من اليونيسكو إلى فيلم ‘المسافر’: مؤامرة لقد خدعنا العدو الجبان!

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
أحمد يوسف *   أقسى وأقصى أنواع الخداع هو خداع النفس، وذلك هو الشَرَك الذي أوقعنا أنفسنا فيه بإرادتنا في الفترة الأخيرة، حين صنعنا أوهاما تعاملنا معها على أنها حقيقة، وفي المقابل فإن من الطبيعي عندئذ أن تصير الحقائق بالنسبة لنا أوهاما، وهكذا نظل سادرين في غيِّنا وغيبوبتنا، كأننا نستمتع بهما ولا نريد منهما خلاصا! نحن يا عزيزي القارئ في لحظة شديدة التردي من تاريخنا، ولا أدري ماذا سوف تقول عنا أجيالنا القادمة ولم نترك لهم الحد الأدنى من اليقين بأي قضية، فكانت النتيجة أنهم يبدون كأنهم لا يؤمنون بأي شيء، ولا يعبأون بما نقول صدقا كان أو كذبا، لأننا تركناهم وحدهم في مهب الريح. هذا ما حدث، للمرة المئة بعد الألف، خلال الأسابيع القليلة الماضية في معركتين خسرناهما بالضربة القاضية، الأولى مع عدم فوز المرشح المصري لليونيسكو فاروق حسني، والأخرى مع الخروج المؤسف للفيلم المصري 'المسافر' من مهرجان فينيسيا السينمائي، ليس فقط دون الحصول على جوائز، وإنما أيضا بالكثير من الشائعات والنميمة العلنية والسرية، في الوقت الذي فاز فيه الفيلم الإسرائيلي 'لبنان' بنصيب الأسد الذهبي، الجائزة الكبرى في نفس المهرجان.

تحدَّث البعض في الحالتين عن مؤامرة، ونفى البعض الآخر ذلك مستنكرين اللجوء إلى ‘نظرية المؤامرة’، ولم يقل لنا هؤلاء وأولئك ماذا نفعل إن كانت هناك مؤامرة أو إن لم توجد أصلا. لكننا ننظر إلى كلمة ‘المؤامرة’ على أنها تتضمن دائما دلالات شريرة، بينما التاريخ كله يقوم على المؤامرات، فهناك أطراف تتحالف وأطراف أخرى تتحالف ضدها، والكل يقول أن الخير في جانبه، لكن القوة تفرض الأمر الواقع دائما، ولن يجدي نفعا إن وصفتها بالشر. ويبدو أننا نعيش في عالم خاص بنا، نتصوره بمفاهيمنا وأحلامنا، وفي كل مرة نستيقظ على هزيمة نصيح: ‘مؤامرة! لقد خدعنا العدو الجبان!’، ثم نعود للنوم، فمتى نفيق؟ متى نعترف بأن المؤامرات كانت وستظل موجودة، ليبقى السؤال: ماذا نحن فاعلون تجاهها؟

وإذا كنتُ قد شعرت، ولا أزال أشعر، بأن موضوع فاروق حسني واليونيسكو لا يهمني في شيء، ولن يأتي بأي نفع لمصر التي لديها ما يكفيها من المعاناة في كل تفاصيل الحياة، ولا يعني الغالبية الساحقة من أبنائها هذا الترف ‘اليونيسكاوي’، فإنني عشت بعضا من أسوأ لحظات حياتي عندما فاز الفيلم الإسرائيلي في مهرجان فينيسيا، في الوقت الذي بدا فيه الفيلم المصري، حتى في وسائل إعلامنا، كأنه فضيحة. أليست هذه هزيمة حقيقية أخرى تُضاف إلى ركام هزائمنا السابقة ويجب أن نعترف بها؟ والأدهى والأمرّ أن بعض الكتابات المصرية عن هذا الموضوع اتسمت بنوع من الشماتة بالمعنى الحرفي للكلمة، بينما ذهبت كتابات أخرى إلى نوع من التبرير المتلعثم، ولم أجد للأسف الشديد، فيما عدا عبارات متناثرة هنا وهناك، من يتحدث بشكل جاد عن تشخيص ما حدث وطريقة علاجه. ومرة أخرى تكتشف أن توزيع الاتهامات أو محاولة نفيها، حول ما آل إليه فيلم ‘المسافر’، بات محصورا في التلسين حول أفراد، كأنك لو استبدلت أفرادا غيرهم بهم فإن الأزمة سوف تنفرج، بينما جوهر الأزمة يكمن في أنهم دائما ‘أفراد’ وليسوا ‘نظاما’، ولتتأمل كيف تم صنع فيلم ‘المسافر’، من خلال توصية بعض النقاد ‘الأفراد’ بأن تتولى وزارة الثقافة إنتاج السيناريو الذي أثار إعجابهم، في الوقت الذي لا يوجد أصلا فيه ‘نظام’ حقيقي تقوم من خلاله الوزارة بإنتاج الأفلام. والغريب أن الوزارة دخلت في المشروع بمنطق شركات الإنتاج التي تلقي بالأموال الطائلة، لأسباب شبه مجهولة أحيانا، في صناعة الأفلام، وبنفس عقلية ‘السوق’ بحثت عن ‘نجم عالمي’، ابتلع أجره بالطبع جزءا كبيرا من الميزانية التي وصلت حسب بعض التصريحات الى عشرين مليونا من الجنيهات (حوالي أربعة ملايين من الدولارات)، وأرجو أن يجيبني أي ‘مسؤول’: كم فيلما كان من الممكن إنتاجه لسينمائيين شبان بهذا القدر من الأموال المهدرة؟

