من “سيرة الكائنات”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 كسبَت أصدقاءً لم يخطروا على بالها، من بينهم شخص ميت، ورثت زوجته كل متعلقاته، حتى صفحته على الفيس بوك.

بين يوم وليلة وجدت السيدة زهرة ميتًا يتكلم، وأحيانًا يضع صورته وينعى نفسه، ويؤكد أن الفراق صعب. يرد الناس بالتعليق والدعاء بالرحمة له، للوهلة الأولى صدقت السيدة زهرة أنه يتحدث من العالم الآخر، بدا الموت المعاصر رحيمًا، والموتى في إمكانهم التواصل مع عالم الأحياء بإشارات يفك الإنترنت شفرتها ويبثها للجميع. إنهم لن يكتفوا بالظهور في الأحلام والكلام عن الحياة. إنما يحلوا بالبركة الإلكترونية.

 هاتف سعيد ضمن مقتنيات حصلت عليها زوجته، في قلبها خوف وحزن مكتوم، لكنها حينما سمعت صوت الكيبورد، بدا كل زر مثل صوت ضغطه المسدس، فضغطت عليه وقتلت به الخوف، ثم قتلت الحزن عن طريق نشر الكلمات واستلام المواساة من المحيطين.

استعملت الكيبورد يوميًا لإطلاق مشاعرها به، كتبت على صفحته عن الصبر والفراق، ثم نشرت صورًا لزوجها. كلما اشتدت الوحدة، وقلت النقود، ضغطت على مناطق الإطلاق بالكيبورد وطيَّرت كلمات في هذا الفضاء منتظرة أن تقرأ كلمات المعزين وتبكي بعد أن ينام أولادها.

من أحد أركان العالم تابعتها السيدة زهرة في صمت، ولم تعرف الأرملة الحزينة أن هناك وجوهًا خفية وراء الشاشات تتفرج عليها، أو تتابع تاريخ حزنها وتفاصيله، فظنت أنها وحيدة، وحكايتها تموت في صدرها دون أن يسمع بها أحد. لكنها في الحقيقة كانت تهز الكثيرين، تحرك قلوبهم ليطمئنوا عليها كيف تعيش، يستيقظوا بأمل عندما يعرفوا أنها تسلمت عملاً جديدًا في شركة سعيد، ويتنفسوا الراحة وهي تسدد أقساط مدرسة الأولاد بنجاح، وتعلق شهادة نجاحهم فوق كنبة البيت، حيث كان يجلس سعيد.

تعلمت السيدة زهرة من “قمر الزمان” السرقات الوهمية. وكيف يمكنها البقاء في الحياة بشخصية كاملة رغم أن أحدهم سرقها في العالم الافتراضي. السيدة زهرة هي من تريد السرقة هذه المرة، ألم تتعود على السرقة دائمًا، وهي تستعير أصوات الناس وتؤدي حوارات تنسبها لهم.

إنها لن تؤذي أحدًا، فقط تتفرج على زوجة سعيد الأسعد، وتضع نفسها مكانها، أضافت له كلمة الأسعد، لأن لديه امرأة ترثوه بكل هذه المحبة. السيدة زهرة بعد نوم الأولاد تفتح شاشتها، تمد يدها وتسرق سعادة الأرملة الماضية، ثم تجرب وهي تُنزع منها وتصبح مفقودة.

سعيد رجل بسيط وفقير، لا يلفت نظر أي امرأة. عندما تتأمله السيدة زهرة بعد قراءة كلمات زوجته يبدو فقيرًا ومهلهلاً وبلا قيمة، وأيضًا مخفيًا في ثياب تحميه من اكتشاف القوة الكامنة في عينيه. إنه أمير، لديه حب ودفء ينبتان من عينيه المتهالكتين، لكن ملابسه الرثة لم تلفت أحدًا إليه سوى زوجته.

تعيد نشر صورًا له مع أطفاله وهم بملابس العيد فوق كتفه، يضمهم بشدة فوق الكنبة، صوره  في مواقع العمل يرتدي خوذته، يكرمه المديرون، يتلقى شهادات التكريم بذقن غير حليقة وبملابس مهملة، لكنه يخفي سره في عينيه، عين واسعة وعميقة، رغم أن إطارها يبدو ضيقًا. “الرحمة عليك يا زوجي الحبيب” ترثوه.

تضع صورًا جديدة لأبنائه، تتابع نشر تكريماتهم في المدرسة، في الحفلات، وفي الأماكن التي يذهبون إليها، هاجس يخبرها أنها تفعل ذلك ليراهم أبوهم. تحس بونس روحه على صفحته الإلكترونية، كأنه يمد ضلوعه ويحضنهم هناك.

يعلق الأصدقاء والأقارب والجيران بالرحمة، لم تعد الأرملة حزينة. حينما تغضب من حياتها، تتذكر أن لديها حياة افتراضية أخرى تقيمها على الفيس بوك، فتبحث عن صور جديدة، لكي تمد في الذكرى.

تنكر نفسها، فكل تعليقاتها وكلامها منشور باسم زوجها، لكن الناس تخاطبها، وتكشفها من وراء الكلمات، فلم يتمكن ميت من انتحال الحياة من قبل، والجميع يدرون أنها زوجة تنزل تحت جناح زوجها وكنفه على طريقتها.

هاتفه موجود على المائدة، يعني أن أصابعه تحيا في المكان، وستمتد إليها بعد لحظات. تترك الهاتف على المائدة وتتابعه، ربما يمر كف أسمر جاف ومتعرق في ظلام الليل لإضاءة شاشة صغيرة. لكن الهاتف لا يتحرك من موضعه، بل يموت ويصدر صوتًا لإعادة شحنه. تمده بالكهرباء، فيعيش الهاتف يومًا جديدًا لوريثة تخشي أن تفقد كلمة السر فتفقد آخر صفحة تطل في قلب زوجها.

السيدة زهرة تجلس مساءً تظن نفسها زوجة سعيد، تتقمص صوت أرملته، تقول كلمات على لسانها، تبكي وتتكلم عن الأولاد بدون أبيهم والبيت والهم، تتخلص السيدة زهرة من أحزانها أيضًا في الطريق وهي تفعل ذلك، تنام مرتاحة تاركة الفوضي في الغرف، ومتبرمة من كل ما تجمعه من القمامة وأطباق المطبخ والخزانات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صادرة مؤخرًا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة 

مقالات من نفس القسم