حاورها: موقع الكتابة
تبدو منصورة عز الدين مثل أبطالها، مدفوعة إلى قدر غامض، تبحث عنه وتسعى إليه وتسير على دربه. وقدر منصورة كما تعرفه هو الكتابة، بين أسطر مجموعاتها القصصية ورواياتها يبدو ذلك، في حواراتها، ومقالاته يتدفق ذلك واضحاً مثل نهر معطاء. الكتابة بالنسبة لمنصورة، قدر، وغواية، وحياة. هنا حوار عن ذلك كله.
ـ لماذا اخترت أن تكون خلفية روايتك الأخيرة “جبل الزمرد” أحداث ما بعد الثورة، وفترة حكم المجلس العسكري بمصر، هل لأنها الفترة التي كتبت فيها الرواية وكنت مشغولة بذلك، أم لتحميل الرواية رسائل سياسية؟
ـ كنت محتاجة لمدينة مضطربة كخلفية تتحرك عليها شخصيات العمل وخاصة هدير، وبدت لي قاهرة 2011 ملائمة تماماً لهذا الغرض، لم أرغب في رصد ملامح هذا الاضطراب وتفاصيله بقدر ما رغبت في استغلاله كخلفية تدعم الأحداث وتبررها، وتتقاطع في الوقت نفسه مع الخيط السردي الموازي في العمل والمتعلق بجبل قاف والأميرة زمردة. قد يكون انشغالي بأحداث الثورة ومجرياتها قد لعب دوراً – على مستوى اللاوعي – في هذا، لا يمكنني الجزم. غير أن المؤكد أني لم أسع لتحميل الرواية برسائل سياسية مباشرة، بل على العكس كنت متخوفة من أن يحدث هذا، وترددت كثيراً أمام الفقرات التي تقترب من الثورة وتأثيرها على شخصية هدير، وقمت بتخفيفها من حمولتها السياسية قدر المستطاع، فـ”جبل الزمرد” ليست عن ثورة يناير، وخشيت أن يشوش الخط الخافت المتعلق بها على عالم الرواية وانشغالاتها الأساسية.
ـ لكن السياسة موجودة بأكثر من شكل في الرواية، هناك قصة شيرويت والحزب الشيوعي، والذي بدا فيها رصد لتحولات وأمراض اليسار المصري؟
ـ الحمولة السياسية التي تخوفت منها هي تلك الخاصة بثورة يناير لأننا في هذه الحالة أمام حدث لا يزال في طور الحدوث ولم يكتمل بعد، كما أنني كنت وأظنني لا أزال متورطة عاطفياً معه، وككاتبة لا أحب الكتابة من موقع المتورط، بل أفضل الحفاظ على مسافة بيني وبين ما أكتب عنه بحيث أكتب من موقع اللامنتمي الذي يتيح للكاتب رؤية أوضح بعيداً عن العواطف والتمنيات. بخصوص شخصية شيرويت، فأنا لست ضد السياسة في المطلق، فميزة الرواية أنها كفن يمكنها استيعاب كل الحقول والأنواع الأخرى، الفيصل عندي هو في كيفية تطويع كل العناصر المتاحة لمقتضيات الفن الروائي وليس العكس، هناك روايات مثقلة بالأفكار السياسية والاجتماعية المباشرة لدرجة تدفعك للتساؤل لماذا لم يلجأ الكاتب لكتابة أفكاره هذه في مقال بدلاً من إرهاق الرواية والقارئ معه على هذا النحو؟ بشكل عام، لا أستسيغ المباشرة وأؤمن بأن الفن “لمح تكفي إشارته” وفقاً لمقولة البحتري عن الشعر. بطبيعة الحال، لا يمكن قراءة شخصية شيرويت كـ”رصد لتحولات وأمراض اليسار المصري”، هي شخصية فنية وليست نموذجاً لشريحة أو تيار كامل.. قابلت شخصيات يسارية تحمل تناقضات مشابهة لتناقضات شيرويت، لكنني لم أكتب الشخصية على هذا النحو بدافع الإدانة أو الحكم عليها، بل ربما كتبتها مدفوعة بتعاطف معها ومحاولة لتفهمها، وعلى كل حال، الإشارات إلى ماضيها السياسي، جاءت بما يخدم رسم الشخصية وأبعادها المختلفة.
ـ هل تفكرين بهذا الشكل في الكتابة عن واقع ما بعد الثورة خاصة أنك التحمت به، وتعلقين عليه بشكل دائم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ألم تفكري في جمعه في نص؟
ـ كتبت مقالات عديدة بالفعل عن الثورة، نُشِرت في جرائد عربية وأجنبية، ويمكنها أن تكوِّن كتاباً، لكن هذا يتطلب ترتيبها وتحريرها معاً وسد بعض الثغرات الزمنية بينها.. وهناك أيضاً يوميات قليلة متناثرة، قد أستفيد منها لاحقاً. بالنسبة للكتابة الإبداعية، لستُ متأكدة إن كنت سأكتب يوماً ما رواية عن ثورة يناير وما تلاها أم لا. يستفزني أحياناً كلام بعض الروائيين عن أنهم يعتبرون أن من واجبهم رصد وتوثيق ما حدث ويحدث حتى لو اضطروا للتخلي عن بعض جماليات الفن الروائي من أجل هذا “الواجب”! نظرتي للرواية مختلفة إذ لست مشغولة روائياً بالرصد والتوثيق قدر انشغالي بالخلق والاختراع.. بالنسبة لي، الرصد والتوثيق مهمتان من الممكن إنجازهما بكفاءة أكبر من خلال اليوميات أو الكتابة غير التخييلية (non- fiction). ماذا ستستفيد أي ثورة من كتابات رديئة أو متوسطة القيمة كتبت بُحسن نية لخدمة أهداف نبيلة! هناك طبعاً، روايات توثيقية مكتوبة بحرفية وإبداع، لكن الكتابة التوثيقية لا تستهويني ككاتبة، كما أن كلامي السابق مقصود به من يبررون تواضع المستوى بالالتزام تجاه قضايا معينة.
ـ الرواية بها رحلة في الزمان والمكان، بالنسبة للزمان، على الرغم من أنك اخترت فترة زمنية حديثة (ما بعد 2011)، إلا أن المكان الذي كانت تتحرك فيه الشخصيات ينتمي لمرحلة زمنية قديمة، (أتحدث عن وسط البلد، الزمالك)، هل قصدت ذلك؟
ـ الأحياء القاهرية في الرواية هي المنيل ووسط البلد والزمالك، هناك جملة في الرواية تشير إلى أن هذه قاهرة شيرويت، وأنها مع التقدم في السن اختزلت القاهرة في الأحياء القديمة التي اعتادت عليها فقط.. وأنا أكتب شخصية شيرويت لم أتخيل مكاناً لسكنها سوى المنيل، ولا تسألني عن السبب. الزمالك أيضاً بدا لي الحي الأكثر ملاءمة لشخصية بستان بغموضها وأسرارها، ووسط البلد هو مركز المدينة ونال الحصة الأكبر من مظاهر 25 يناير وأحداثها، وبالتالي صلح أكثر من غيره كخلفية لحركة هدير. لن أقول إن هذا كله كان مقصوداً، فأثناء الكتابة تكون هناك دوافع وأشياء غامضة ولا تكشف لك عن وجهها إلا مع التقدم في عملية الكتابة.
ـ في الحقيقة أنا مهتم بما وراء الكتابة، فمن الواضح أن الرواية بها جهد بحثي كبير، وأنه تم الإعداد لها قبل الكتابة، ماذا فعلت؟
ـ غرقت في قراءات متصلة بالعمل لفترة طويلة، قرأت مئات الصفحات باستمتاع كأن هذه القراءات غاية في حد ذاتها، كثير منها لم أستفد منه بشيء إلا متعة القراءة نفسها، وبعضها كان ملهماً وذا صلة مباشرة بما أريده.
ـ هل هذا يعني بالنسبة لك ـ بعد هذه الرواية ـ أن الرواية من الممكن أن تتحول لصنعة جيدة، إذا أجدنا البحث والتدقيق، وكانت لدينا فكرة جيدة؟
ـ الكتابة حرفة تتطلب من الكاتب الإلمام بتقنياتها والعمل على امتلاك أدواته وتدريب نفسه بشكل متواصل لتطوير نفسه. البحث والتدقيق مطلوبان بالطبع، لكن أخشى أن المبالغة في منحهما أهمية كبرى قد يمثل عبئاً عن العمل خاصة إذا كان هم الكاتب الأول استعراض مادته البحثية حتى لو لم يكن عمله في حاجة لها أو عدم مراعاة إنسجامها مع باقي عناصر العمل.. الرواية تتطلب صنعة أعترف بهذا، لكنها في المقابل تعتمد على فن إخفاء الصنعة وتمويهها.
ـ تحتوي الرواية على عدة خيوط، وعدة حكايات مختلفة، هل بما أنك صنعت روايتك الخاصة من ألف ليلة وليلة، أردت أيضاً أن تصنعي تداخلاً مختلفاً بين الحكايات، بشكل مختلف، أو كاقتراح جديد؟
ـ لا أستطيع قول إنني صنعت نسختي الخاصة من ألف ليلة وليلة، لكني طمحت إلى اللعب مع هذا النص المهول واللعب ضده في الوقت نفسه، بمعنى أني لم أرغب في محاكاته سواء على مستوى اللغة أو البناء، كما أن الخيال في العمل يختلف في معظمه عن الخيال في ألف ليلة وليلة حتى لو كان هناك استلهام لبعض تيمات الليالي. من هنا يمكن أن أتفق معك في أنني طمحت منذ البداية للاختلاف واللعب بشروطي الخاصة لا بشروط الليالي. الخيوط المتعددة، والحكايات المختلفة احتاجت مني لصبر ومجهود كبيرين، بدأت بعدد من الشخصيات الأساسية وكل شخصية جاء معها خيطها السردي وقصتها، وخلال الكتابة ظهرت لي شخصيات أهم سرت خلفها وأعدت الكتابة بناءً على ما تقترحه، وفي النهاية اشتغلت على البناء.. ثلاثة فقط قرأوا المخطوط الأول هم فادي عوض ومحمد الشحات وياسر عبد الحافظ وقدموا لي ملاحظات قيمة جداً، استفدت منها.
ـ لماذا قصدت أن تحكي بستان ـ الراوي العليم في الرواية ـ ما تفعله هدير، رغم أنها ليست حاضرة معها، أقصد فنياً؟
ـ بستان كانت الراوي الوحيد الممكن، لأنها الملمة بتفاصيل ما جرى قبل قرون، كما جاء في بداية الرواية، كما أنها مقدمة كشخصية شبه كلية القدرة، لا يخفى عليها شيء.. كلية القدرة بما يقربها للكاتب الملم بخيوط العمل الذي يكتبه كلها في يده والمتحكم فيها.. تبدأ الرواية وبستان تكتب، وتنتهي وهي تكتب أيضاً، وما بين البداية والنهاية بستان حاضرة باستمرار.
ـ ما حجم المساحة بين الخيال والبحث في هذه الرواية، بطريقة أخرى، ماذا استفدت من البحث في بناء الرواية؟
ـ مساحة التخييل في “جبل الزمرد” أكبر منها في أي عمل سابق لي. أي أن حجم الخيال أكبر بما لا يقارن من حجم البحث. هناك استلهامات من حكايات رحلات السندباد، حاسب كريم الدين، والحسن البصري، لكن هذه الاستلهامات تعتمد على تفاصيل تم الاشتغال عليها بالتخييل لانتاج شيء مختلف. “جبل قاف” معروف في الثقافة الإسلامية وهناك أدبيات متنوعة خاصة به، في مفتتح الرواية هناك الإشارة له المأخوذة من تفسير القرطبي، كتب عنه فريد الدين العطار وابن عربي، وبورخيس وآخرون.. في جبل الزمرد أخذت الخطوط العامة الخاصة بوصف الجبل كجبل من الزمرد واشتغلت عليها بالتخييل لأقدمه بالصورة التي ظهرت في الرواية.. وهكذا.. الجزء الخاص بالشفاهة والتدوين اعتمدت فيه على “محاورات فايدروس” لأفلاطون و”صيدلية أفلاطون” لجاك دريدا.. الفكرة هي في كيفية الاستفادة من البحث والبناء عليه بالتخييل بحيث يدخل بانسجام في تفاصيل العمل وأحداثه ولا يكون ناتئاً عنه.
ـ بالنسبة للجمل القصيرة أسفل عناوين الفصول، هل هذا تدوينك أم تدوين مروج، م تدوين بستان؟
ـ بستان هي راوية جبل الزمرد، وهذه الجمل المفترض بها أن تعبر عنها، وتكشف عن بعد جديد في شخصيتها، هو التأرجح بين الإيمان بمهمتها والكفر بها.
