، ينشر الكاتب الأمريكى بول أوستر رواية كل عام تقريبا، لكن هذا التدفق الكمى فى النشر لا يجعل من كاتبة مثل مارلين روبنسون برواياتها الثلاث وعوالمها المحدودة التى بدأتها بروايتها العظيمة «تدبير منزلي» أقل قامة أو قيمة فى الأدب الأمريكى الحديث من أوستر، الكتابة لها دينامياتها التى تختلف من كاتب لآخر، ففى النهاية كل كاتب له طبيعته وقدراته وطموحاته أيضا، كما أن هذا الهوس بالتواجد الذى صاحب ظهور وسائل التواصل الاجتماعى وبلغ قمته فى صور السيلفي، هذا الهوس بالوجود الفيزيقي، بالبقاء على مسرح الأحداث، هذا الحرص على التواجد المستمر للكاتب أو الفنان عبر نشاطه الالكتروني، هذا الدأب فى بث الأخبار والمتابعات وإبراز عدد ورقم الطبعات على الأغلفة، ذلك السوق الافتراضى للكتاب الذى لا نعرف مدى مصداقيته أو طبيعة جمهوره، كل هذا يمثل ظاهرة اجتماعية ثقافية تحتاج للدراسة والفهم.

ما حكاية «أيام الشمس المشرقة». من أين أتت فكرتها ومتى بدأت كتابتها ومتى انتهيت منها؟ ولماذا اخترت هذا العنوان؟
بدأت فكرة الرواية منذ عدة سنوات، لكننى لم أجد الوقت حينها للتفرغ، كنت آنذاك منشغلة بالانتهاء من كتابى «بنت شيخ العربان» وهو دراسة طويلة فى تاريخ القبائل العربية، ثم انشغلت بجمع أشعار الحب فى التراث البدوى المصرى وشرحها وتحليلها فى كتابى «بعيدة برقة».
ولكن انتقالى آنذاك إلى ولاية اريزونا وهى ولاية حدودية مع المكسيك تقع فى الجنوب الغربي، وهى بذلك قريبة من الشاطئ الغربى وولاية كاليفورنيا، التى تعد من أغنى الولايات وأكثرها ارتباطا بهوليود أو الحلم الأمريكى لكل مهاجر، هذا الموقع الجغرافى الجديد ساهم فى خلق فكرة الرواية.
بدأت فى التفكير فى تلك البلدة التى تقع على الحدود، وتسكنها جماعات بشرية مهمشة، عمال وعاملات يعيشون على أنقاض بلدة كانت فى السابق مستعمرة، حيث عاش آلاف من العبيد آنذاك يبحثون عن الذهب أو النحاس أو يعملون فى مناجم الفحم، تلك العمالة غير الشرعية فى مجملها وجدت نفسها فى النهاية تمتهن تلك المهن الدنيا كأعمال النظافة وتنسيق الحدائق وغيرها من المهن البسيطة، تعيش تلك الجماعات البشرية مجرد حياة فقيرة وبائسة على هامش الوجود.

بدأت فكرة الرواية كمحاولة لرسم بورتريه كبير لتلك البلدة بتضاريسها وشوارعها وطرقها ثم البشر الذين يعيشون فى أحيائها وكيف يتفاعلون مع هذا الواقع الجديد، فى بداية إقامتى كنت أقود سيارتى وأسير فى الجبال البعيدة، أراقب البلدات الصغيرة التى تقع جغرافيا بين النتوءات الجبلية، بعضها بالغ الخطورة وبعضها بالغ البؤس، تنتهى تلك الأطراف عادة فى أعالى الجبال حيث تقع منتجعات بالغة البذخ وأصحابها الأغنياء الذين اختاروا تلك المناطق الدافئة ملجأ شتويا حيث تشرق الشمس ويسود الدفء معظم أيام العام، تلك المنتجعات هى أيضا تعتبر مقرا شتويا للعجائز الذين يقصدونها لقضاء أيامهم الأخيرة فى منتجعات العجائز المتقاعدين، تلك الجغرافيا الجديدة بالنسبة لى ويومياتها وشخصياتها وعوالمها بدأت تتحول شيئا فشيئا لعالم روائى متخيل أطلقت عليه مؤقتا «بلاد الشمس المشرقة»، وبعد انتهاء الكتابة وإرسال المخطوطة للدكتورة فاطمة البودي صاحبة دار العين وناشرتي، شاركتها حيرتى حول العنوان، وبعد عدة اقتراحات وصلنا للنتيجة نفسها، إنها بلاد الشمس المشرقة وأيامها، بالطبع يمكن الإحالة للمجاز الرمزى لأسماء الأحياء وهى أحياء بالغة البؤس لكنها تحمل دائما أسماء باذخة ومغوية لا تعكس حقيقتها، بل إن معظم تلك الأسماء تتصل بالتصور الرومانسى للغرب أو أرض الأحلام وهى تصورات مرتبطة عادة بالجنة والتلال والوديان، ربما ارتبطت تلك المتخيلات الرومانسية بمرحلة تاريخية تم فيها اكتشاف القارة الجديدة التى كانت آنذاك بطبيعتها البكر جنة حقيقية مليئة بالخيرات والنعم، جنة يقصدها المهاجرون من كل حدب وصوب لكنها تحولت بمرور الوقت إلى النقيض .

فى البداية أعطيت الأماكن أسماء رمزية، عوضًا عن أسمائها الواقعية، ومع التقدم فى السرد يتضح للقارئ أن تلك المستعمرة أو الشمس المشرقة هى منطقة أو بلدة حدودية تقع بالولايات المتحدة الأميريكية، هل كان إخفاء الأسماء مخططا تم تغييره أم ماذا حدث؟
لا توجد فى الرواية جغرافية مطابقة حرفيا لما يمكن أن نطلق عليه الواقع، تلك البلدة أو المدينة التى أطلقت عليها الشمس المشرقة هى مدينة متخيلة، وربما تكمن صعوبة الرواية فى خلقها وخلق سكانها وجغرافيتها وعوالمها، أعتقد أن خلق عالم هو المحرض الأول لي، عالم لا ينتمى للواقع لكنه يتقاطع معه، لن يجد القارئ الأمريكى تلك البلدة على خرائطه. وربما يبحث عنها ويتهمنى بالكذب، لكنه لن يستطيع أن ينكر أن كثيراً من البلدات الحدودية التى يقف على معابرها المهاجرون غير الشرعين موجودة، ثمة ساحل طويل يمتد من الشمال إلى الجنوب شرقا وغربا تمتد عليه تلك البلدات الصغيرة التى يعرفها تماما المهربون والباحثون عن محطة للدخول.
إلقاء الأطفال الصغار على شواطئ اللجوء حوادث متكررة من الشواطئ الأسترالية والكندية والأمريكية ورأينا ذلك كثيرا فى محطات التهريب إلى أوربا فى البحر المتوسط، وهذا ما يطلق عليه العبودية الجديدة، عمال يركبون المراكب ويعبرون الطرق القديمة التى خاضتها حملات جلب الرقيق بحثا عن شاطئ يقبل بهم على الضفة الأخرى، الشمس المشرقة هى التجسيد المجازى لبلدة كانت محطة قديمة من محطات العبودية، تلك البلدات التى صارت الآن محطات للتهريب والتجارة بالبشر، ربما كان اختيارى للساحل الأمريكى الغربى رغبة فى نقل هذه البلدة المتخيلة إلى المساحة الجغرافية التى تلائمها لكنها لا تتطابق كليا معها، الشمس المشرقة تصلح أيضا أن تكون بلدة من تلك البلدات الصغيرة على الشاطئ الشرقى حيث تقع تلك البلدات الصغيرة أيضا ذات الطبيعة الجغرافية والسكانية التى تتماثل مع ما تخيلت، فى الحقيقة لقد بنيت تلك المدينة فى مخيلتى ثم بدأت البحث جغرافيا لها عن موقع وكان بإمكانى أن أختار الكثير من المواقع التى تتشابه بشكل بائس شرقا وغربا شمالا وجنوبا، فخرائط تهريب البشر صارت متعددة المسالك .
– «أيام الشمس المشرقة» كتبت بالكامل خارج مصر كما أعتقد. العالم الذى تكتبين عنه لم يعد فى متناول يدك لكن فى متناول ذاكرتك إن صح القول. هل يؤثر مكان الكتابة على طبيعة الكتابة نفسها؟ وفى كلا العملين -«بروكلين والشمس المشرقة»- أشعر أحيانا أن المكان موجود كمسرح، لا يوجد تفاعل حقيقى معه أو هو بالأحرى محفز لاجترار ذكريات الحياة الحقيقية التى كانت موجودة فى مكان آخر.. إلى أى حد تصح هذه الرؤية؟
هناك الكثير من الدراسات الأنثروبولوجية والأدبية التى تبحث فى طبيعة أدب الشتات، وذلك لأن السنوات الأخيرة دفعت بعدد مهول من البشر فى محطات الهجرة الاختيارية أو الإجبارية، وبالتالى تغيرت خارطة الأدب العالمى وأحتل سماء ذلك الأدب نجوما تنحدر أصولهم إلى أفغانستان أو الهند ومن بلدان أسيوية أو أفريقية كثيرة.
أستطيع أن أشير لنيبول وسلمان رشدى ومحسن حامد، حنيف قريشي، خالد الحسينى وشيماماندا نغوزى أديشى وغيرهم من الكتاب الذين كتبوا عن المهجر، صراع الهويات، العلاقة بالغرب التى تطورت وصارت أكثر تعقيدا وتعقدا، الكتابة من هذا المهجر مختلفة تماما عن الكتابة من الوطن الأم كل ما تملكه من مسقط الرأس هو مجرد ذكريات مختزنة، وكل ما تعيشه يؤكد تلك المسافة بينك وبين ما تحب ومن تحب، بالتالى كل ما نكتبه فى هذا الشتات يتمحور حول خبرة الاقتلاع من الثقافة الأم، أو البحث عن الجنة المفقودة، والتمزق بين اللغة والهويات المتعددة التى فرضت علينا. ولم تخل تجربة الشتات فى مجملها من هذا الولع لاستدعاء الماضى الذى لم يكن سعيدا بالضرورة ـ من مراجعات ومساءلات، ومحاولات لفهم هذا الماضى أو للتسامح معه والتعافى من معاناته، فتشكلت هذه الكتابة اعتمادا على تقنيات سردية تميل إلى السيرية وتعتمد على الذاكرة لتستدعى الماضى ثم تدوينه عبر لقطات أو صور تسجيلية. ترتبط هذه الصور عادة بمخاوف وجودية من اندثاره وتلاشيه وضياعه من الذاكرة. تلك الإقامة فى الماضى هى جزء من معاناة المثقف فى منفاه، أضف إلى ذلك طبيعة الحياة فى ذلك المهجر الاختيارى بالنسبة لى شخصيا، أعيش يوميا كجزء من جالية مهمشة، مجرد موظفة أو مدرسة أى سيدة عاملة. وبذلك تتوارى صفتى ككاتبة خلف الوجبات والمسئوليات والمشاق اليومية لتلك المرأة المغتربة والتى تبحث عن لقمة عيشها ومنشغلة بفواتيرها ومسئولياتها أكثر من أى شيء، أحيانا أجد نفسى شبه منفية من عالم الكاتبة، أعرف أن هناك مسافة كبيرة بين ما أعيش يوميا وبين طموحى ككاتبة. وهو طموح بسيط أن تجد من يتعرف عليك بوصفك كاتباً أو كنت كاتبا، أنا فى النهاية كاتبة لكن فى مكان آخر بعيد تماما ولا يعرفه أحد، وبلغة غريبة لا يهتم بها أحد، أنا فى هذا المهجر مجرد أستاذة جامعية، قليل من البشر من يريد أن يتعرف على الوجوه الأخرى لوجودى الإنسانى .

لذلك يعتقد المفكر إدوار سعيد أن هجرة المثقف أكثر إيلاما، لأن الكاتب مرتبط عضويا ولغويا وثقافيا بعالمه القديم ولا يستطيع التحرر منه بسهولة، ولا يستطيع أيضا تقبل وضعه فى المنفى بوصفه لا شيء، تلك هى المحنة التى واجهها الكثير من كتاب المهجر مثل عبد الحكيم قاسم مثلا. عندما تقرأ «رسائل نوبة حراسة» تكتشف أن قاسم كان يعيش فى تلك الحياة الثقافية التى خرج منها، وأنه ما زال عائشا فى عالمه القديم غير قادر على قبول وضعه الجديد وذلك لأن قاسم لم ينس قط أنه الكاتب أولا وليس حارس العقار، بالنسبة لى لم يكن الأمر بتلك القسوة، لقد تقبلت الحقيقة الجديدة التى فرضت علىَّ.
أنت كاتبة لكن لا أحد يهتم بذلك فى هذا العالم، هذا الحلم يخصك وحدك وربما هو جزء من علاقتك بذاتك ولا يخص الآخرين، وهذا أيضا ما حاولت رصده فى روايتى «أيام الشمس المشرقة»، فنجوى هى النموذج المثالى لتلك العزلة التى يعيشها المثقف فى المنفي، وسليم النجار أيضا . المثقف فى المنفى كما يقول سعيد غير قادر على التحرر من القديم أو قبول الوطن البديل فهو محاط بأنصاف مشاركة وأنصاف انفصال، فهو بشكل ما لا يستطيع محاكاة الذين يعيش معهم أو التعايش والقبول والتأقلم الكلي. بل يشعر فى كثير من الأحيان أنه منبوذ بينما يستطيع غيره التأقلم، المثقف لا يستطيع التكيف قط مع اللغة الجديدة أو العالم البديل ولذلك يعيش المثقف جحيمه، يعيش فى ذاكرته، يجتر عوالمه، لكنه أيضا يملك مساحة للرؤية والوعى لا يمتلكها غيره.
يمتلك تلك المسافة بينه وبين عالمه القديم تسمح له بإعادة خلق هذا الماضى فهو أقرب إلى تبصر الأمر والأوضاع السياسية والاجتماعية لبلاده ليس فى وضعها الراهن بل فى ما آلت إليه، وبتعبير سعيد يعرف كل منفى أنه حين يغادر وطنه فمهما يكن المكان الذى يذهب إليه فلن يستطيع ببساطة تقبل هذا الوطن الجديد أو يقبل ببساطة التحول لمواطن آخر. فهذا التحول والتقبل شبه مستحيل لأن جزءا منك كإنسان سيظل متطلعا للمكان الذى ولدت فيه، متطلعا إلى «مسقط رأسك»، و«لغتك الأم»، هناك بعيدا حيث يعيش من تركتهم خلفك فى المكان ذاته الذى كان مرتع طفولتك، بأسى سوف تتطلع إليهم وربما تغبطهم لأنهم لم يتركوا أحبابهم أبدا. ولم يذوقوا يوما طعم الفقدان أو التهميش أو الشعور بالضآلة، فى المنفى مهما بلغت درجتك العلمية أو الوظيفية أنت تعيش هامشيا ومهمشا على الدوام، تنتمى لهؤلاء الفقراء المتخلفين، لتلك البلاد التى يراها البعض همجية أو متخلفة أو موبوءة بالحروب أو مجرد بئر نفط لا تستحقه، لأنك لا تعرف قيمته، هذا هو عالم المنفى الذى تحاول الرواية التماس معه.
الحياة اليومية للمهمشين الذين يعيشون على تلك الحافة بين عالمين، العالقين الذين لا يستطيعون العودة للوطن الأول لأنه صار غريبا، ولا يستطيع التأقلم مع الوطن البديل لأنهم لا ينتمون له فى الحقيقة.

صحيح أن «الشمس المشرقة» تنطلق من مأزق الهجرة واللجوء لكنها لا تهتم برحلة المهاجرين أو تفاصيل الرحلة، وباستثناء مشهد الأطفال الذين يتم القاؤهم فى البحر أملا فى الوصول لشاطئ النجاة فى نهاية الرواية لا تتوقفين كثيرا عند مآسى عملية اللجوء أو الوصول إن أمكن القول، وفى المجمل لا نكاد نعرف كيف وصل الجميع إلى الشمس المشرقة. هل كان هذا لصالح الحفاظ على خط محدد للعمل أم أنك لا تفضلين هذا النوع من الكتابة أصلا؟

هذه ملاحظة دقيقة، الرواية لم تنشغل برحلة الهرب، فالكثير من الأعمال الأدبية تحدثت عن ذلك، قوارب الموت، طرق الهجرة غير الشرعية، محسن حامد فى روايته «الخروج غربا»، حمدى أبو جليل وعبد العزيز بركة بن ساكن وغيرهم من الأدباء، الكثير من الأعمال التسجيلية والصحافة الاستقصائية رصدت ذلك.
الكثير من الأفلام السينمائية التى فازت بجوائز رصدت أفواج الهجرة غير الشرعية، لم يكن ذلك الدخول أو رحلة اللجوء أو قل التسلل غير الشرعى هى ما يشغلني، وهى أيضا أحد المحرمات التى لا يحب المهاجرون التطرق إليها، فنادرا ما يفضى إليك مغترب بحقيقة رحلته، أو تفاصيلها، إنهم مواطنون صالحون وشرعيون عادة.
تسمع قصصهم الحقيقية وأوضاعهم غير القانونية فقط حين يتم ترحيلهم، الرواية أرادت كما قلت رسم بورتريه للحياة اليومية وطبيعة العلاقات والصراعات فى الشمس المشرقة، التى هى مجرد محطة من محطات التسلل، يعتقد القاطنون بها أنهم نجوا بشكل من الأشكال. لكنهم فى الحقيقة يعيشون البؤس بكل أشكاله بعيدا عن كل أشكال النجاة، إنهم مجرد مستعبدين وتلك العبودية هى خيارهم الوحيد لأن ما تركوه خلفهم ليس بالضرورة ما يطمحون بالعودة إليه، إنها تجسيد لتلك المحنة الوجودية .

صدى الحكايات القديمة يعاود التردد بقوة فى الرواية الأخيرة، هناك شخصيات مستعادة ومشاهد ممتدة، أم حنان الخياطة مثلا تظهر فى العملين الأخيرين، ويمكن أيضا أن نقول إن والد هند فى «بروكلين هايتس» هو والد نجوى فى «الشمس المشرقة» المرتبط بالبلد والقانع بوضعه البائس دون رغبة حقيقية فى التغيير، والذى يفشل فى محاولات السفر فى النهاية. سليم النجار هو نجيب الخليلى أيضا بشكل ما. هل كان ذلك متعمدا؟

تلك ملاحظة دقيقة فعلا، الشخصيات التى أردت القبض عليها كثيرة، وهى موجودة فى مخيلتي، صورة الأب ربما تتشابه، كذلك بعض الشخصيات الأخرى، التى ظهرت بشكل عرضى أو هامشى فى أعمال سابقة، ثم أفردت لها المساحة التى تستحقها، أشعر أحيانا أن الشخصيات تلح علىَّ كى أكتبها بالشكل الكامل، أعود إليها وتأخذ مساحتها فى عوالم بديلة.
لكن ذلك لا يخص أعمالى وحدها، حين تدرس الأدب تكتشف أن كل الكتاب تقريبا تحمل كتاباتهم هذا الملمح، يربط الطلاب بين شخصية لأخري، وأعتقد أن ذلك دليل على الأصالة، طالما كانت الشخصية أصيلة وعميقة بشكل روائى فإنها تنتمى لكاتبها. مثل شخصيات نجيب محفوظ، أو جون فانتي، أو سلمان رشدى، أو حتى ماركيز، تتوالد الشخصيات من بعضها البعض وتواصل مسيرتها فى توظيف روائى جديد، لكنها لا تتحول لنمط، إن أكثر ما يخيفنى هو تسطيح الشخصيات وتحولها لأنماط، إن محاولة الكتابة الاستهلاكية واستثمار ثيمات بعينها وشخصيات نمطية مسطحة هو ما أحاول الهروب منه. الحقيقة أن ما يبقى معك من الرواية الكبيرة ليس أحداثها، فالمأساة البشرية متكررة لكن ما يعلق بالذاكرة هو كيف خلق الكاتب شخصياته وطورها وأضاف لها أبعادا لا يمكن لغيره اكتشافها. بالإضافة لتقويض فكرة الحلم الأمريكى فى العملين الأخيرين، فإن التنوع الكبير الذى تم تقديمه خلال السنوات الماضية باعتباره من أكبر مزايا المجتمع الأمريكى ينسف هنا أيضا، وتقدمينه كعدم تناغم يفسد حياة الجميع، لا يخدم المجتمع ولا يتم الاستفادة منه حتى على المستوى الفردي.. الرسالة الواضحة فى العملين أن المهجر لن يصلح أبدا كوطن بديل بغض النظر عن النجاح فيه أو الفشل. هل هذا صحيح؟
روايتا «بروكلين هايتس»، «وأيام الشمس المشرقة»، كلتاهما بشكل من الأشكال ترصدان هذا الواقع، الوجه الجديد لأمريكا الذى يختلف عن فترة السبعينيات وما قبلها، فقد شهدت السنوات الأخيرة الكثير من التغيرات فى أوروبا وأمريكا، شهدنا صعود اليمين المحافظ الذى انتقد سياسة الهجرة وفتح الباب للمهاجرين.
