من رمال المسرح.. عن «موعود.. نوستاليجا سنوات الحرب والغرام»

موعود حجاج أدول
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أكرم محمد

بسرد أدبي، وبناء قصصي، ومزج بين السرد الأدبي والتقريري، ومشاعر تنبعث من رحم السرد، المراد به ثنائية السرد الإبداعي/التقريري، يخرج الكاتب النوبي حجاج أدول مشاعر تربض في الصحراء، تحمل من علاقة الأديب بالكتابة الغير أدبية الكثير؛ ففي كتابه الأحدث “موعود.. نوستاليجا سنوات الحرب والغرام”، الصادر عن دار ريشة، يكتب وكأنه يبكي على ورق ..

يسرد الكاتب النوبي كواليس “حليم”، وأغنيته، ومشواره الفني ومشواره في الحياة، ككل، من نظرة المواطن، والجمهور العادي، وليس بنظرة متعالية؛ ليزيد من حجم المشاعر، وعلاقتها بهذا النص، ويجمع بين ثنائية النظرة العليا الكواليس/ النظرة السفلى لها، التي تحتل الجزء الأكبر من النص، ويخرج من هذه النقطة لتعريف المتلقي، ونفسه أولا، بتأثير هذه الأغنية، التي ألف كلماتها محمد حمزة، ولحنها بليغ حمدي، وغناها عبد الحليم حافظ، على جيله، وينطلق منها ليبني نظرة فلسفية للنص، ترتبط بعلاقة الإنسان بالعشق والفراق والفن والتجريب والجيل والذكرى والزمن والموت وثنائية السعادة/الحزن والحقد وتأثير الماضي، والدين والأنثى، مما يؤكد أهمية العلاقات الإنسانية في النص، والرؤية الإبداعية، والفلسفية لها؛ ليؤكد الكتابة الأدبية القاطنة في النص، والمغلفة له، وبالأخص البناء القصصي، الذي يعتمد على التكثيف، وسرد المشاعر المكثفة، المركزة، ويؤكد على علاقة الفنون، وبالأخص الأدب بالإنسان، سواء بتقنيات النص الأدبية أو بالقول المباشر، مثل: « والكتابة الأدبية تعبّر عن الإنسان في حالته ما بين فرح وترح، ما بين قدح ومدح، ما بين ملهاة ومأساة تتوغل في جوانب الإنسان تتلمسها وتداعبها وتنشطها وتفرحها، وأحيانًا تعصرها وتضغط عليها، بل يصل تأثيرها لقوة اللكمات فترج جوانب الإنسان رجًّا».

ينتقل الكاتب بلغة تتطور بتطور الخلفية الزمنية، والمنطقة الجغرافية إلى ٢٠٢٠، وجلوسه للكتابة، وسماعه للأغنية الموعودة، والذهاب بالنوستالجيا للحكايات، ذات المشاعر، التي تحكي سنوات الغرام، والليلاء السرمدي، وتغريمه من الفرح، وقرينهم.. الغرام.

“هل يحيا في القبر؟

ثنائية فنية وبحث عن تجربة”

ثم ينتقل الكاتب إلى الهيكل الأساسي للنص، وهو المتكون من جزءين، أولهم البحث في تجربة عبد الحليم حافظ، من هذه النظرة الشاعرية، الرابعة في جيل، هو منه، ولكن الكاتب ليس فقط ابن جيل لكنه ابن إبداع أيضا.

أما الثاني فهو حكاياته، وحكايات جيله، وبالأخص أصدقائه.

لا يقع مشوار الفنان الشهير كخلفية لمشوار الحرب، من رؤية الفنان حجاج أدول، ولا يقع مشوار الحرب كخلفية لمشوار “حليم”، فيبني الكاتب كل فصل على أساس بناء معين لأهدافه؛ فهناك من يقبع في كلماته صوت حليم، مختلط بتجربة جيل، وهناك من يكمن به صوت الجنود في ليلاء طال، دون أم ولا خال، ويحكي آلامهم صوت الشاب النحيف، الذي عانى مثلهم من العشق، وعانى، أيضا، من المرض، وتمنى من الدنيا أن تسعده، فقال كلمات الشاعر محمد حمزة

وأمانة يا دنيا أمانة

تأخدينا الفرحة أمانة

ولكنها أبت إلا أن يموت..

وللجمع بين هذين يبدأ في الجمع بين التقريرية/ الإبداعية، في مزج يخلق نص تشد ثنائياته الفنية بعضها كالبنيان، لتخلق نص يقطن في سماء الكمال..

                                 ***

التجريب هو سمة عبد الحليم حافظ؛ فهو الذي خلق في داخل الأغنية القصيرة موال، وكذلك هو سمة نص “أدول”، الذي يتأثر بفن “حليم”، ويحكي عنه، ويحكي عن نفسه من خلاله؛ فالتجريب أن يكون النص بين المذكرات، والنقد الفني، والتأريخ، والجمع بين السرد التقريري، والإبداعي هم سمة النص، والحكي عن مآسي الجيل، ومآسي المغني الشاب هم أيضا صفة توجد بين طيات الكتاب، وكلماته المناسبة على حبات الرمال، المختلطة بالدماء..

التأثر ب”حليم” يخلق نصا به الكثير من روحه.

التأثر بروح الفنان يخلق فنا موازيا، رغم أنه كتاب غير أدبي، ولكنه نص يحتفي بالفن، يقتبس منه، ويخلق فيه، يبحر في جناته، ويكتب عن مأساته، ويدافع عنه ضد حساده..  نص يحتفي بالرؤية الأدبية، الإبداعية، ويحتفي، أيضا، بالتقريرية.. يحتفي بالرمز، ويختفي بالقول المباشر؛ فيخلق ثنائيات فنية تبني نص يتبنى الفن كعنوان، والإنسان، ليس فقط كمتلقي، بل كبطل للفن؛ ففتحي البنهاوي لا يستمع ل«موعود» ليعرف حكاية أحد غيره.. هو يسمعها ليبكي على ما يضنيه.. على الحزن الذي يعنيه، هذا الذي أخرجه حليم بصوته المتأثر، وبليغ حمدي بألحانه الشرقية، المعبرة، ومحمد حمزة بكلماته، وأخيرا حجاج أدول، الذي أصبح فردا من اللعبة الفنية، بمشاعره ورؤيته الفنية، والأخرى الإبداعية، وتجربته، وتجربة زملائه، التي يحكيها هو بتقنياته التي ذكرت سلفا ..

” من الصحراء.. من حفلة الربيع”

يسرد الكاتب النوبي حياة عبد الحليم حافظ، وتجربته الفنية، برؤية نقدية، ونظرة جماهيرية متأثرة بالعندليب الأسمر؛ فيحكي عن قصص حبه المعروفة، ومنها قصة حبه لفنانة عبقرية، وهي قصة فشلت، ومنها قصة حبه لفتاة رفضته أسرتها، وهو ما يتشابه مع تجربة المستمع للأغنية فتحي البنهاوي، ويسرد حكايته، بداية من مولده في قريته، وكونه يتيما، واربعه على المجد، رغم التحديات الكبيرة للظروف الفنية في مصر، ويكتب عن تجربته مع مرض البلهارسيا، الذي سبب تليف في الكبد، وأفضى به إلى الموت في عمر الثامنة والأربعين، فتليق عليه الكلمات التي غناها بعد تقديم الفرقة الموسيقية، الفرقة «الماسية»، بقيادة أحمد فؤاد حسن، ويقدم الموسيقار بليغ حمدي، والشاعر الشاب بليغ حمدي، وهو المشهد الذي يكتبه حجاج أدول بسرد سينمائي، يطغى على التقريري، الذي أخذ طريقه في فصول عرضت رؤية نقدية للعندليب، وهي، أيضا، تحد سردي، يعرض تمكن كاتبه.

موعود .. موعود

موعود معايا بالعذاب يا قلبي

موعود ودائما بالجراح موعود يا قلبي

ولا بتهدى ولا لترتاح في يوم يا قلبي

وعمرك .. عمرك ما شفت معاي فرح

وهي الكلمات التي تسرد تجربة الإنسان، ومنه العندليب، وفتحي، ومحمد حمزة، والمتلقي والمنتج للعمل، ككل؛ فهي الأغنية التي تؤكد معنى الفن..

“تحولات الصفارة المصرية”

كخلفية لعلاقة العندليب بالجمهور يدرس الكاتب تحولات المجتمع المصري، خاصة بعد الإنفتاح، وتغير طبقاته، وعلاقتها ببعضها، وتغيرها على مر الزمان.. ويرصد المتغيرات السياسية، والأحداث، التي أثرت على شكل الفن في مصر، وعلى أيدولوجية الجماهير، والشعب، بداية من الحكم الملكي، ثم عهد الرئيس جمال عبد الناصر، ثم عصر محمد أنور السادات، والحرب والإنفتاح..

فصفير الجمهور، وتفاعله الغوغائي، الذي أدى لغضب الفنان عبد الحليم حافظ في عام ١٩٧٦ أثناء غناء “قارئة الفنجان”، ألحان محمد الموجي، وكلمات نزار قباني، يرجع سببه لتحول المجتمع.

وتكون دراسة هذه التحولات خلفية لحكاية الكاتب، وزملائه مع العشق.

ويرصد الكاتب تحولات الوسط الفني الغنائي، المتأثر، بدوره، بتغير المجتمع، وتغير سياسة مصر، فيبدأ بالملحن، الشيخ سيد درويش، ومن بعده أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ومحمد القصبجي ومن بعدهم عبد الحليم حافظ وجيله، ومحمد منير؛ فالفن لا يقف عند حد بل يتجدد بتجدد صناعه..

“العندليب إنسان”

مع الكتابة عن التحولات الفنية، وذكر حياة عبد الحليم حافظ الصعبة، والمعيقات التي كانت تحول بينه وبين النجاح، يذكر الكاتب علاقته بالحقد، وهي علاقة تربض في قلب وعقل أي ابن آدم، خاصة لو عاش حياة مثل هذا العندليب، الذي أثر فيه ماضيه، كنتيجة حتمية لسجية بشرية، تعكس حجم قوة النظرة الفلسفية في هذا الكتاب، الذي لا يقتصر على كونه مجرد كتاب تأريخي أو حتى نقدي، بل هو نظرة حية للإنسان، عن طريق تجربة فنية إنسانية، وأخرى إنسانية بحتة..

عبد الحليم حافظ كان بعيدا عن منافسيه.. كان في قمة المجد، ولكن برغم ذلك كان يحذف اسم محمد رشدي من قائمة حفلاته، ويعرض علاقته بالسلطة، مما يعرض علاقة الإنسان بالسلطة، حتى يضمن ألا يقترب منه أحد أعدائه أو حتى منافسيه، إلا أم كلثوم، التي قبل يداها، والمشكلات بينهما كانت معروفة، ومنها حكى الفنان الراحل سمير صبري في كتابه “حكايات العمر كله”، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية أن أم كلثوم غنت ثلاث وصلات غنائية، رغم انتظار فرقة العندليب في مسرح البالون..

ولكن علاقة عبد الحليم حافظ بالرئيس المصري جمال عبد الناصر لم تكن مجرد علاقة هدفها المصلحة، رغم أن فيها ما هو كذلك..هو كان يحبه، ويحب مشروعه، وهو ما وضحه طبيب عبد الحليم حافظ هشام عيسى، وهو لا يلغي فرضية المصلحة؛ لأنها كانت حية؛ فمعظم أناشيد عبد الحليم حافظ، التي غناها لجمال عبد الناصر كانت، كما ذكر الكاتب، بهدف التقرب، والمجاملة، وهو ما أفضى بالكاتب للكتابة عن عصر الرئيس جمال عبدالناصر وعن مميزات وعيوب عصره، وتأثيره في الأوساط الفنية، سواء في الأناشيد، التي انتشرت وقتها أو حتى القصائد ذات الإسقاطات السياسية، التي كان أهم مؤلفيها هو الشاعر أحمد فؤاد نجم، الذي وجد في نفس الملجأ مع العندليب، وهو ما ذكره الفاجومي في كتبابه “يا أهلي .. يا حبي.. يا حتة من دمي”، الصادر عن دار الشروق، وذكره “أدول”، عن طريق الإستعانة بمذكرات الشاعر بعنوان “الفاجومي”، وهذا يظهر تأثير المصادر في كتاب حجاج أدول الأحدث؛ بالمصادر لم تذكر كثيرا؛ لأن النص يعتمد على رؤية جماهيرية بحتة، تحكي وتنقد برؤية فنية شاعرية، وتربط، وتصيغ بحس أدبي، وآخر تقريري، يجمعهم حب الفن..

« في كتابه «مذكرات الشاعر أحمد فؤاد نجم الفاجومي» كتب أحمد فؤاد نجم عن عبد الحليم وأنا أنقل باختصار: «إنه أهم وأذكى مطرب عربي ظهر في العصر الحديث بعد عبد الوهاب، واللي قدر هو ومجموعة من الفنانين الشبان سمير محجوب  ومحمد الموجي وصلاح جاهين وكمال الطويل يخلقوا مدرسة جديدة في الطرب العربي، ويفرضوا لأنفسهم مكانًا على خريطة الموسيقى والغناء في عصر دولة المطربين وفي عز سطوة وجبروت الملكين أم كلثوم وعبد الوهاب».

. أحمد فؤاد نجم بزغ نجمه، ووصل لوهج الثورة، الرابعة في القصائد، التي يغنيها الشيخ إمام، بعد هزيمة حزيران..

يعرض الكاتب النوبي حجاج أدول حالة الوسط الغنائي بعد هذه الهزيمة، حيث وجد من جمل منها، مثل العندليب، وهناك من اصطدم بالسلطة، مثل: أحمد فؤاد نجم، والشيخ إمام..

ويذكر فيلسوف الشعراء صلاح جاهين، الذي احتلها الحزن، وربض بقلبه، فخلق مدنا تحزن على الزعيم، والبلاد، حتى مات ودمعه في قبره..

ورغم أن المطرب المصري محمد منير كان مجددا للفن الغنائي المصري، ومضيفا لفن العندليب، إلا أنه، من وجهة نظر الكاتب، لم يصل العبقرية عبد الحليم حافظ، ولكنه تفوق في أن فنه عنوانه الفن والوطن، وليس رئيس أو حاكم ما .. هو هذا الشاب، الذي قال عنه الشاعر مجدي نجيب، في برنامج وصفولي الصبر، تقديم الكاتب المصري عمر طاهر، «بحبه علشان مش بيلبس بدلة»، وهو ما يتشابه مع فن الكاتب النوبي حجاج أدول.. فن عنوانه الفن، ومضمونه الإنسان؛ فرواياته من أساس بنائها الروائي ثنائية الواقع/الخيال، الذين يهتمون بالإنسان، “ولو مالوش عنوان”، كما وصف عبد الرحيم منصور في أغنيته مع “منير” “حدوتة مصرية”، من فيلم يحمل نفس الإسم للمخرج يوسف شاهين.

أوضح الكاتب، عن طريق ذكر أمثلة من الأوساط الفنية والكتابة عن منافسين “حليم”، أن منافسيه لم يكونوا بالموهبة المطلوبة، وأنه لم يكن إلا مجرد سبب، ولكنهم، أيضا، كانوا سببا؛ فمنهم من كان الفن، بالنسبة له، اهتماما ثانويا مثل محرم فؤاد، ومنهم من لا يملك الإرادة المطلوبة، ومنهم متوسط الموهبة.

مقالات من نفس القسم