لمجرد المقارنة، التي سوف تثير في النفس غصة ومرارة عميقين، فإن الفيلم الإسرائيلي الذي فاز بالجائزة الذهبية في فينيسيا لم يكن به أي نجوم، عالميين أو حتى محليين، ولم تتجاوز ميزانيته مليونا واحدا من الدولارات (رُبْع ميزانية ‘المسافر’)، وأرجو أن تضع في حسابك أيضا الفارق الكبير في مستوى المعيشة بين مصر وإسرائيل. لقد جعلتني هذه المفارقة المؤلمة أستمر لاهثا في بحث كنت قد بدأته بالفعل عن واقع السينما الإسرائيلية، صناعة وفنا، قرأت بعض الكتب، وراجعت الكثير من التقارير المتاحة على شبكة المعلومات الدولية، ونجحت بنفس الطريقة أيضا في الحصول على ما يزيد على عشرة أفلام إسرائيلية معاصرة، وكانت النتيجة صادمة بحق، فما أبعد الفارق بين ما نصنع وما يصنعون، إنهم يا عزيزي القارئ شراذم صهيونية (هذا وصف وليس شتيمة) أتت إلى فلسطين من شتى أنحاء الأرض منذ بضع عقود قليلة، ونجحت في أن تصنع دولة، وتزرع في وجدان سكانها من الصهاينة الإيمان بأن تلك الدولة هي وطنهم، بينما نحن أصحاب واحدة من أقدم الدول في التاريخ، نحن أبناء الوطن الذي حافظ على تكوينه الثقافي برغم تغيير الدين واللغة عدة مرات، قام من يتحكمون فينا بتفكيك الدولة، وتحويلها إلى نظام عائلي يلتف حوله أصحاب المصالح، لذلك فتر شعور المواطن بالوطن وغاب معنى الدولة عن ذهنه لأنه لا يجد لها أثرا في حياته.

وبرغم قمع الكيان الصهيوني للعرب بشكل وحشي، فإنني لا أخشى أن أصارحك بأنه أكثر ديموقراطية، بالنسبة للمنتمين له، من أي نظام عربي آخر، ويكفيك أن تقارن عدد السياسيين الذين تداولوا على السلطة في إسرائيل خلال الثلاثة عقود الأخيرة، بحكام يظلون جالسين على العرش وينوون أن يورثوه لأصحاب الدماء الزرقاء من سلالاتهم! إن هذا هو ما يحدث في السينما تماما، ليس هناك في إسرائيل أفراد يتحكمون في كل شيء، بل نظام يقوم على أداء الدولة لدورها تجاه السينما والسينمائيين. وفي الوقت الذي انهالت عندنا الكتابات ورسائل الدكتوراه (!!) التي تسب تجربة مؤسسة السينما في مصر، وتتهمها اتهامات ظالمة (راجع في ذلك كتاب ‘صفحات من ذكريات توفيق صالح’ لتدرك حقيقة هذه المزاعم وتصححها)، فقد صدر في إسرائيل عام 1954 قانون ينص على تشجيع الدولة للسينما، وتأسس صندوق دعم السينما الإسرائيلي منذ عام 1979، باعتباره مؤسسة لا تهدف للربح، ويتم تمويله من عائدات شباك التذاكر، وينص في مواد تأسيسه على المساعدة في إنتاج أفضل السيناريوهات، وخلق الفرص أمام السينمائيين الإسرائيليين الموهوبين، والصندوق يرعى كل مراحل صناعة الفيلم، بدءا من كتابة السيناريو وتطويره، ثم إنتاجه من خلال المساهمة المالية وتقديم المساعدة التقنية، وأيضا من خلال السعي لإشراك جهات خارجية في الإنتاج المشترك، وهو أخيرا يرعى الفيلم في مرحلة التسويق والدعاية داخل إسرائيل وفي كل أنحاء العالم.

إن هذه المساعدة التي يقدمها الصندوق الإسرائيلي لا تقتصر على فيلم أو اثنين كل عام، بل تمتد إلى ما يكاد أن يصل إلى كل الإنتاج الإسرائيلي (بين عشرة أفلام واثني عشر فيلماً سنويا)، كما أنه يطلب من القوات المسلحة الإسرائيلية (التي تُدعي تجاوزا ‘جيش الدفاع’) تقديم كل الدعم في كل الأفلام التي تتطلب ذلك، دون أن يكون هناك تدخل مباشر وسافر من جانب الجيش في مضامين هذه الأفلام، لذلك ‘تبدو’ الأفلام الإسرائيلية الأخيرة التي تدور عن الحرب بعيدة تماما عن ‘البروباغندا’، إلى الدرجة التي تعطي انطباعا بأنها تدعو إلى السلام، بينما هي في الحقيقة تبرر شن الحروب، (وتلك نقطة تحتاج منا للتحليل المتأني لهذه الأفلام). وأخيرا فإن الإنتاج المشترك بين إسرائيل والدول الأخرى تعدى حدود أوروبا ليصل أيضا إلى كندا واستراليا.

من خلال هذا النظام، الذي لا يقتصر على رأي بعض الأفراد، نجحت السينما الإسرائيلية في أن تتخطى أفلامها التقليدية، وتتخلى عن الدعاية الصهيونية المباشرة، وأكاد أقول أن السينما الإسرائيلية تأثرت كثيرا بما أنجزته السينما الإيرانية وتعلمت منها (ألم يكن الأجدر بنا نحن أن نتعلم هذا الدرس؟)، فإنك تجد العديد من الملامح المشتركة بينهما، خاصة في التركيز على البعد ‘الإنساني’ لبشر عاديين تماما، بينما يأتي البعد السياسي تلميحا لا تصريحا، وهو موجود دائما لكنه يكمن في الخلفية ليتسلل إليك دون أن تشعر، كما يتم الاعتماد على التصوير في الأماكن الطبيعية، والاستعانة بممثلين معظمهم أقرب إلى الهواية منهم إلى الاحتراف، خاصة في شريحة المراهقين والأطفال (العديد من الأفلام الإسرائيلية المعاصرة لا تخلو من وجود طفل صغير فائق الموهبة، له دور فاعل في الدراما إن لم يكن محورها أحيانا)، ولا يوجد من يسمون ‘نجوما’ على الإطلاق (إنهم فقط ‘ممثلون’ مشهورون)، وينحو الأسلوب في الأغلب إلى روح القصة القصيرة، بكل كثافتها الشعورية وعدم الاهتمام بأحداث كبيرة في مقابل العناية الشديدة بتأمل التفاصيل الصغيرة. لذلك فإن المتفرج لا يشعر أبدا بأن من يراهم على الشاشة ‘أكبر من الواقع’، على العكس فإنهم ‘بشر’ يعيشون حالة حقيقية من المعاناة، يصدقها المتفرج الإسرائيلي وغير الإسرائيلي ويتوحد معها، لأن معظم ‘حواديت’ الأفلام الإسرائيلية المعاصرة يمكن أن تحدث في أي مكان من العالم، مثل فيلم ‘زيارة الفرقة’ الذي يمكنك أن تتصور حدوثه حتى في اليابان أو السويد، وحتى أفلام الحرب، مثل ‘بوفورت’ (أو ‘قلعة الشقيف’) و’رقصة الفالس مع بشير’، يمكن أن تحدث في أي حرب، وهذا مقصود تماما، إن المتفرج لا يرى الفلسطينيين أو اللبنانيين (الطرف الآخر من الحرب) إلا باعتبارهم شخصيات فردية عابرة، بينما يرسخ في لاوعيه وجود ‘الشعب’ الإسرائيلي كأنه حقيقة واقعة وبدهية لا تثير تساؤلا حول من أين جاء ومتى صار ‘شعبا’!

