مونولوج عن حياة كاملة مدونة على الأبواب
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
سفيتلانا ألكسييفيتش*
ترجمة: أماني لاازار
أريد أن أدلي بشهادة...
حدث هذا منذ عشر سنوات، وهو يتكرر يومياً.
عشنا في بلدة بربيات. في تلك البلدة.
أنا لست كاتبًا . لن أكون قادراً على الوصف. عقلي ليس مؤهلاً لفهمه. ولا شهادتي الجامعية.
إليكِ القصة: شخص عادي. شخص متواضع. أنت مثل أي شخص آخر- تذهبين إلى العمل، تعودين من العمل. تنالين مرتباً متوسطاً. تحصلين مرة في السنة على إجازة. أنت شخص عادي! ثم ذات يوم تتحولين فجأة إلى شخص من تشرنوبل. إلى حيوان، شيء يهتم الجميع لأمره، وأمر لا يعرف أحد عنه شيئاً. تريدين أن تكوني مثل الجميع، والآن ليس بوسعك ذلك. ينظر الناس إليك نظرة مختلفة. يسألونك: هل كان مخيفاً؟ كيف احترقت المحطة؟ ماذا رأيت؟ وكما تعلمين، هل يمكن أن تنجب أطفالاً؟ هل هجرتك زوجتك؟ تحولنا في البداية جميعاً إلى حيوانات. الكلمة ذاتها " تشرنوبل" تشبه لافتة. الجميع يديرون رؤوسهم لينظرون إليك. إنه من هناك!
تلك كانت البداية. لم نفقد بلدة، لقد فقدنا حياتنا برمتها. غادرنا في اليوم الثالث. كان المفاعل يحترق. أتذكر قول أحد أصدقائي،" إنها رائحة مفاعل." كانت رائحة لا تصدق. لكن كانت الصحف قد كتبت عن ذلك. لقد حولت تشرنوبل إلى بيت للرعب، ولو أنهم في الحقيقة حولوه إلى فيلم رسوم متحركة. سأتكلم فقط عما يخصني حقاً. عن حقيقتي.
كان على الشكل التالي: أعلنوا عبر الإذاعة أنه لا يمكنك أن تصطحب قططك. لذا وضعنا القطة في الحقيبة. لكنها لم ترغب بالذهاب، وخرجت منها. وخدشت الجميع. لا يمكنك أن تأخذ حاجياتك! لا بأس، لن آخذ جميع حاجياتي، سآخذ فقط غرضاً واحداً. فقط واحداً! أحتاج أن أخلع باب الشقة وآخذه معي. لا يمكنني أن أترك الباب. سأغطي المدخل ببعض الألواح. بابنا-إنه حرزنا، إنه تذكار عائلي. أبي تمدد على هذا الباب. لا أعرف أصل هذا التقليد، فهو غير متبع في كل مكان، لكن أمي قالت لي أنه يجب أن يمدد الفقيد على باب بيته. يمدد هناك إلى أن يجلبوا النعش. جلست قرب والدي طوال الليل، ممدداً على بابه. كان المنزل مفتوحاً. طوال الليل. وكان منقوشاً على هذا الباب نقوش صغيرة. إنه أنا أنمو. كان موسوماً عليه: الصف الأول، الصف الثاني. السابع. قبل الجندية. وبعد ذلك: كيف كبر ابني. وابنتي. حياتي كلها مدونة على هذا الباب. كيف يفترض بي أن أتركها؟
طلبت من جاري فقد كان يملك سيارة: " ساعدني." أومأ مقرباً رأسه، أنت لست مصيباً تماماً، صحيح؟ لكني أخذت ذلك الباب معي. ليلاً. على دراجة نارية. عبر الغابة. بعد مرور عامين، عندما كانت شقتنا قد سلبت وأفرغت. كانت الشرطة تطاردني." سنطلق النار! سنطلق النار!" اعتقدوا أني لص. هكذا سرقت باب بيتنا.
أخذت ابنتي وزوجتي إلى المستشفى. كان هناك بقع سوداء في كافة أنحاء أجسادهن. قد تظهر هذه البقع، ثم تختفي. حجمها يقارب حجم قطعة نقدية بقيمة خمسة كوبيكات. لكنها غير مؤلمة. أجروا بعض الفحوصات لهن. طلبت النتائج. " هي ليست لك،" قالوا. قلت،" إذن لمن؟"
كان الجميع يقولون حينها: " سوف نموت، سوف نموت. بحلول عام 2000، لن يبقى أي بيلاروسي." كانت ابنتي في السادسة من عمرها. همست في أذني وأنا أضعها في السرير: " بابا، أريد أن أحيا، أنا لا أزال صغيرة." وكنت أعتقد أنها لا تفهم شيئاً.
هل يمكنك تصور فتيات في سن السابعة حليقات صلعاوات في غرفة واحدة؟ كان هناك سبع فتيات في غرفة المستشفى... لكن يكفي! هذه هي! عندما أتحدث عن الأمر أشعر بأنني أخونهم، قلبي يحدثني بذلك. لأني أحتاج إلى وصف الأمر كما لو أني غريب. عادت زوجتي من المستشفى إلى البيت. لم تستطع تحمل الأمر." سيكون من الأفضل لها أن تموت بدل أن تتعذب هكذا. أو من الأفضل أن أموت أنا، فلا يتوجب علي رؤيتها بعد الآن." لا، يكفي! هذا كل شيء! لم يعد بإمكاني. لا.
وضعناها على الباب... على الباب الذي وضع أبي عليه. إلى أن جلبوا نعشاً صغيراً. كان صغيراً مثل صندوق دمية كبيرة.
أود أن أدلي بشهادة: توفيت ابنتي بسبب تشرنوبل. ويريدون منا أن ننسى.
نيكولاي فوميتش كالوجين، أب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحائزة على جائزة نوبل للآداب هذا العام 2015
من كتاب أصوات من تشرنوبل