ـ ربما ما يجمع بين هذه الرواية ووراء الفردوس، هو أن الرجل يظهر كأنه يتحرك من خلف جدار، على عكس المرأة التي تمتلئ الروايتين بتفاصيل حياتها، لا أسأل عن كونك كاتبة نسوية، ولكن هل هذا مقصود أن تكتبي يوميات المرأة في كل نصوصك؟
ـ لا أتفق معك في أن وجود الرجل هامشي في “وراء الفردوس”.. ربما ما أوحى لك بهذا هو أن سلمى ومعها جميلة بدرجة أقل تحتلان مساحة مركزية في العمل، لكن ما عداهما من شخصيات النساء والرجال تحضر بالقوة نفسها. في “جبل الزمرد” خاصة في الجزء الواقعي المعاصر دور الرجل يكاد يكون غير موجود بالفعل باستثناء شخصية كريم خان، كما أن الشخصيات النسائية أبرز حضوراً، لكن عليك الانتباه أيضاً إلى أن المرأة كما تظهر كمحركة للأحداث ومنذورة لتخليص الحكاية من التحريف، فهي أيضاً جالبة اللعنة. من جهة أخرى، يلعب بلوقيا، إيليا، والطيف دوراً مهماً في أحداث الرواية.
ـ ربما تلقى رواياتك صدى أكثر من مجموعاتك القصصية، لا أعني بهذا أنها أقل جمالياً، ولكن أعني أن هناك حالة نقدية تفضل الرواية لديك، ولدى الكتاب بشكل عام، لماذا تصرين رغم ذلك على الفصل بين كل رواية وأخرى بمجموعة قصصية؟
ـ في الحقيقة أنا لا أصر على شيء J أنا كاتبة كسولة ومزاجية، أكتب القصة القصيرة بشغف بغض النظر عن التلقي، وحين تتجمع لدي قصص تكفي لإصدار مجموعة أفكر في نشرها. سؤالك يفترض أنه بما أن القصة القصيرة لا تحظى باهتمام نقدي أو إعلامي كافٍ، علينا التوقف عن كتابتها، ولو مددنا الخط على استقامته، فهذا يعني أيضاً أنه لو لم تحظ رواياتي باهتمام نقدي فعلي التوقف عن كتابتها، وهذا أمر منافٍ للمنطق. لكن في الوقت نفسه أعترف أن قصصي القصيرة أكثر إلغازاً وإبهاماً من رواياتي (باستثناء متاهة مريم طبعاً)، وربما يقف هذا الإلغاز كعائق أمام الوصول لدرجة أعلى من المقروئية مقارنةً بالروايات.. أقول ربما.
ـ هل منصورة عز الدين حاصدة جوائز، من البوكر إلى الشارقة؟ هل تقصدين ذلك وأنت تكتبين؟
ـ هذا الوصف طريف جداً بالنسبة لي، خاصة أني لم أتقدم بأعمالي لجوائز سوى مرات ثلاث. لكن من أجل الدقة، “وراء الفردوس” وصلت للقائمة القصيرة للبوكر فقط، وهذا مختلف عن الفوز بالجائزة. وجائزة أفضل مجموعة قصصية من معرض القاهرة الدولي للكتاب لم أتقدم لها، وما حدث أن الصديق العزيز والناشر محمد هاشم قدم “نحو الجنون” للجائزة دون حتى أن يبلغني بذلك، ولم أعرف إلا حين اتصلوا بي ليطلبوا مني الحضور لتسلم جائزتي، ولم أكن في القاهرة وقتها، وفوز “جبل الزمرد” بجائزة معرض الشارقة لا يستدعي وصف “حاصدة جوائز”. لكن عموماً المسألة هامشية؛ وإن كنت أعترف أن الفوز بجائزة أو أكثر ليس سيئاً على الإطلاق J بالنسبة للنقطة الثانية في سؤالك، لا أعرف كيف يمكن لكاتب ما أن يقصد هذا أثناء الكتابة، خاصة أن لا معايير محددة ولا وصفات كتابية معروفة تؤدي للحصول على الجوائز.. حين أكتب أحاول قدر الإمكان الإنشغال بمنطق العمل ومنطق شخصياته ومحاولة عزل نفسي عن الظروف المحيطة بعملية الإبداع. وسواء صدقتني أم لا، فغاية طموحي أن أستمر في الكتابة ولا أنقطع عنها لسبب أو لآخر.
ـ هل غيرت الترجمة من طريقة كتابتك؟
ـ من الصعب الإجابة على هذا السؤال، لكن يمكنني القول إن ما يلهم أكثر وما يطوِّر من الكتابة هو الإطلاع على ثقافات أخرى عبر السفر ورؤية العالم، وهو ما تحقق لي عبر ترجمة أعمالي ومشاركتي في كثير من المهرجانات الدولية.. وأنا أكتب “جبل الزمرد” لمست كيف يمكن للمدن الغريبة أن تكون ملهمة للكتابة، حتى لو لم أنتبه أثناء زيارتي لها أنها ستكون مصدر إلهام لي.
لكن إذا كنت تقصد، تغيير طريقة الكتابة للتماشي مع ذائقة غربية مفترضة، فأنا ضد هذا تماماً وأنظر إليه كنوع من الانتحار الأدبي.. أعتقد أن الترجمة للغات الأجنبية مغالى في تقديرها عربياً، ترجمة عمل ما لأكثر من لغة لا يعني أنه جيد بالضرورة، بل على العكس كثيراً ما يكون للأعمال الرديئة والخفيفة حظوظاً أعلى في الترجمة.. لا أنكر أن صمود عمل ما فنياً أمام قراءات قراء، لا يعرفونك ولا تعرفهم وينتمون لثقافات مختلفة، أمر جيد، لكن في حالات أخرى كثيرة قد يهتم هؤلاء القراء بكتاب ما – حتى لو كان كتاباً جيداً – للأسباب الخطأ.
أسئلة سريعة:
ـ لدي سؤال حول دور كريم ونادين في الكتابة، حافز أم معطل؟
الكتابة متطلبة جداً، والاهتمام بطفل في سن كريم خاصة يتطلب معظم وقتي كأم كونه لا يقدر بعد على الاعتماد على نفسه في أي شيء، وأعتقد أنني لو لم أنتهِ من كتابة “جبل الزمرد” قبل ولادة كريم بأيام، لما كنت تمكنت من الانتهاء منها حتى الآن. لكن من جهة أخرى تجربة الأمومة ثرية جداً وملهمة، وأرى أنها أضافت لي الكثير على مستوى النضج ورؤية العالم. كما أن خيال الأطفال محفز وملهم جداً.
ـ هل قرأت نادين شيئاً لك؟
ـ قبل سنوات حاولت قراءة “متاهة مريم”، وأتذكر أنها قرأت منها 17 صفحة لا أكثر وأخبرتني أنها لم تفهمها. هي الآن تقرأ بالإنجليزية في الغالب، وترى أن مهنة الكتابة مملة جداً ومستنزفة للطاقة.
ـ ما هي أفلامك المفضلة؟ (3 أفلام)
أعشق أفلام المخرج البريطاني جاي ريتشي كما أحب عوالم المخرج الأسباني بدرو ألمودوبار، لكن سوف أختار ثلاثة أفلام أحببتها منذ طفولتي، وهي: ذهب مع الريح، قطة على سطح من الصفيح الساخن، والطيب والشرس والقبيح.
ـ هل مللت الصحافة؟
أنا ملولة بطبعي، وعلاقتي بالأشياء التي أحبها إدمانية؛ بمعنى الانغماس فيها لدرجة الإدمان ثم التخلي المفاجئ عنها للانتقال إلى إدمان آخر. انقطعت عن الصحافة لثلاث سنوات وعدت إليها من جديد، ويُخيل إلي أن الملل سوف يبتعد عن علاقتي بها لفترة، ثم لا تنسى أنني لست طارئة على مهنة الصحافة، حيث درستها في كلية الإعلام جامعة القاهرة.
ـ هل بعد فترة من الكتابة الإبداعية، يشعر المبدع أنه يجب أن يبتعد عن الصحافة، ويتفرغ للكتابة؟
بالنسبة لي، التفرغ للكتابة الإبداعية حلم حققته جزئياً خلال فترة ابتعادي المؤقت عن الصحافة، وكانت فترة مثمرة في تصوري، لكني اكتشفت أنك عندما تمتلك وقتاً طويلاً وفضفاضاً، يتسرب منك بسهولة، وقد يضيع منه أكثر مما لو كنت محكوماً بجدول زمني صارم يفرضه عليك عمل موازٍ للكتابة.
ـ ما الكتب الموجودة أمامك الآن؟
“الجبل السحري” لتوماس مان، ترجمة علي عبد الأمير صالح، و”مسح العالم” لدانيال كيلمان ترجمة كاميران حوج، و”مقدمة في فقه اللغة العربية” للويس عوض.
ـ هل كنت تقرأين “رجل المستحيل” في فترة المراهقة؟
ـ طبعاً، بدأت قراءة السلسلة وأنا في الصف الرابع الابتدائي وداومت على قراءتها حتى منتصف المرحلة الإعدادية وكانت سونيا جراهام شخصيتي المفضلة وأيضاً هويدا التي ظهرت كمساعدة لأدهم صبري في عددين فقط، (العددان 13 و14 إن لم تخنّي الذاكرة)، بالنسبة لي كانت شخصية منى توفيق مملة جداً.
ـ متى توقفت عن قراءة “المغامرون الخمسة”؟ ومن كانت شخصيتك المفضلة فيهم؟
لا أتذكر متى توقفت عن قراءة “المغامرون الخمسة” لأن قراءتي لها لم تكن منتظمة، بل محكومة بالصدفة وفق ما يتوفر أمامي من أعدادها.. كنت أحب شخصية نوسة لأنها مثقفة وذكية، لكن لو اخترت وقتها أن أحل محل شخصية من شخصيات السلسلة لأخترت تختخ، لا لشيء إلّا لمهارته في حل الألغاز.
ـ كيف تبدأ فكرة الرواية لديك؟ جبل الزمرد كيف جاءت البذرة الأولى مثلاً؟
ـ يختلف الأمر من عمل لآخر، في الغالب يبدأ الأمر بمشهد بصري مخاتل ومبتور، وأحياناً بشخصية تتحرك على خلفية معينة، ولا تتضح الأفكار إلّا خلال عملية الكتابة، وأحياناً بعد قطع شوط لا بأس به في الكتابة.. إسكتشات المشاهد الأولى تكون مرتجلة ومرتبكة وثرثارة، لكن مع الوقت وحين أضع يدي على بداية خيط سردي ما، يصبح الأمر أسهل. البذرة الأولى لجبل الزمرد أتت من ذكرى قديمة جداً، حين أضعت وأنا طفلة في الخامسة أنا وأختي الكبرى الخاتم المفضل لوالدتي، كان خاتماً ذهبياً بفصوص خضراء براقة، وأنا واثقة تماماً أن أختي لا تتذكر هذه الحادثة الآن، وأنا نفسي أكاد أشك في حدوثها أصلاً لفرط قدمها وخفوتها في ذاكرتي. هذا ما أحبه في الكتابة؛ أنها تفاجئ الكاتب بالكامن في لا وعيه، كما تستهويني فكرة كيف يمكن الإنطلاق من تفصيلة عابرة جداً، لتشييد عمل خيالي مفارق لبذرته الواقعية.
ـ ما الذي لا يعجب الروائي ياسر عبد الحافظ في كتابتك؟
ـ اسأله J
ـ في خطاب تسلم جائزة نوبل، ستقولين سطرين فقط هما:
ـ الكتابة، أعزكم الله، أولها هزل وآخرها جد.. ما بدأ كأحلام يقظة دائمة وبديل لألعاب الطفولة تحول إلى متاهات من كلمات.
ـ ستتركين رسالة الآن لنفسك، ستقرأينها بعد 20 سنة، ستقولين فيها؟
ـ في الغالب، سوف تكون تفاصيل يوم كامل بكل ما جرى فيه، أو تفاصيل منوعة من عدة أيام مختلفة، وأنتظر لأقرأها بعد عشرين سنة لأرى رد فعلي عليها، أظنها ستكون لعبة مسلية، لأنني حين أقع على يوميات قصيرة أو ملاحظات كتبتها قبل سنوات، أستمتع جداً بقراءتها، وكلما تعاظم نسياني للظروف المحيطة بكتابتها، يزداد استمتاعي بقراءتها.
ـ وإذا كانت الرسالة لكريم؟
ـ قبل سنتين ونصف من الآن بدأت بكتابة رسائل أحكي لك فيها عن الأوضاع في مصر لحظة ميلادك، عن كيف بدأت الثورة وما آلت إليه.. مثقلة بالذنب لأنني كنت سبباً في مجيئك لعالم قاسٍ في فترة غير ملائمة، شعرت أن من واجبي – على الأقل – أن أسرد عليك بعض ما لم تعايشه أو لم تكن قادراً على إدراكه لصغر سنك.. بسبب كسلي المتأصل، اكتفيت برسالة واحدة، وآمل حين تصلك كلماتي هذه، أن تكون مصحوبة بباقي الرسائل الموعودة، أتمنى فقط أن تكون خالية من رثاء الذات الذي لطالما سخرت منه في حكايات الأجيال الأكبر عن خيباتهم وثوراتهم المهزومة.