بكل تلك المواصفات يتم صنع الأفلام الإسرائيلية بميزانيات منخفضة، لا تكاد أن تتجاوز في الأغلب مليون دولار للفيلم الواحد، يساهم صندوق دعم السينما بأقل من نصفها ويأتي بالباقي من خلال الإنتاج المشترك (تكاد شبكة ‘آرتيه’ التليفزيونية الفرنسية الألمانية أن تصبح قاسما مشتركا في هذا الإنتاج)، وبسبب انخفاض الميزانية فإنك لن تجد فيلما إسرائيليا يعتمد على ‘الأكشن’ (ليت صناع أفلامنا يتوقفون عن ‘أكشنهم’ الزائف)، ولا الخيال العلمي، ولا أفلام الخيال الفانتازية التي تدور في عوالم مبهرة، ولا الملاحم (لا أدري لماذا تذكرت الآن فيلم ‘باب الشمس’ ليسرى نصر الله، ولكن لذلك حديثا آخر)، وحتى الأفلام الحربية الإسرائيلية لا تهدف إلى تقديم مشاهد المعارك وإنما التركيز على الجندي ‘الإنسان’. أخيرا أرجو أيضا أن تتأمل كيف أن عدد متفرجي السينما في إسرائيل يصل إلى المليونين كل عام، وهو ثُلث عدد السكان تقريبا، وقارن ذلك بالعدد الهزيل لمتفرجي السينما المصرية، الذي لا يتجاوز جزءا من عشرة أجزاء من عدد السكان. وليس غريبا بعد ذلك كله أن تصل الأفلام الإسرائيلية إلى الترشح لجائزة الأوسكار عن أفضل فيلم أجنبي ثماني مرات، مقابل صفر كبير من أفلامنا!

نعم يا عزيزي القارئ هناك مؤامرة علينا في كل ما تفعله السينما الإسرائيلية، لأنهم يدركون أنهم في حالة حرب ويعيشون هذه الحالة في كل ممارسات حياتهم، أما نحن ‘بتوع السلام’ فنكتفي بالصراخ والعويل وتبادل الاتهمات أمام خيباتنا المتعاقبة. فلنتآمر نحن أيضا، لأن الحرب قائمة ما دام الفكر والكيان الصهيونيان مزروعين في قلب وطننا، ولن يأتي هذا التآمر الفعال من خلال أفراد وإنما من خلال نظام، لا يأخذ أوامره من ‘الوزير’ أو ينجح في انتزاع موافقته بطريقة ما على تمويل مشروع دون غيره، وإنني أتساءل مخلصا: ماذا تفعل في هذا الشأن ‘لجنة السينما’ في المجلس الأعلى للثقافة؟ بل ما هو الدور الذي تقوم به أصلا؟ وما هو دور نقابة السينمائيين؟ وهل فكرت الجمعيات السينمائية في مناقشة الأمر وطرح ورقة عمل أمام وزارة الثقافة في هذا الشأن، خاصة أن جمعية نقاد السينما المصريين، والتي أتشرف بعضويتها، تضم أيضا كبار المسؤولين عن هذا الموضوع في وزارة الثقافة؟ وربما يا عزيزي القارئ، إن أفسحت هذه الصفحة صدرها لمحاولتي، سوف أتوقف معك عند بعض الأفلام الإسرائيلية (ومقارنتها أحيانا ببعض الأفلام الفلسطينية التي تم صنعها في الأرض المحتلة)، لنتأمل كيف يستطيعون أن يكسبوا الحرب السينمائية، بينما نخسرها نحن دائما، لأننا بفضل ساستنا وسياساتنا لم نعد نتذكر أننا بالفعل في حالة حرب، لكن ليذهب هذا السلام المتخاذل الخانع إلى الجحيم … ولنترك للقادمين من بعدنا نقطة بداية، لعلهم ينجحون يوما فيما أخفقنا نحن في تحقيقه.

وربما كان مهما أن أؤكد في النهاية ما أعتقد أنني لست بحاجة إلى تأكيده، ولكني أعرف أن البعض سوف يشوش القضية: هذا المقال ليس نقدا فنيا لفيلم ‘المسافر’ الذي لم أره بعد، لكنه انتقاد لعدم وجود ‘نظام’ تساعد به الدولة صناعة الأفلام الشابة والجديدة شكلا ومضمونا، ولا يعني هذا أيضا أن ترفع الدولة يدها عن هذه الرسالة لخطأ في تطبيقها، بل يجب أن تقوم بها بشكل دائم وعادل، ولعل السينما تكون بداية الطريق نحو ‘مؤامرة’ ننجح فيها ولو مرة واحدة، مرة واحدة فقط يا ناس!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*ناقد سينمائي من مصر

[email protected]

 

 

مقالات من نفس القسم