وظهرت الكثير من النعرات الإقليمية والأصوات التى تؤجج التفرقة العنصرية، لعل أبرزها كان من مؤيدى الرئيس ترامب فى أمريكا، ثم ما رصدته الصحافة حول استقبال اللاجئين الأوكرانيين فى أوروبا مقارنة باللاجئين العراقيين والسوريين، تلك الرسائل السياسية المعادية لاستقبال اللاجئين.
والتى تحولت فى الولايات المتحدة لما يشبه العداء للمهاجرين خاصة من أمريكا اللاتينية، كالمكسيك والشرق الأوسط، كل تلك التغيرات التى شهدها العالم الحر أو الذى تشدق بالحرية والمساواة سقطت، المثقف الأمريكى الليبرالى يعرف ذلك وينتقد ذلك طوال الوقت . بالطبع مقولة المهجر لا يصلح كوطن بديل هى مقولة تفرض وجودها فى ظل أوضاع أقل ما توصف به أنها عدائية ومعادية للعرب والمسلمين، هناك فزع من تغير الطبيعة الديمجرافية للغرب الأوروبى والأمريكي.
ويمكنك التجول بين الشهادات التى تبثها العائلات السورية فى أوروبا مثلا عن صعوبة التأقلم خاصة مع عدم تقبل اللاجئين للثقافة الأوروبية أو الأمريكية التى تتصل بالحريات ومعاملة الأطفال والعنف العائلي، نعم هناك عدم تناغم فى المجتمع الأمريكي، بل صراع عرقى قديم، أوضاع اللاجئين الجدد أبرزت تلك المشكلات.
قد يستطيع القانون والدستور الأمريكى الحد من أشكال التفرقة والصراع العرقي، لكن ذلك لا ينفى فكرة النبذ والتهميش الاجتماعى للوافدين، تجلى ذلك فىما شهدناه خلال الفترة الماضية من صراع حاد فى أمريكا ونزاع بين القيم الجمهورية والديمقراطية، وكيف أصبحت قضايا الهجرة ومعاملة اللاجئين إحدى أهم القضايا الخلافية فى الحياة السياسية والحزبية.

فى فترات سابقة كان هناك تركيز واهتمام بفكرة الحضور والتأثير العربى فى الغرب، بهت الأمر الآن وعاد لخموده القديم خصوصا فى أعقاب الانشغال الداخلى بعد موجات الثورات العربية. بعد أكثر من 15 عاما من المراقبة والتحليل والتعايش أيضا كيف ترين التأثير العربى فى الغرب حاليا؟ وكيف يؤثر ذلك على عرب المهجر؟ فى السياق نفسه كيف ترصدين تطور الاستقبال الغربى للأدب العربى وأنت تدرسين ذلك للمجتمع الأمريكي؟
يظل الشرق الأوسط أحد المراكز الهامة سياسيا وثقافيا فى أمريكا والعرب عموما، بالطبع كانت هناك فترات سياسية وضعت المنطقة فى دائرة الضوء مثل أحداث الحادى عشر من سبتمبر والحرب فى العراق وظهور داعش وغيرها من الحركات الإرهابية مرورا بالربيع العربى وغيرها من الأحداث التى تلفت النظر لوضع المرأة، الإسلام، الإرهاب، الحروب، الهجرة غير الشرعية، اللجوء وغيرها من الموضوعات، تاريخيا كان الأدب العربى يخدم الحقل الأكاديمى فى فهم هذه الظواهر.
بمعنى أنه كان يفسر الظواهر ويلقى عليها الضوء، والحاجة إليه لم تكن بوصفه نصا أدبيا بقدر كونه مصدرا من مصادر الفهم، فهم ودراسة الشرق الأوسط، وبالتالى تأثر الأدب العربى بذلك العرض والطلب، لكن فى السنوات الأخيرة شهدت الحياة الثقافية بعض الانفتاح على آداب الشعوب الأخرى. فجائزة المان بوكر البريطانية، والأورانج وغيرها سمحت للأدب المترجم بالتواجد سنويا فى قوائم جوائزها، كذلك فتحت جائزة الكتاب الأمريكى وهى أيضا من أعرق الجوائز الباب للأدب المترجم إذ تم نشره فى إحدى دور النشر الأمريكية، سمح هذا لظهور أسماء عربية كثيرة فى تلك القوائم مثل الكاتبة المغربية ليلى السليمانى، والليبى هشام مطر والكاتبة العمانية جوخة الحارثى، والفلسطينية عدنية شبلى، والسورى خالد خليفة وغيرهم من الكتاب الذين حققوا وجودا أدبيا مرموقا، شجع ذلك بعض دور النشر الصغيرة والكبيرة على ترجمة الأدب العربى مثل بينجوين وراندم هوس وغيرها من دور النشر الكبرى.

الهروب هاجس رئيسى يسيطر على كل الأعمال، كل بطلاتك تحديدا يسعين للهرب من واقعهم.. لماذا؟
الحقيقة أن الهروب هو أحد الهواجس التى تسيطر على عدة أجيال وليس فقط على بطلاتي، يعكس هذا الهاجس قوارب الهجرة الشرعية وغير الشرعية، كيف تفسر تلك الموجات من الشباب التى تلقى بنفسها فى البحر وتعبر الصحراء بحثا عن فرصة للهرب رغم كل المخاطر، لا أعرف كيف يحلل علماء الاجتماع تلك الظاهرة التى لم يشهدها العالم من قبل.
كيف تحولت بلادنا أو قارة بعظمة وغنى وقدم القارة الإفريقية لقارة طاردة، كيف تفسر أنت هوس جروبات الشباب بفرص الهجرة، وحلم اللجوء، فى الحقيقة تلك ظاهرة تحتاج للكثير من البحث، لا يمكن الاتكاء على الظروف السياسية أو الاقتصادية وحدها رغم تأثيرها الكبير، فى هذا المجال النساء أيضا لا يختلفن عن الرجال فى الرغبة فى الهرب.
بل ربما أكثر هوسا بالبحث عن عالم آمن وربما أكثر تحضرا يسمح لهن بالوجود الآمن بلا خوف من الانتهاك البدنى أو النفسي، لكن الرواية لا ترصد الهرب كما ألمحت إلى ذلك إنها ترصد الخيبة، خيبة المهاجر فى القبض على أحلامه، تحول الحلم إلى كابوس وجودى وشرك يعلق فيها البؤساء بلا نهاية، عبودية بالاختيار لا الإجبار.

يمكن بشكل ما متابعة سيرتك الشخصية من خلال أعمالك، لكن أى الأعمال يحمل القدر الأكبر من سيرتك؟
هذا تصور غير صحيح بالضرورة، كتابتى ترتبط بخبراتى وليس بسيرتي، وكل كاتب حقيقى تتصل تجربته الأدبية وعوالم كتابته بتجربته ويمكن أن أعطيك مئات الأسماء لكتاب ترتبط تجاربهم فى الكتابة بخبرتهم الحياتية، هذا بديهي، تعلمنا أن ندرسه ونبحث عنه فى النص.
ونطلق عليه الخلفية الثقافية والاجتماعية للكاتب، صحيح أن هناك اتجاهاً للكتابة عن الفكرة المجردة، بمعنى أن كتاب الدراما مثلا يقررون الكتابة عن قضية أو حادثة أو ينطلقون من معادل فكرى لما يريدون تناوله، لكن تبقى الرواية بشكل كبير، أو الرواية كما أتخيلها هى نص مواز لتاريخ الكاتب، نص متعدد التأويل.
بالطبع هناك فى روايتى شخصيات تشبهني، مثل «نجوى» فى «أيام الشمس المشرقة»، شخصية الباحثة التى فشلت فى إنجاز أطروحتها واضطرت للحياة والعمل لأن علاقتها بأسرتها وبالوطن قد انقطعت، وهى نموذج رأيته كثيرا وعرفته، تعاملت مع مصريات وعربيات على تلك الهيئة، المغتربات.
بنات الطبقة المتوسطة اللاتى تخرجن من جامعات اقليمية وفشلن فى مواصلة رحلتهن فى المهجر، وفشلن فى العثور على الزوج المناسب وتحولن إلى نموذج لتلك المرأة بكل بؤسها وتواضع قدراتها، وضعف شخصيتها وتحولها لمجرد تابع لـ«نعم الخباز». بالطبع ساعدتنى تجربتى وخبراتى فى العمل فى الجامعة فى مصر وخارج مصر على القبض على تلك الشخصية وعلى تفاصيلها، لكنها لا تشبهنى فى الحقيقة، إنها النقيض، النموذج الذى حاولت تفاديه ونجحت فى ذلك.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم