موسيقى زرقاء تأملات في قصيدة “لغة المطر” للشاعرة د. نبيلة زباري

NABILA ZABIR
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ناظم ناصر القريشي

المطر كلغة كونية تتحدث بها الروح

يتحول الشعر أحياناً إلى لغة بديلة، تكتبها السماء بالرذاذ، ويتعلمها القلب عبر الإحساس، وتقرأ بوقع الخطوات على الشوارع المبللة، إنه شعر يتحدث بصوت خافت، لكنه يحمل داخله ضجيج الذكريات، وسكون الانتظار، وحفيف الأحلام العالقة بين الأرض والسماء، وفي قصيدتها “لغة المطر”، لا تكتب الشاعرة د. نبيلة زباري نصاً شعرياً فقط، بل تخلق من المطر تجربة حسية متكاملة، حيث يمتزج الصوت بالصورة، والضوء بالظل، والحاضر بالماضي، في إيقاع موسيقي أقرب إلى معزوفة زرقاء تتهادى في الذاكرة.

منذ افتتاحية القصيدة، يدخلنا النص في عالم الحركة والذاكرة والتفاعل الحسي مع المكان، الشوارع ليست مجرد مشهد، بل حالة شعورية، والمطر ليس مجرد قطرات، بل هو لغة تعيد تشكيل الزمن والمكان والمشاعر، حيث تتماوج العبارات كما تتماوج الانعكاسات على الأرصفة المبللة، الشاعرة هنا لا ترسم بالكلمات فقط، بل تعزف بالمطر، وتغزل بالحنين، وتترك للقارئ مساحات واسعة ليعيش التجربة لا أن يقرأها فقط، فتقول في مفتتح قصيدتها:

بين الشوارع القديمة..

 والمقاهي الناعسة..

ورائحة الحنين..
تسير..
تعزف خطواتك لحناً في قلبي
تغمرك لغة المطر..
يبللك الإحساس المنهمر..
تتهجاك أبجدية الرذاذ..

البناء اللغوي: لغة تتدفق كما يتدفق المطر

تتسم لغة القصيدة بالانسيابية والتكثيف الشعري، حيث تنساب الجمل كما تنساب قطرات المطر على سطح نافذة أو على حجر قديم في شارع منسي، لا تستخدم الشاعرة تراكيب معقدة أو لغة متكلفة، بل تترك الكلمات تتدفق بحرية، مما يجعل القصيدة أقرب إلى موسيقى زرقاء تنسجها الطبيعة نفسها.

صوتي معك…

متمرغاً في موسيقى الهطول/ البوح..

أخبرك شيئاً.. وشيئاً.. وأشياء..

يتكرر الفعل في تصاعد موسيقي يشبه قطرات المطر عندما تبدأ خفيفة ثم تتزايد حتى تملأ المساحة كلها. هذه التكرارات ليست مجرد أدوات إيقاعية، بل هي أسلوب لخلق الإحساس بالحركة والامتداد، وكأن الزمن في القصيدة ليس ثابتاً، بل يسيل كما يسيل المطر، كما أنه ليس زمن خطياً، بل هو دائري، يعود عبر الذكرى والحنين، ويمتد كما تمتد المياه لتصل إلى لحظة اللقاء أو الكشف أو المصالحة مع الذات والعالم، إنه زمن معلق بين الواقع والحلم، بين ما كان وما سيكون، وبين اللحظة العابرة والتأمل الطويل.

اللغة المتحركة في “لغة المطر”: تدفق كالماء وانسياب كالرذاذ

إحدى أبرز سمات قصيدة “لغة المطر” أنها لا تكتفي بوصف المشهد، بل تجعل اللغة تتحرك كما يتحرك المطر، تنساب كما ينساب الماء، وتتغير كما تتغير ألوان السماء عند الهطول، فالكلمات لا تبقى في مكانها، بل تتقدم وتتراجع، تهطل ثم تتبخر، تصمت ثم تبوح، وكأنها تعيش حالة التفاعل الحي مع الطبيعة والمشاعر.

يتجلى هذا الإحساس بالحركة في:

  1. الأفعال الديناميكية التي تمنح القصيدة نبضاً مستمراً

تتكرر الأفعال التي تعكس التدفق والزمن غير المستقر، مثل:

تسير..” – “تغمرك..” – “يبللك..” – “تتهجاك..”

هذه الأفعال ليست ثابتة أو جامدة، بل تعكس حركة متجددة، وكأن القارئ يسير بالفعل تحت المطر، ويشعر بتساقط القطرات على روحه قبل أن تلامس الأرض.

  1. التكرار الذي يخلق موجات صوتية تشبه إيقاع المطر

نرى هذا في:

تمتد.. تمتد..”

هذا الامتداد ليس مجرد تكرار لغوي، بل هو انعكاس للحالة الشعورية في القصيدة، حيث يشعر القارئ كما لو أن المطر نفسه لا يتوقف عن الهطول، بل يمتد إلى ما بعد حدود النص، وكأنه يسري في الذاكرة والوجدان.

  1. التداخل بين اللغة البصرية واللغة السمعية

في القصيدة، تتحول الكلمات إلى صور والمشاهد إلى أصوات، كما في:

تعزف خطواتك لحناً في قلبي

هنا، لا تصبح الخطوات مجرد حركة جسدية، بل موسيقى داخلية تتردد في الإحساس، وكأن المشي تحت المطر هو نوع من العزف العاطفي على أوتار القلب.

  1. تأثير الرذاذ اللغوي على القارئ

كما أن المطر لا ينهمر دفعة واحدة، بل يأتي على هيئة رذاذ خفيف يتزايد تدريجياً، فإن لغة القصيدة تتشكل بنفس الطريقة:

أخبرك شيئًا.. وشيئًا.. وأشياء..”

تتكثف المعاني كما تتكثف الغيوم، ويتدرج الشعور كما يتدرج هطول المطر، مما يجعل اللغة حيّة، متحركة، ومتغيرة كحالة الطقس نفسها.

  1. التفاعل بين الجسد والطبيعة عبر اللغة

في هذه القصيدة، المطر لا يلمس الأرض فقط، بل يتداخل مع الجسد والإحساس، كما في:

يبللك الإحساس المنهمر

هنا، لا يكون المطر مجرد عنصر خارجي، بل يتسرب إلى الداخل، إلى الذاكرة، إلى المشاعر، فيصبح المطر ذاته إحساسًا يسكن الجسد كما يسكن المكان.

اللغة كجسد حي في القصيدة

إذا تأملنا القصيدة ككل، سنجد أن اللغة لا تبقى محصورة داخل جمل مستقرة، بل تتنفس، تتحرك، تتوسع وتنكمش، كما لو أنها كائن حي يتفاعل مع القارئ ومع المطر نفسه.

اللغة في “لغة المطر” ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل هي كيان متحول، يتمدد مع المطر، يتوقف كما تتوقف القطرات للحظة، ثم ينهمر مرة أخرى، في دورة لا تنتهي من الحركة والانسياب والتجدد.

الموسيقى الزرقاء في لغة المطر

القصيدة لا تعتمد على إيقاع عروض تقليدي، لكنها تمتلك موسيقى داخلية تتماهى مع المطر نفسه، إن “الموسيقى الزرقاء” في هذا النص ليست مجرد نغمة سمعية، بل هي إحساسٌ يتولد من تداخل الصمت والصوت، الضوء والظل، الحنين والانتظار، المطر دائماً ما يرتبط بالأزرق، لا بل هو صورة موسيقية تتكرر في الفنون كلها كمعادل للأحلام والتأمل والانتظار.

تمتد.. تمتد.. إلى سلم، وتمتد.. تمتد.. إلى لقاء

هنا، نلاحظ كيف يتمدد الصوت كما يتمدد المطر في الأفق. هذا البناء الموسيقي لا يعتمد على القافية أو البحر، بل على الإيقاع الداخلي الذي يجعل القصيدة تنساب في ذهن القارئ كما ينساب اللحن على أوتار الزمن.

يمكن للمقطوعة البيانو “حدائق تحت المطر” لكلود ديبوسي أن تكون الموسيقى المصاحبة لهذه القصيدة، حيث تتشابه معها في التدرج الحسي بين خفة القطرات الأولى ثم تصاعد الإيقاع حتى يصل إلى ذروة موسيقية ثم يعود إلى همس مائي ناعم.

الصور الشعرية: المطر ككائن حي يتفاعل مع الوجود

تعتمد زباري في نصها على الصور الحسية والديناميكية، حيث لا يكون المطر مجرد خلفية، بل كائناً حياً يتفاعل مع الإنسان والمكان.

هذا النحل.. يرقص حول وسن الهواء لفرط العسل.. ولون أخضر يصلي على سجادة الزيتون..

هنا، تتحول عناصر الطبيعة إلى كائنات حية متفاعلة. النحل لا يكتفي بجمع الرحيق، بل “يرقص”، مما يضفي حركة إيقاعية على المشهد، الهواء لا يمر ساكنًا، بل يغرق في وسنٍ ناعم. اللون الأخضر ليس مجرد صفة بصرية، بل هو كائن يصلي على سجادة الزيتون، مما يمنح الطبيعة طابعاً روحانياً يتجاوز مادية المشهد.

التقاطع مع الفنون التشكيلية والسينما

في القصيدة كما في الفن التشكيلي، يمكن أن نرى المطر كعنصر ينقل المشهد من حالة إلى أخرى، تماماً كما هو الحال في لوحة “شارع باريس تحت المطر” للفنان غوستاف كايليبوت، الضوء ينعكس على الشوارع المبللة، تماماً كما ينعكس الحنين في قصيدة زباري على الأرصفة القديمة، المطر هنا ليس مجرد ماء، بل هو مرآة تنعكس فيها الذاكرة.

أما من ناحية السينما، فالقصيدة تمتلك حركة بصرية وتدفقاً زمنياً يجعلها أشبه بمشهد سينمائي طويل، حيث يبدأ الأمر بمطر ناعم على الشوارع القديمة، ثم يتصاعد المشهد حتى يصل إلى البحر والسلام والغفران، والإضاءة فيها متدرجة تبدأ بملامح الليل والمطر، وتنتهي بنور اللقاء، مما يخلق تناغماً بين الظل والضوء، الحزن والأمل، وأعتقد أن فيلم “في مزاج للحب” للمخرج وونغ كار واي يمكن أن يكون معادلاً بصرياً للقصيدة، حيث المطر لا يستخدم كخلفية جمالية فحسب، بل كعنصر درامي يعكس التوتر العاطفي والمشاعر غير المنطوقة بين الشخصيات.

البعد الفلسفي للمطر في القصيدة

المطر في هذه القصيدة ليس مجرد ظاهرة طبيعية، بل هو وسيط بين الأزمنة، إنه جسر بين الماضي والحاضر، وبين الحنين إلى ما مضى والخوف مما هو قادم، الشوارع القديمة والمقاهي الناعسة ليست مجرد أماكن، بل هي ذاكرة تستيقظ كلما هطلت أولى القطرات.

لعل البحر يعبر الحقول والجزر، يفك عن موجه الحصار“..

البحر هنا مقيد لكنه يسعى للتحرر، تماماً كما أن الإنسان محاصر بذكرياته لكنه يبحث عن السلام الداخلي. المطر لا يرمز فقط إلى الغسل والتجدد، بل أيضًا إلى التوق للانعتاق من الماضي والتحرر من قيوده.

لغة المطر كنص يتجاوز حدود الشعر

حين تصل القصيدة إلى نهايتها، لا يكون المطر قد توقف، بل يكون قد تحوّل إلى نسيج ممتد من الحب والغفران واللقاء المحتمل.

تمتد.. تمتد.. إلى سلم، وتمتد.. تمتد.. إلى لقاء

هذا الامتداد الزمني ليس مجرد استمرارية مكانية، بل هو توق شعري إلى ما وراء المشهد، إلى ما هو أبعد من الكلمات، إلى ذلك المكان الذي يكون فيه المطر لغة خالصة، ويكون الحب مسافة ممتدة بين الأرض والسماء.

“لغة المطر” ليست مجرد قصيدة، بل هي تجربة حسية مكتملة تتقاطع فيها الكلمة مع اللون، والصوت مع الصورة، والزمن مع الحنين، إنها نص يثبت أن الشعر لا يُكتب فقط بالحروف، بل يُكتب بالماء والضوء والذاكرة.

 

النص

لغة المطر

نبيلة زباري

بين الشوارع القديمة..

والمقاهي الناعسة..

ورائحة الحنين..

تسير..

تعزف خطواتك لحناً في قلبي

تغمرك لغة المطر..

يبللك الأحساس المنهمر..

تتهجاك أبجدية الرذاذ..

 

صوتي معك…

متمرغاً في موسيقى الهطول/ البوح..

أخبرك شيئاً.. وشيئاً.. وأشياء..

أهمس لك

كي لا تسمعنا الأرض

بل

كي يتسامى الهمس الى السماء..

 

بين الشوارع القديمة..

تسير..

تساوم الطريق..

والزهور الأرجوانية

تناجي أصص الفخار..

أحجار الممرات

تعد السنين على وجهها..

والمنعطفات

باذرة الصدى

ترسم صورة لشوق يسيل

على جبين النهار..

 

هذا النحل..

يرقص حول وسن الهواء

لفرط العسل..

ولون أخضر يصلي

على سجادة الزيتون..

فالحمائم تنتظر..

لعل البيادر تسافر

الى بقعة تحضن نبوءة.. السلام..

لعل البحر

يعبر الحقول والجزر

يفك عن موجه الحصار..

ويرفع الأبيض راية.. وياسمين..

 

فتسمع نبضي هناك..

يغزل المطر بالأشرعة..

وينسج للشوارع القديمة

أبسطة الرذاذ

أبسطة.. كالحب.. في بهو الغفران..

تمتد.. تمتد الى سلم

وتمتد.. تمتد .. إلى لقاء

 

 

مقالات من نفس القسم