حسن عبد الموجود
فى أوائل التسعينيات كان قد بدا تماماً، سواء فى الوسط الثقافى المصرى، أو فى الأوساط العربية، أن القصيدة المصرية وصلت إلى طريق مسدود، على أيدى شعراء السبعينيات. مات صلاح عبد الصبور، وأمل دنقل، وهاجر عبد المعطى حجازى، وخلا المشهد، لجيل السبعينيات، الذى أحال القصيدة إلى ألاعيب لُغوية أيديولوجية، تستقى مرجعيتها الكاملة من تنظيرات أدونيس.
مع سقوط الاتحاد السوفيتى وحرب الخليج الأولى، كانت الأرض ممهَّدة لظهور جيلٍ جديد، هو الجيل الذى عُرِف فيما بعد بشعراء التسعينيات. احتفت قصيدتهم بالعادى والعابر والتفاصيل اليومية، فى محاولة لاكتشاف الحميم والبسيط داخل الذات الإنسانية، لكن المؤسف أن كثيرين من معدومى الموهبة وجدوا الفرصة سانحة، تحت هذه اللافتات، لكتابة قصيدة أقل من العادى، وأقل من الخواطر، وأقل من المقالات، لا تتعدَّى ثرثرات فارغة، جعلتها أشبه بـ”قصيدة فالصو”، خالية من المعنى.
ورغم أن الشعر هو أحد أصعب الفنون، إن لم يكن أصعبها على الإطلاق، لأسباب تخصُّ كثافته الهائلة، وخصوصية تراكيبه، وبحثه الدؤوب عن البكارة والدهشة، إلا أنَّ كل مَن له علاقة بالوسط الثقافى تجرَّأ عليه، فصار بإمكان أى شخص أن يكتب قصيدة تسعينية “على الريق”، مما يفسِّر كثرة الشعراء مقارنة بالقصَّاصين والروائيين فى ذلك الجيل، حتى أن بعض شعراء السبعينيات تخلوا عن طلاسمهم، وقرروا إذابة الثلوج عن لغتهم، والمخاطرة، أو سمِّها المغامرة، بتذوق تلك القصيدة العادية “اللذيذة”، كما فعل حلمى سالم وجمال القصاص وفريد أبو سعدة، أو حتى محاولة اصطياد الشعر فى أرض أخرى ليست مزروعة بقنابل المجاز، كما فعل عبد المنعم رمضان، وكان محمد بدوى ومحمد صالح ومحمد سليمان أقرب إلى جيل التسعينيات منهم إلى السبعينيات، بينما بقى حسن طلب بمفرده محاصراً بالأسلاك الشائكة فى سجن “الخازباز” واستمر رفعت سلام يطارد “التنانين المجنَّحة” حتى آخر لحظة من حياته.
وسط هذه الضجة المُهلِكة، كان الثمانينيون، مثل أطفال الشوارع، ضائعين، لا تعرفُ غالبيتُهم لأنفسهم أباً يقتفون سيرته ومسيرته، وينادون بأمور غريبة، لا تصدر إلا عن صبيان غير ناضجين، مثل مناداة فتحى عبد الله بكتابة “قصيدة زراعية”، كأن الشاعر فلاح، وكأن القصيدة محصول موسمى، طماطم أو خيار أو حتى برسيم. وجد بعض شعراء الثمانينيات الفرصة سانحة أمامهم لتغيير جلدهم أسوة بالسبعينيين، فرياح التغيير كانت قوية وحادة، وإما أن تلتحق بهذا الركب الجديد، أو تبدو غريباً جداً، كأنك ترتدى “جاكتة” فوق جلباب!
كانت الصراعات على أشدِّها، وحالات الاستقطاب فى منتهى الحدَّة. امتازت المعارك بطعمٍ حرِّيف، بعد أن عانت الحركة الثقافية من الخمول، ومن البضاعة الفاسدة، أو منتهية الصلاحية، وبعد أن دبَّ الموت فى الشعر تقريباً، واستيقظ الكهنة من سباتٍ عميق، فنفض أحمد عبد المعطى حجازى الغبار عن جسده، واتهم الشعراء الجدد بأنهم مجرد “حرافيش” جاءوا لإفساد الشعر المصرى، وأساء إلى بعضهم أيضاً بالرد عليهم فى باب بريد القراء، بمجلة “إبداع” التى كان يرأس تحريرها، كما فعل هو ومدير تحريره حسن طلب مع عماد أبو صالح حين قالا له فى أحد أعداد 93: “لا يزال أمامك الكثير لكى تصبح شاعراً، وما دمت حتى عاجزاً عن إقامة الجملة الشعرية البسيطة فما بالك بالقصيدة؟! إن ما أرسلته ليس شعراً ولا يبدو أنك قد نجحت حتى الآن فى اكتساب ثقافة شعرية تؤهلك للكتابة. ننصحك بأن تفرغ للقراءة الجادة وتنصرف أولاً إلى إتقان أدوات الكتابة الشعرية”.
وكما عانى التسعينيون من كراهية الأصنام، لم ينتبه بعضُهم إلى أنهم تحوَّلوا بدورهم إلى أصنام، ترفض الاختلاف، وتكره التفعيلة، والقصيدة العمودية، وترفض وجود السبعينيين والثمانينيين، وانقسم المشهد، بتعبير كريم عبد السلام، إلى صعاليك وأراجوزات ووقحين ومضطهدين وكارهين، بينما هرب الشعراء الجيدون إلى الظل، وفضَّلوا الانعزال على المشاركة فى الحرب الطاحنة التى تفتقر إلى الأخلاق، وفضَّل بعضهم الآخر عبور البحر المتوسط أو المحيط الأطلنطى بحثاً عن أجواء اجتماعية أفضل، أو احتكاك ثقافى أكثر رقياً، مثلما فعل أحمد يمانى ووليد الخشاب وزهرة يسرى وإيمان مرسال وياسر عبد اللطيف وعماد فؤاد، فى حين احتمى آخرون فى مدنهم البعيدة عن المشهد الغوغائى، مثل علاء خالد فى الإسكندرية، وفتحى عبد السميع فى قنا، أما أصوات مثل خالد أبو بكر وحسنى الزرقاوى وغيرهما فقد غابت عن المشهد تماماً، وبقيت أصوات أخرى تراقب من النوافذ مثل محمود شرف، ومحمد الكفراوى، وشريف الشافعى، وأشرف يوسف، وإبراهيم داود، وياسر شعبان، والبهاء حسين، وكمال أبو النور، وعيد عبد الحليم، وجرجس شكرى، وبهية طلب، وأمل جمال، وجيهان عمر، وسيد محمود، وفارس خضر، ونجاة على، ومؤمن سمير، وعصام أبوزيد، وهدى حسين، وياسر الزيات وعزمى عبد الوهاب.
كان المشهد الشعرى حيَّاً وصاخباً رغم معاركه وعصاباته، وشهد وفرة فى مجلات الماستر التى تواكب أو تدافع عن القصيدة الجديدة مثل “الكتابة الأخرى” و”الجراد” و”إيقاعات” و”الأربعائيون”. مات أسامة الدناصورى باكراً فماتت معه قطعة حيَّة من الشعر، ومات محمود قرنى مؤخراً فماتت معه احتقاناته. جرت فى النهر مياه كثيرة. وشهد العالم تغيُّرات راديكالية ثقافياً وسياسياً واقتصادياً، بينما بقى كثيرون، على الحال نفسه منذ ثلاثة عقود، يشعرون بالاضطهاد والدونية، ويتوهمون أن هناك من يسلبهم حقوقهم، وأنهم أكثر شعرية من والت وايتمان أو شارل بودلير أو فيسوافا شيمبورسكا أو تشارلز سيميك.
فى هذا الملف استكتبتُ من استطعت الوصول إليهم من شعراء التسعينيات، فرفض بعضهم، واعتذر بعضهم الآخر، واستجاب معظمهم، وردوا على أسئلتى البسيطة بإجابات ممتازة، تفسِّر أسباب غيابهم، أو شرودهم بعيداً، أو كراهيتهم للظهور، وتفسِّر نظرتهم، بعد أكثر من ثلاثين عاماً، إلى جيلهم، جيل التسعينيات، وإلى الشعر، والقصيدة الجديدة، و”التفاصيل العادية” فى مواجهة “القضايا الكبرى” التى عادت للبروز مرة أخرى مع الحروب القذرة، والامتهان الذى تتعرض له فلسطين، والأوبئة، واتساع رقعة الفقر، وسحق الإنسان، لكن محمود خير الله بمفرده اختار، كعادته، أن ينظر أسفل قدميه، وأن يرى فى أسئلتى هجوماً شخصياً عليه، وبدلاً من أن يكتب شهادة ذات قيمة، شأن شهادات أبناء جيله هنا، اختار أن يرفع عقيرته بالصياح، وأن يصبح ذلك الشخص الذى لا يسير فى الشارع إلا بعد أن يملأ جيوبه بـ”الأحجار”، أما الشعر ففى مكان آخر أبعد ما يكون عنه.
التسعينيات فكرة وصيحة وتمرد وثورة.. ورغبة فى الاختلاف، البعض امتلك قوة الموهبة، وسلاح الثقافة، وطوَّر من نفسه، ولم يصبح أسيراً لأنماط جاهزة، بينما ظل البعض الآخر يهذى بمقولة “العادى” حتى صار أكثر عادية منها، وبالتالى صار الجيل، بتعبير عبير عبد العزيز، قلة من الصفوة وغالبية من الحرافيش.