وقف رجال الشرطة بالباب و معهم مندوب عن عائلة الأستاذ شكري و صحبة لا بأس بها من السكان تتقدمهم بشرى بوجه ملهوف يبدو عليه التوتر أكثر من الجميع.
بينما وقف الجميع يتأملون المشهد في دهشة إذ كانت الشقة عبارة عن صالة كبيرة تتوسطها بعض الأعمدة و تتراص حول محيطها الآلات الموسيقية بجميع أنواعها و معلقة على الحائط لوحات لآله فرعونية,حيث قام الأستاذ شكري بهدم الحوائط الفاصلة بين الغرف ليصنع منها هذه الصالة الكبيرة , وحدها بشرى كانت تعرف جغرافيا الشقة جيدا لذلك لم تشاركهم الدهشة و توجهت فورا نحو الغرفة الداخلية الوحيدة الباقية على حالها, وأطلقت صرخة ألهت الجمع المندهش عن أمر الشقة و أتجهوا ناحية صوت الصرخة فوجدوا ما كانوا يتوقعونه فلم يندهش أحد.
منذ أن تقاعد الأستاذ شكري عن عمله كمدرس للموسيقى بمدرسة الخديوية و هو منعزل عن الناس لا يزور أحدا ولا يزوره أحد, فقط يذهب في بعض المشاوير عصرا ليعود منها بعد العشاء, عرفت بعد ذلك أنها زيارات لشارع محمد علي حيث يوصي بعض معارفه هناك بشراء آلات موسيقية مستعملة, كان قد قرر دون إعلام أحدا أن ينشئ مركزا لتعليم الموسيقى في شقته و كان ينفق مكافأة التقاعد و المعاش في سبيل إنجاز مشروعه, لم يكن يدخل الشقة أحدا بإستثناء بشرى حيث كان يطلب منها تنظيفها مرة في الشهر بعد إنتهائها من مهمتها الأساسية في مسح سلم العمارة.
يحمل حقيبته “الهاند باج” حتى مدخل العمارة, ثم يلقي بها لبضع درجات من السلم و يصعد ثم يعاود إلقائها مرات حتى يصل إلى باب شقته في الدور الثالث, إذا صادف صعوده يوم مسح السلم كانت بشرى تحمل عنه الحقيبة حتى لا يبلها الماء المتسرب من مسح الأدوار العليا, يسمع خرير الماء على درجات السلم فيناديها لتحمل عنه الحقيبة, يستقبلها بابتسامة و يقول:”عارفة يا بت أنك شبه حتحور”
وجه دائري ووجنتان بارزتان وعينان واسعتان مع خط الكحل فوقهما وضفيرتان تشبهان قرنا حتحور
تضحك هي و ترد: “الله يجبر بخاطرك و دي حلوة بقى على كده يا أستاذ”
فيقول :”هابقى أوريكي صورتها”
و يظل يغازلها بدور الشيخ سيد درويش”خفيف الروح بيتعاجب برمش العين و الحاجب” حتى يصل للدور الثالث فيدخل شقته و يبدء في عزف نفس الدور الذي كان يغازلها به إلى أن تنتهي من مسح باقي الأدوار,كان يعتبر هذه الموسيقى مكافأة لها على مهمتها الشاقة هزيلة الأجر و التي كانت بعض الجارات يفاصلنها في دفعه, تشتكي بشرى له كثيرا من مضايقات الجارات فيقول لها: “يا بت سيبك دي غيرة حريم” ثم “تعالي اسمعي الحته دي” و يُكمل العزف.
بعد موت الأستاذ شكري و انتشار الحكايات في الحي عن مشروعه انتاب الفضول ذلك الصغير المولع بالموسيقى, فأصبح يتسلل إلى شقة الأستاذ يحرك لسان الباب بمسطرته المدرسية و يفتح الباب ليدخل إلى عالم الموسيقى و يجرب جميع الآلات, بينما ظلت بشرى تظن أن روح الأستاذ تغازلها من خلف الباب.
*قاصة مصرية