مغامرة «حجاب الساحر»

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. ياسر ثابت

أرضٌ جديدة يستكشفها الشاعر والروائي أحمد الشهاوي في تجربته الروائية الأولى التي تحمل عنوان «حجاب الساحر» (المصرية اللبنانية، 2022).

في الرواية التي تزخر بالكثير من المحكيات والتفاصيل والشَّذرات الشِّعرية، نلمس بَذَخَ العَالَم وسِحْر اللغة.

تتخذ الرواية من المرجعية التاريخية والتخييل سبيلًا للتجريب الروائي، واستخدمت -من حيث البناء- تقنية الراوي العليم، وفي أحيان أخرى ما يُسمى «القاضي المفسِّر» أو «الراوي العليم المنقح»، وهو الراوي الذي يقتحم مجرى السرد للتعليق على إحدى الشخصيات أو الأحداث أو المواقف أو حتى لعرض آراء لا تتصل اتصالًا مباشرًا بما رواه. وهذا الراوي لا يكتفي بنقل جوانب الحدث، بل يتدخل تدخلًا مباشرًا ليُظهِر بهجته أو غضبه أو اعتراضه أو سخريته.

تحاول الرواية في جوهرها استجلاء قضية المثاقفة بين القديم والجديد في أساليب البناء السردي. أما السرد فهو يراوح بين تقنيات متعددة بالعودة إلى الماضي، والذهاب إلى المستقبل، بفن الرسالة وروح أدب الرحلة الروحية والمكانية.

في «حجاب الساحر» التي تقع في 344 صفحة من القطع المتوسط، يستخدم أحمد الشهاوي تقنيةً تجريبيةً لعرض شخصيات روايته وموضوعاتها وأحداثها. ولأن الشهاوي في الأصل شاعرٌ صوفي، فقد كان أكثر حساسيةً في تجربة الكتابة الروائية، التي وظَّف فيها بإجادة موروثه الثقافي والمعرفي وما يملكه من تَرْسَانَةَ العِشق التي أَثْرَاهَا طويلًا بِمدَّخراتٍ وافرة.

لا عجب إذن، أن نجد أن الرواية اعتمدت ضمن ما اعتمدت على كتاب «خريدة العجائب وفريدة الغرائب» لسراج الدين بن الوردي، وكتاب «خافية الحروف الثمانية والعشرين» لأبي حامد الغزالي، وكتاب «سقطرى جزيرة الأساطير» لفيتالي ناومكين، ترجمة خيري الضامن.

ومن الواضح أن الشهاوي اهتمَّ في «حجاب الساحر» بقضيتين جوهريتين أو بسؤالين كبيرين هما: سؤال المثاقفة، وسؤال التأصيل. من هنا جاءت الرواية ذات أهميَّة وعمق أدبي وأيديولوجي واجتماعي؛ بما أثارته من القضايا الجوهرية والإشكاليات المتجدِّدة في حياة الإنسان وصراعه الدائم بين الخير والشر، وسعيه المستمر لفهم الحياة، وفهم نفسه، ورؤيته للواقع من حوله.

الراوي هنا هو العاشق «عمر»، الذي يجعله أحمد الشهاوي أكثر جرأة وشفافية، ويعطيه مساحة أكبر لإبداء رأيه الواثق من معلوماته بشأن «شمس حمدي»، مع التعليق غير المتحفظ على مسرح الأحداث، ومعرفة التفاصيل والأفكار والبواطن.

تحكي «حجاب الساحر» جزءًا من سيرة «شمس حمدي»، تلك المرأة التي تتمتع بقدر كبير من الصدق والذكاء، وتبدو حياتها خصبةً وثرية في تنوعها، «إنها نساء عديدات، وليست امرأة واحدة تكرر نفسها؛ إذ هي تامةٌ تعجب كل أحدٍ، تأخذ بصرك جملةً» (ص 11).

شخصية «شمس حمدي» بطلة الرواية ذات روح غنائية تستحضر الأحلام، وخيبات الأمل، وما يعنيه أن تكون نقيًا خلّاقًا. وهي تدرك سرّ قوتها وتعرف ماهيتها، فهي امرأة خمسينية درست العلوم السياسية وعاشت حياتها الجامعية مهتمة بالسياسة، ثم أغرمت بتاريخ مصر القديمة.

يقول عنها الراوي: «هي مُتحفٌ كنتُ أذهبُ إليه لأملأ روحي بالجمال المُبهج الباعث على العيش، فهي عالمٌ أو كونٌ مصغر فسيح، متعدد الأرجاء، ومتنوع الأنحاء» (ص 20-21).

ويتابع:«تدرك شمس حمدي أن السعادة هي الهدف.

«أول رسالة كتبتها إلى حبيبها حين تعارفهما الأول وصفتهُ فيها بـ«صاحب السعادة»، وأسمت ابنتها الأولى فرح» (ص 57).

مع ذلك فإنها «تُردِّدُ دائمًا ما حفظته في المدرسة الفرنسية التي درست فيها مراحلها التعليمية الأولى، وما كانت تقوله مُدرستها «رفيعة» على لسان هنري ميشو: «لا يريدُ الألم إلا أن يكون جزءًا مني، يقتلني، ويتمددُ فيَّ، يريد أن يكون مدينتي، وأنا الساكن الوحيد فيها، يريد أن يحكمني، ويثمل بي» (ص 62).

نرى الراوي في بعض الأحيان يمعن في الوصف لتتبلور صورة كاملة عن الموصوف، وهو ما نلاحظه -على سبيل المثال لا الحصر- في قوله:

«تحتفي شمس في طقوسها اليومية بجمالها، إلى الدرجة التي ابتعدتْ عن حبيبها، ولم تعد تراه، أو حتى تكلمه، واكتفت بالكتابة إليه من حينٍ إلى آخر، مؤكدةً له -كلما شكا وتذمر- أن العشق وصلٌ روحي، وليس فقط اتصالًا جسديًا» (ص 19).

من ملامح جمالها الجسدي، نطالع:«نهد شمس كإناءٍ قَرُبَ من الامتلاء، حيث يرتفع وينهض في شموخ، ويُشرف على السماء مُتحديًا الحدود والأسر، كأنه كريمٌ يمضي إلى معالي الأمور» (ص 17).

تقول «شمس حمدي»:

«أحتاج أن أجتاز حدودي كي لا أسقط في الهاوية، وأضيع أكثر مما أنا فيه من تيهٍ وخذلان وابتعاد عمن اختاره قلبي حبيبًا» (ص 10).

«كثيرًا ما أرى الغيب نائمًا على مخدتي، يتربص بي، كأنني ملكةٌ أو ربةٌ مغلوبة على أمرها، مطلوبة إلى المذبح على الرغم من مكانتها وتاريخها، تحاول الهروب مع حلول الليل، لكن الباب لا يُفتَح على الرغم من تكرار المحاولات» (ص 10).

في متاهتها «لم تعد تعرف من تكون، صارت الأسئلة هاجسها الأول، كأنها عاشت حياتها في حضن أداة الاستفهام لماذا، فعاطفة الفضول لديها قوية عن بقية النساء…. لقد صارت مُتعتها تتحقق في الشك» (ص 36).

نتوغل أكثر في يوميات «شمس حمدي»، التي تقول:

«صرتُ أمشي في الشوارع المحيطة ببيتي في حي الزمالك أُحصي العلامات البيضاء الموجودة على أسفلت الطريق، والتي انمحى أغلبُها، وصارت من الماضي، فكم من أقدامٍ يائسةٍ مثلي تعُد خطواتها الكسيرة والكثيرة فوق أرض الشوارع الجانبية والرئيسية» (ص 37).

تتناول رواية «حجاب الساحر» عبر سيرة «شمس حمدي» شريحة مهمة من المجتمع، من دون أن تغفل العلاقات الإنسانية بين أفراد العائلة الواحدة، حيث عانت البطلة سوء أخلاق بعض الأقرباء:

«شمس حمدي ليست شخصية مأساوية، لكنّها بكل تأكيد ملأى بالغريب والعجيب، فقد وُلِدت لعائلة تقليدية محافظة بنت نفسها، وتعلّمت بشكل عادي، مارست السياسة وانخرطت في العمل السري، الذي لم تواصله بسبب اعتراض الأب الدائم وخوفه عليها من السجن، ومن البطش» (ص 34-35).

وعلى الرغم من كون «شمس حمدي» امرأة قوية فقد ضربتها الأمراض؛ جراء فعل السحر، حتى تعثرت حركتها وحياتها، ووهنت وارتبكت، وقلّت حيلتها؛ فتسر لحبيبها الذي ارتبطت به لسنوات، ثم ابتعدت من دون أن تذكر أسبابًا للنأي، أن هناك أعمالًا سحرية تعرقل حياتها، ولم تكن تعرف أن حبيبها له صلة عميقة بالسحر.

يقول الراوي:«منذ عزمي على إنقاذ شمس حمدي من الغرق في بحر السحر، نويتُ ألا أقدِّم ذهبًا أو مالًا كقربان مهدى لأحدٍ سأصطفيه؛ كي يساعدني» (ص 23).

بكل الإصرار يقول الراوي/ المحب:

«كان لديَّ إيمانٌ بشمس، وإيمانٌ آخر بما أحملُ من قدرةٍ على فعل السحر الذي هو خيرٌ؛ لإنقاذ امرأة لا تحمل شرًا لأحد، ولم ؤذ أحدًا في حياتها» (ص 145).

ويتابع:«كنتُ دومًا أقول لها: «المعجزة هي الإيمان، ولا معجزة تتحقق إلا بإيمان صاحبها، المهم ألا يكون هناك زيفٌ» (ص 147).

تخوض «شمس حمدي» مع الراوي حربًا عميقة ضد الجهل والخرافة وإشاعة روح الخراب، حربًا ضد عدم اليقين، ومحاولة العيش في ظل محاولات الآخرين السيطرة عليها، والأضرار الجانبية التي تسربت إلى روحها، والسحر الحقيقي في لحظات الانتصار. فهي مكتوبة بدقة من طبقات عدة، ومن الكثير من الحقائق الاجتماعية، وتكشف من ناحية أخرى آليات تخريب حياة الآخرين، وتفضح الكثير من الأرواح والظروف، التي تجعل من بعض البشر قتلة من دون سبب.

اصطحبها لتمكث ليلة داخل الهرم الأكبر، حيث رأت ما لم يره بشر من قبل، ثم إلى البحيرة المقدسة في الأقصر، وهي أعجوبة من عجائب الحضارة المصرية القديمة عمرها أكثر من ثلاثة آلاف عام، وكان بعض النساء يأتين إليها للتبرك؛ إذ يعتقدن أن مياهها تعالج الأمراض المستعصية والعقم، كما اصطحبها إلى دلتا مصر، ثم الرحلة الأهم إلى جزيرة سقطْرة اليمنية.

«حجاب الساحر» ليست رواية تُروى ليتسلى بها القارئ، لكنها تحمل حياة «شمس حمدي» الخصبة، والثرية في تنوعها. ومثلما تناقش الرواية طبيعة العلاقات الأسرية في المجتمع الحديث؛ فإنها تتناول أيضًا عالم السحر والسحرة.

ويبدو كما لو أن أحمد الشهاوي أراد بهذه الرواية أن يتجاوز نفسه بإدخالها في أتون معركة جديدة، هذه المرة، على صعيد الرواية، وأن يجربها في حقل صعب آخر. في هذا النص يضع الشاعر السارد أحمد الشهاوي أوراقه فوق الطاولة كاشفًا أسراره الظليلة، عن شذرات من حياته، من ذاكرته، من قراءاته، من رحلاته، من صداقاته.

«حجاب الساحر» رواية فريدة ورحلة ممتعة ومغامرة عجيبة، ربما كانت إحدى رسائلها هي أن القهر، أن تصيرَ حزينًا بسعادتك، بعد أن كنت سعيدًا بحزنك.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم