ملاذ آدم: رواية من مأزق وجودنا في الحياة

ملاذ آدم
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عاطف محمد عبد المجيد

بروايتها “ملاذ آدم” الصادرة عن دار غراب للنشر والتوزيع بالقاهرة، تضرب الكاتبة اليمنية الشابة “ذكريات البرّام” التابوهات الثلاثة في مقتل، بعد أن تعدّت حاجز الجرأة إلى كشْف ما تكابده الأنثى في واقعنا العربي، وقد تعمدت الكاتبة أن تُسمي بطلتها ” ملاذ آدم ” لتشير إلى أنّ ما لحق ببطلتها لا يخصها هي وحدها، بل هو ما تقاسيه كل بنات جنسها تقريبًا، أو هكذا أرى.ملاذ آدم التي تكشف سوءات مجتمعاتنا العربية التي تطفو على براكين من الزيف والكذب والخداع، تريد أن تقول إن السعادة لا تُقدم لنا، بل علينا أن نصنعها لأنفسنا بأنفسنا، كما تستاء من استقواء بعض العرب بحصولهم على جنسيات أجنبية أخرى، منتقدة المجتمعات العربية التي تعيش على الشائعات، والتي لو تجلّى لها إله الحقيقة ما صدّقتْه.كما ترى أن الفقر هو سبب الكثير من الكوارث التي تلحق بنا: ” هو الفقر من يجعل مبادئنا وحياتنا وأخلاقنا عرضة للانهيار “.

ملاذ بطلة الرواية فتاة مأزومة نفسيًّا واجتماعيًّا وأُسريًّا، نالت من الجراح ما نالت وفتكت بها الخيبات أيّما فتْك.إنها تعيش حالة الأزمة مع أهلها وعائلتها التي كان هناك حاجز بينها وبينهم لم تستطع السنون أن تمحوه.هنا تعاني ملاذ في مجتمع يقدس العيب أكثر مما يقدس الحرام عبر عادات وتقاليد بالية تُنقص من حقوق المرأة وتجبرها على طقوس حياتية، زيًّا وسلوكًا، سالبةً حريتها جاعلة منها جاريةً، رسالتها الوحيدة في الحياة هي خدمة سيدها والسهر على راحته قاضية أيامها الكئيبة أسفل قدميه، وربما تحت ثِقل جسده القبيح.البطلة هنا تفقد أمها موتًا، وأبيها ابتعادًا وغيابًا، وتتزوج من رجل يكبرها بأربعين سنة في الأقل، وهنا نواجه حالة مأساوية بالمعنى الحرفي للكلمة، فالبطلة تعاني حالة من التشظي والتأرجح ما بين واقعين أحدهما مرير تعيشه وترفضه جملة وتفصيلا، وآخر تتوق إليه حالمة بالوصول إلى أرضه حقيقةً لا وهمًا: ” لماذا خلقت الألم يا الله؟ لماذا لم تجعلنا مخلوقات لا تشعر؟ لماذا ترزقنا النسيان بعد أيام وليالٍ طويلة من الوجع؟ هل هناك آخرة فعلاً ؟ أم أنها مجرد مواساة للمهمشين في الأرض “.                                                

أوجاع النساء

البرّام نفسها لا ترى أن هذه رواية، بل هي أحداث حقيقية لأوجاع العديد من النساء، جمعتهنّ في مرأة واحدة.إنها رواية مكتوبة بصدق، لا ببروتوكولات الروائيين ولا حبكة الأدباء.هي رواية من مأزق وجودنا في الحياة، رغمًا عنا بكل تساؤلاتنا وفلسفتنا، تضعنا أمام حقائق الخراب الذي ينهش في حياتنا الخاصة، وتفضح أسرارنا وتقلبات شخصياتنا التي تتغير بتغير الحياة.قصة ملاذ آدم كالعطر، تُحدث ضجيجًا في قلوب الرجال ثم ترحل.الرواية تناقش، في الأساس، فكرة السفر بحثًا عن مكان أفضل وتفاصيل مختلفة عما نعيشها في أماكننا، لكن يبدو أن هذا ليس سوى وهم، فكل الأماكن متشابهة، لا فرق سوى في لون هنا، وآخر هناك: ” نسافر علّنا نجد شيئًا مختلفًا في الطرف الآخر.ليتنا ندرك أن الحياة هي نفسها الحياة، وأن الفرار منها لن يغيّر شيئًا.نرهق أنفسنا في التجديف بعيدًا، ونتخيل عالم السعادة التي لا ترحل، لا شيء سيشكل لديك فرقًا هنا أو هناك.نتنقل من مدينة لأخرى ولا يحدث فرق.عالم تتغير فيه الألوان فقط.فأين الأرض التي تستحق الحياة من أجلها كما يقول درويش؟” 

الرواية تعرض وجهة نظرها كذلك في رجال الدين إذ تراهم ينافسون الراقصات في الظهور على الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي ليتحدثوا عن العدل في تعدد الزوجات وخزعبلات السحر وخرافات الجن.في هذا الصدد ترى الرواية أيضًا أننا لسنا بحاجة للعديد من الفتاوى التي يطلقها بعضهم لإثارة الرأي العام لا أكثر، ولإضفاء مزيد من الشهرة والحضور لهم، خاصة في مجتمعات تعيش في ظلام المعيشة، وهناك من يموت جوعًا أو بردًا أو نحرًا.كما تستنكر عليهم قولهم إن أكثر أهل النار من النساء في حين أن الرجال يرتكبون المجازر وينشرون الحروب والفقر والجوع ويصدرون فتاوى الجهاد والذبح والحرق، وينشرون الفتن الطائفية والعنصرية، والنساء لا يفعلن سوى النميمة أو الزينة وعدم طاعة الزوج.يا لبؤس الحياة في أرض هي أسوأ بقاع الأرض، أرض تغرق في بحور العنصرية والتطرف وضنك العيش، أرض تجعل أولادها يفرون إلى المنفى بلا هوية وبلا وطن بسبب نزاعات بعضهم.الرواية تنتقد كذلك ما يحدث في الفضاء الافتراضي ” الفيسبوك ” وتراه عالَمًا يسبح في الرذيلة والمجون، بيوت دعارة فيسبوكية، تمتليء فيها صناديق الخاص بصور وقصص عابرة ومشاعر مُهدرة وبلا قيمة.كما تنتقد الرجال متعددي العلاقات: ” هكذا هم الرجال يستطيعون فتْح صفحات جديدة في كل مرة دون أن يفقدوا غشاء بكارتهم !”

كبت وحرية

هنا تظهر جرأة الرواية في محاولة الكشف عن قضايا مجتمعية وإنسانية يُفضل كثيرون السكوت عنها، ويعتبر بعضهم مجرد الاقتراب منها بمثابة من يُلقي بنفسه في التهلكة، كاشفةً عن رؤية رجال كثيرين للمرأة وكيف أنهم لا يرون فيها سوى جسد مُغرٍ ومشاعر مثيرة.نحن هنا برفقة امرأة لا تريد رجلا عاديًّا يشاركها حياتها، بل تريد رجلا يعصف بها ويسحقها، يعزف على أوتارها متمكنًا منها، يستغل جسدها بكامله، يتقن لعبة السرير، ويكون صديقًا يناقشها على طاولة الطعام.امرأة تتمرد على أوضاعها الحياتية مستنكرة الصورة التي يرسمها الرجل الشرقي للمرأة حيث لا يراها كائنًا فاعلا سوى في الفِراش.وكما تنتقد الرواية الرجال تنتقد كذلك النساء اللاتي لا يفعلن شيئًا عن اقتناع، بل رضوخًا للعادات والتقاليد المجتمعية كاللاتي يخلعن زيهنّ ما إن تطأ أقدامهن أرضًا أجنبية لا يعرفهن فيها أحد، وكأن الله لا يراقبهن هناك.الرواية هنا تُبدي استياءها كثيرًا ممن يعيشون حياتهم نزولا على رغبة العادات وليس عن اقتناع أو تنفيذًا لأمر ديني.

تعرضت ملاذ، بطلة الرواية، وهي طفلة للتحرش من قِبل رجل عجوز، كان كل ما في مقدوره أن يهدد بالويل والثبور، وهنا تعلن الرواية ثورتها على من يتحرشون بالفتيات ويستدرجوهن في الدكاكين وأماكن العمل ليفْرغوا فيهن نزواتهم.كذلك تثور الرواية معلنة تمردها على العائلات التي تظلم فتياتها وتحرمهن من حقوقهن في اختيار حياتهن كما يليق بهن: ” إنهم يذبحون طفولتنا يا فاطمة..لمْ يذبحنا الأغراب فقط، بل أقرباؤنا، أمهاتنا، وآباؤنا “.

” ملاذ آدم ” لا تكتفي بمناقشة قضية تعذيب الفتيات والتحرش بهن، ومصيرهن الذي ينتظرهن في مجتمع عربي لا يجيد قراءة المرأة وينظر إليها نظرة دونية، بل تناقش كذلك الفارق بين العقلية الغربية المتفتحة والعقلية العربية المنغلقة: ثمة كبْت هنا، وحرية هناك.أما الرواية في نسختها السياسية فترى أن التغيير هو ما تفرضه الشعوب، لكنه ليس التغيير الفوضوي الذي يُودي بحياة الأبرياء والفقراء، كما تدعو إلى العلم الذي يكرم الإنسان وبه تقوم الثورات ضد الظلم، خاصة وأن الديمقراطية لا تمنح نفسها للشعوب الجاهلة، راصدةً حرب اليمن الأخيرة وما نتج عنها من دمار وقتل، مشيرة إلى أن ثمة عيب في القادة وليس في الشعوب.كما ترى أن استمرار الطغاة في حكمهم يرجع في الأساس إلى جهل الشعوب.أيضًا تنتقد رجال الشرطة الذين يمثلون الخوف نفسه في المجتمع، بدلا من أن يُشعروا الناس بالأمن والأمان، واصفة إياهم بحيوانات لا يُقدّرون قدسية الزي الذي يرتدونه متكسّبين من الرشوة وعطايا الجيوب الخفية.سياسيًّا أيضًا تنتقد الرواية الفاسدين في شتى المجالات، هؤلاء الذين يقتلون حلم الشباب في التغيير.غير أن الرواية، رغم كل هذه المآسي التي تكاد تطيح بجبال شاهقة، تسعى، على هامشها، لإيجاد عذر ما لما وصل إليه الإنسان في مثل هذه الظروف: ” الإنسان الذي تثقل التجارب السيئة كاهله يفقد حُسن الظن رغمًا عنه، تدريجيًّا، يرى ما لا يراه غيره.يستطيع كشف أقنعة الكاذبين وهلوسات المتصنعين”. 

الرواية تضع كذلك مؤشرها على حالة الازدواجية التي يحياها الإنسان العربي، إذ لكل شيء وجهان، أحدهما ظاهر، والآخر يتم إخفاؤه عن الأنظار: ” نحن العرب نفعل جميع المنكرات ونخاف فقط من الفضيحة “.

طقوس الفراش

ملاذ آدم نموذج لامرأة تعيش مرغمة في واقع بئيس، لذا تبحث عن حماية ما، أيًّا ما كانت هذه الحماية، فرارًا من حياتها التي باتت تمقتها، وتمقت كل من له صلة بها. الرواية تنتقد كذلك تعدد الزوجات والرجال الذين يتباهون بعدد ما بأيديهم من النساء وهم لا يَقْدرون على إرضاء إحداهن، ويموت الرجال تاركين سنينًا من الحرمان والألم تعتصر قلوب النساء.

على امتداد صفحاتها تعلن الرواية رفضها القاطع للرجل الشرقي الذي لا يهتم سوى بطقوس الفراش، باحثًا عن متعته هو وحده، دون أن يفكر في متعة من تشاركه الفراش، ولا يفهم أسرار جسدها الذي لا يَلقى منه سوى كل إهمال. 

كما تُعلي من شأن الدم العربي الذي يسري في عروق أبنائه وتبعث حرارته العزة والكرامة في نفوسهم، وتستنكر اعتزاز البعض بأرض غير أرضهم التي ولدوا عليها، أرض تعطيهم أكثر مما لم تعطهم بلادهم إياه، وكم من اللاجئين في هذه الحياة لم تنصفهم بلدانهم !

ثمة رسالة أخرى تريد ” ملاذ آدم ” أن تبعث بها لقارئها، أينما كان وهي أننا: ” نحن البشر لا نحب النصيحة..نؤمن بالتجربة فقط، لذلك نقع كثيرًا على رؤوسنا “. 

وفي الأخير هذه الرواية تعلن صراحة انحيازها التام للمرأة التي لا تنسى خيباتها وتحملها معها أينما ذهبت، حتى يصل بها الأمر إلى أنها ترى أن تجربة الله في خلق آدم أولا قد شابتها أخطاء كثيرة، ولهذا جاءت حواء لاحقًا أكثر اكتمالاً وجمالاً.كما تطرح سؤالا مهمًّا وهو إلى متى سنظل نلجأ إلى أمريكا التي صنعت منا عالمًا ثالثًا يحتاج إليها ويسدد فواتيرها ويختنق بقوانينها؟ وما الذي نلناه منها حتى الآن سوى انعدام الهوية؟ وأطرح أنا سؤالا، على هامش هذه الرواية: متى يستطيع الكاتب العربي أن يكتب بحرية، دون أن يخشى تَرصّد الآخرين له، وهو يعيش على أرض وطنه ؟ أم ستظل حال الكُتّاب هكذا: إن أردت أن تكتب بحرية فهاجر..وإن كتبت ولم تهاجر فمصيرك وراء القضبان بكل تأكيد.       

مقالات من نفس القسم