فصل من رواية “في انتظار يوم القيامة”

في انتظار يوم القيامة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد أبوالدهب

   أظنني سمعت صفير القطار.

   أدعك رأسي بالصابونة، متجنِّبًا ماء الدُّش الوافر السريع، ثم أستبيحه جسمي مع انتفاش الرغاوي، ليفيض عليه، من شعري حتى قدميّ. في أثناء ذلك، فكرتُ أنّ علاقتي بالماء تنقطع بموتي. حلّتِ الفكرة كمعضلةٍ أخرى من معضلاتي القواهر. استدركتُ على نفسي، مستغفرًا الله من جديد، مستشرفًا الأنهار التي تجري من تحت الجنَّات.

   أظنني سمعت صفير القطار.

   وأظنني انتبهت إلى حقيقة ما أفعل. إنني أستحمُّ على طريقة مرضَى (الوسواس)، الذين لا نحجزهم عندنا، في المستشفى، إلا إذا قضمَ الوسواس من أدمغتهم بأضراس الضلالات والهلاوس. إنني عارفٌ مستبصر. قلت لماذا لا أدعك رأسي بالصابونة، متجنِّبًا ماء الدّش الوافر السريع، ثم أستبيحه جسمي مع انتفاش الرغاوي، ليفيض عليه، من شعري حتى قدميّ. أدعكُ بيدٍ. وبالأخرى، العمياء، أطارد أشباح الفيروس، في هواء الحمّام، الكثيف جدّا، غير أنه لا يشغل حيّزًا من الإعتام الذي يحيط بي. رحت أظنّ وأقول وأدعك، إلى أن استحالت الصابونة في يدي مثل “أستيكةٍ” صغيرة، انبرتْ حوافُّها من كثرة الشطب. أوقفت الماء وخرجت. استقبلتني زوجتي:

-العصر أذّن، والغدا برد، إنت نمت في الحمّام؟

   صلّيت العصر.

   وسمعت صوت القطار، واهنًا، ومُلحًّا.

   مكروبٌ يطلب النجدة.

   خفتُ، ورأيت الساعة على الحائط. ليس هذا موعد صعوده إلى “ميت غمر” ولا نزوله إلى “بنها”. سألتُها إن كانت تسمع الصوت كما أسمع. تهلّل وجهها، ثم ارتسم بطابع الجدّية، كاتمًا الضحك. فعرفتُ أن لديها خبرًا، تثق بأنه ليس لديّ. سَجَّلتُ لها لقطةَ تفرُّدها بالخبر العاجل. اللقطة الأثيرة، مِن أول يوم، من أول ليلة. انتظرتْ كأنما تتخيّر طريقةً للكلام، ثم تكلّمتْ:

-انت معرفتش؟ القطر عطلان في المحطة من الصُّبح، والسواق استنّاهم يبعتوا جرّار من “بنها”، يسحبه، لما اتأخّروا ساب القطر وراح هو يجيب الجرّار، مرجعشي، والعيال طول النهار يلعبوا في القطر ويزمَّروا.

    على الغداء، أكلت بشهية، كما لو أني لم أسمع بموت الأستاذ “خالد”. لست من هؤلاء، الذين حين يوضع لهم الطعام في الظَّرْف الحزين، يُحدّقون إلى أصنافه باستنكار، ويتنهّدون تنهيدةً أعمقَ من العاديّ، ثم يشيرون بأكفّهم إشارة الامتناع:

-شيلوا الأكل ده، ما ليش نِفس.

   الحزن قائمٌ مقيم. والجوعُ مَقضِيٌّ به.

   إذن: كُلْ جيّدًا، تحزنْ جيّدًا.

   في الفرندة، أشرب الشاي، وأدخّن. أحاول هشَّ طنين الرغبة في النوم، متسمِّعًا نداء مسجدٍ من المساجد. متى تصل جثة الأستاذ “خالد”؟ أودِّعه، وأغلق صفحته. أطوي كتابه، كله. اقرأْ كتابَك يا أستاذ “خالد”. وأنا أقرأ كتابي. أنا أدرَى بالروح المُنتكِسة المقترنة بي. لو أُنزلتْ آيةٌ من الآيات على قبره، الليلة، فهل أنام قرير الهواجس؟

   لا أسمع إلا صفير القطار.

   قد انقلب نواحًا محمومًا.

   إنه طفل الشيطان، مَن يضغط بوقَ السارينة. هَممتُ بسدِّ أذنيّ، فتذكّرتُ “سمير”. هذا يومٌ من أيامه القديمة. يومٌ من أيامي الجديدة. لا بدّ أنه لا يفعل الآن غير سَدّ أذنيه. لماذا لا يحشوهما قُطنا؟ أو يهاجر من “ورورة” اليوم، كما يهاجر الأنبياء؟

**

   لم أترك كنبة الفرندة إلا لصلاة المغرب، على السّجّادة في الصالة، ثم صلاة العشاء. شربتُ نصف علبة السجائر مع شاييْن وقهوة، في أثناء انتظاري. وناوشني الندم لأني جاهدتُ نومة القيلولة. هل دفنوه في غفلةٍ مني؟ نادوا في ميكروفونات مساجد الأطراف، ولم تلتقط أذني الصوت؟ أذني التي يشاغلها نواح القطار المعطَّل. أقارب الأستاذ “خالد” قليلون، ومعظمهم يسكن بعيدًا، في المدن. لن يفطنوا لضرورة إرسال ثلاث عشرة ورقة، إلى ثلاثة عشر خادم مسجد، ليتم إعلام أهل البلد جميعهم. ربما لم ينادوا أصلا، تفاهما مع الكورونا، أو كما جرَتْ عاداتُهم في جنائزهم. جاءوا به من التأمين الصحيّ، في سيارة الإسعاف، مسبوقةً بسياراتهم، إلى المقابر مباشرة. وكما جاءوا ذهبوا.

   اتّصلت بعمّي “أبو العينين”. قال إنه لا يعرف. على الأغلب، لم يُدفن بعد، وإلا كان عمِّي عَرف. وضعتُ كمامة في جيبي، وخرجت أقف في الشارع، أستطلع. ليس إلا السكون والخلاء. ألجأتْ “كورونا” الناسَ إلى بيوتهم. وحدي في الشارع، كبطلٍ بلا بطولة، كأنما أدعو الفيروس للخروج من مخبئه، ومبارزتي بشَرَف. أيكون التَّدرُّع بحيطان البيوت ضربًا من التَّحايل لحسمِ اختيارٍ بين أمرين، لا خيرة بينهما إلا كالتَّضرُّع الميئوس من عائده: المرض، والموت؟

   المرضُ رُقيةُ الموت وزُلفاه،

   والموتُ اكتفاءُ المرض ورَبيبُه.

   لماذا لا أفرُّ إلى بيتي، أغلق بابي بالمتاريس، عليَّ وزوجتي؟

   ويروحُ الأستاذ “خالد”، وحيدًا، أو رفقة خياله، المُخيَّر لا المُسيَّر، إلى حقيقتي التي آمَنَ بأنها اختراعي الموازي.

   تُرى، أيُّنا أحسنَ الإيمانَ؟.. أستغفر الله!

   وما يدريني؟ لعلَّ الأستاذ “خالد” وقع في غرام الموت، من أوَّل شهقة.. أستغفر الله!

   على سُلّم الفرندة القصير، ألقيتُ نظرةً أخيرة على الشارع: الأرض عامرةٌ بمقابر الدارَيْن معا.

   فتحتُ الكمبيوتر. ليتني أكتب قصةً قصيرة. كتبت: (في انتظار يوم القيامة). أعطيته عنوانًا لملفٍّ جديد. لم أكتب إلا جُملا منتثرة، لا تستقيم وطلاقة الهاجس: (أتسلّى بالوجبات المحبوكة، المشطشطة، على الغداء والعَشاء، من تفانين زوجتي، على رجاء الخروج من الأجداثِ إلى ربهم ينسِلون/ فحصُ الكرات العرضية والتسديدات من خارج المنطقة، في مباريات الزمالك، إحدى الخمس المصبِّرات، لِحين المثول، عاريا، أمام الله، في عَرَصات القيامة تحت الشمس الدانية/ على المصطبة، أقعد متربّعا، أضعُ السِّجلَّ الكبير في حِجْري، أفتحه، والقلمُ مَحلُّه القلب، أدوِّن انصرافهم إلى حيث يُحال بينهم وبين ما يشتهون، كما فُعِلَ بأشياعهم من قبل، واحدًا تلو آخَر)………….. حذفتُ الملف.. والخمس المُصبِّرات ناقصات.

   لم أكتب، ولم أقرأ. مع ذلك تسرَّب الوقت. أذان الفجر بعد عشر دقائق. قرّرت الذهاب إلى المسجد. لا تزال المساجد مفتوحة (هل أنا أكيد؟) أنا مَن أغلقها، يومًا أو بعض يوم، لغرضٍ في النفس.

   متى يُقال للنّفس: “نفسٌ مطمئنة”؟

   إن صلاة الفجر ليست صلاةَ جمعةٍ، ولا جنازة. فقط، أذهب متوضِّئا، حاملا سجّادتي، واضعًا الكمامة.    

**

   وقفتُ أعاين واجهة مسجد “أم المؤمنين”. لا أحبّ الصلاة في هذا المسجد. لا أعلم إن كنت سأُحاسَب، يومًا ما، على تصريحي هذا. إنه الأقرب إلى البيت. أضطرّ أحيانا إلى وُلوجه، حين أحسُّني مُفرَّغًا من الطّاقة للمشْي والحوار. “سمير” أيضا يخاف من الصلاة فيه. تراجعَ خطوةً عني، ودفعني في ظهري، يهمس:

-إمشي على طول.

   كنا حاذينا باب المسجد. وهو كان أخرجني من البيت، بندائه الجهوريّ، لنصلّي. لم أسأله. فقط أخّرتُ له الخطوة، لنكمل سيرنا، متكاتفَيْن، إلى حيث يأمرُه هواه. يتجمّع في مسجد “أم المؤمنين” سلفيُّو “ورورة”. مَن يسكنون في الأطراف، يشُدّون الرِّحال إليه، بالدرّاجات والموتوسيكلات. كأن الصلاة لن تُرفع إلى السماء السابعة إلا من تحت سقف مسجد “أم المؤمنين”. لا أنكر أني، حين أدخل من باب المسجد، وأسير في الطّرقة الطويلة، الموصولة بالساحة، أتخيّل، لسببٍ مُضمَر، أني من قاطني “يثرب”، أيام الرسول والصحابة. تكاد دموعي تسيل من الشَّوق المُبهَم. لكنّي أراهم، مع بلوغي الساحة. معظمهم من الشباب، وأصغر. ملتحون، حتى أولئك الذين نبتَتْ لهم، فقط، شعيرات معدودة، متناثرة، في ذقونهم. يؤذّن مؤذّنهم، فيصلّون ركعتي السُّنة بمقام ستِّ ركعات أو أكثر من ركعاتي، ثم تخوض فئاتٌ منهم في حواراتٍ فقهية، سواء أكان فقه الشّرع أم فقه الواقع. بعضهم يقوم إلى المكتبة، يسحب مصحفًا، ينتقي ركنًا، يتربّع ويبدأ القراءة كأنه ينظّم وقت فراغه. واحدٌ مثلي ترتبك ذاكرته، فيراجع الأحداث من لحظة حلوله بالمسجد. يتبيّن إنْ كانوا صلّوا الفرض من دونه. أخيرا، تُقام الصلاة، فيتصدّى إمامهم لإطالة كلّ أركانها الأساسيّة وسُنَنها المُكمّلة. بعد التسليم، تزلُّ يدك، فتنعطف نحو يد جارك، طامعةً في مصافحةٍ سريعة، مقرونة بدعاءٍ مكثّف:

-حَرمًا.

   يعيدها إليك جارُك، أسرع من سرعتك، في رعاية قرارٍ فقهيّ مُحكَم:

-يا أخي المصافحة بعد الصلاة بدعة.

   تهزّ له رأسك، أو تبتسم، مداراةً لجهلك. يهديك شعورك بالخجل إلى القيام، كأضعف الإيمان، لتخرج بلا عودة. لكنّ جارك، حتى لو لم يكن أكبر من مجرّد طفل، يمسك بطرف جلبابك، ويُقعدك مكانك:

-إختم الصلاة يا شيخ.

   فتنزل، ثانيةً، على ركبتيك، مكافحًا الفصلَ بين ختمها كعقوبةٍ أُجبرت عليها، وختمها طمعًا في زيادة الثواب.

**

   في الشارع، طردتُ كل الأفكار، إلا المصير، الذي لا يزال مجهولا، لجنازة الأستاذ “خالد”. لم أفزع، ولم أتعصّب، عندما باغتني “سمير”، يضحك، ويطلب المصافحة:

-حَرمًا.

   صافحته. راح يحلف بالله، شاهرًا سبّابته:

-والله العظيم صدفة.

-جمعًا.. بس أنا لسه مصلّيتش.. المسجد مقفول.. والشيخ “حمدي” قال في الأدان (صلّوا في رحالكم).

-أنا كمان مصليتش.. جامع “سيدي عرفات” مقفول من جوّه.. فِضِلت أخبّط محدّش فتح لي.. الواد “سلامة” ما قالش (رحالكم).. قال (بيوتكم).. قلت أتمشّى شوية، لقيتك قدّامي.

-إيه رأيك تيجي معايا البيت، نصلّي، ونفطر، ونشرب الشاي، ونولع سجاير لحد ما اخرج عالمستشفى.

   في الفرندة، صلّينا الصبحَ جماعة. أكلنا، وشربنا الشاي، وأشعلنا السجائر. وسمير كان عنده ما ليس عندي. قال إن الأستاذ “خالد” له ابن عم، يعيش في “شبرا الخيمة”. شيخ من المشايخ الكبار. كان يفسِّر الدّين في التليفزيون، ويلفّ البلاد، يخطب في مساجد “السُّنّية”، إلى أن منعتْ مباحث أمن الدولة ظهوره في التليفزيون، والتصريح له بالخطابة. في المستشفى، طلبوا من الأستاذ “خالد” رقم محمول أحد أقاربه. أعطاهم رقم ابن عمه. ولما مات اتّصلوا به. الرجل لم يتأخّر. حضر إلى المستشفى مع اثنين من أبنائه. كان في انتظاره عاملا المشرحة. أرادا الاتفاق على المبلغ، من أجل التغسيل والتكفين وخلافه، خاصة أن الحالة “كورونا”. الشيخ قال إنه هنا، فقط، للدفن، لأن تكريم الإنسان، بدفنه حين يموت، واجبٌ شرعيّ بغضّ النظر عن ديانته، ويتحتم هذا الواجب مع صلة القرابة. أما التغسيل والتكفين ثم صلاة الجنازة، فلا تكون إلا لموتى المسلمين. عاملا المشرحة لم يفهما أيّ شيء. ينظران إلى الرجل بلحيته الطويلة الناعمة، المخضّبة بالحنّاء، وزبيبة صلاته العريضة، المفروشة على جبينه كحصير، وكلامه الطليق المُرتّب، والنور الذي يسطع به وجهه مثل اللمبة. الوجه الذي يحفِّز أحدُهما ذاكرته، من لحظة وقوع عينه عليه،  لتعترف أين ومتى خزّنتْ هذا الوجه من قبل. ثم ينظران إلى أوراق المتوفّى، ويطالعان: (الإسم/ خالد محمد أحمد.. الديانة/ مسلم). ثم يقرفصان حائرَين، ساكتَين، بين الشيخ والجثة. وسمير قال:

-اللخبطة دي هيّ اللي أخّرت الجنازة.

   جالَ في بالي، أن “سمير” يبتلع أقراصه، بانتظام، هذه الأيام.

…………………..

  • صدرت الرواية هذا الأسبوع عن دار الناشر للنشر والتوزيع

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون