إذن نحن نتعامل مع نص يتجه نحو تمحيص رؤية الانسان لنفسه ولواقعه وللكون، لكنه لا يقدم هذه الرؤية بالشكل التقليدي، وإنما بشكل تجريبي يخطو خطوات واسعة في أفق التجريب، فما بين مخاطبة القارئ وادخاله ضمن بنية القصة بحيث يصبح أمامه فرص لإعادة تشكيل النص من جديد، أو لتشكيل زوايا جديدة للنص لم يقلها الكاتب، كما حدث في قصة «قصتنا»، حيث يتم توقف السرد، والتوجه مباشرة للقارئ، بعبارات مثل: «لا تخافوا على صاحبكم الذي دخل المرآة قبل قليل، وأغلق من ورائه الباب، سيكون قادرا، على الرجوع في أي وقت يشاء، المشكلة أنه قد تفوته القصة» صـ10، أو كما يقول: «لا تفاجئني نظرات الدهشة على وجوهكم كلما قلت شيئا مثل إطار شاحنة أو قنوات ري أو حتى كيس فشار، لو أقمتم بيننا بعض الوقت لاكتشفتم المزيد بأنفسكم من أمارات التقدم والحضارة»صـ12-13.
أو أن يتموقع السرد خلف أسلوب المخاطب لرمز مثل «الجد» المحارب، فيتخذ في ظاهره التمجيد لهذا الجد، لكن رويدا رويدا، سيتم استكشاف أنها محاولة لتحليل عقلية بعض الذين يحاولون الاستفادة والنفعية من كل شيء، دون الالتفات الحقيقي لما في جوهر هذه الأشياء من معاني، وهذا ما يرد في أقصوصة «الطريق إلى المتحف»، والمتحف هنا عسكري، والأحفاد يرغبون الآن في وضع جدهم المحارب داخل هذا المتحف، يقول الراوي: «على الأقل ستكون بين أشيائك القديمة، وربما تحكي للأجيال الجديدة أساطير الأولين. ها أنت تبكي الآن كما كنا نبكي في أول يوم لنا بروضة الأطفال. تخيل فقط ما سيعود على أحفادك من عرضك بالمتحف، لن ننشغل بعد اليوم بهموم العيش ولن يخيفنا المستقبل، سنصبح بفضلك مستورين حتى آخر الزمان، وسيبقى في وسع ذريتك البعيدة أن تأتي لزيارتك والقاء التحية، بما أنك تبدو من فئة من الخلق لا تموت.» صـ18، وطبعا يمكن هنا الحديث عن كل الاسقاطات التي قد يحتملها النص عن أمة لا تقدر تراثها، لا تعتز بمحاربيها، لا تعرف تاريخها، لا تستشعر الخطر الذي قد يحيط بها، وهكذا، كل هذه الاسقاطات تبدو حاضرة بإشاراتها مرتهنة بالوجهة التي سيوجهها القارئ، بفضل هذا النمط من التجريب الذي يُلمِّح ولا يصرح، يسحب القارئ تجاه استكشاف تقنية الكتابة، والاستمتاع بجماليتها، ثم في مرحلة تالية يبدأ العقل أو الروح في السباحة حول أفق المعنى المتروك للقارئ تشكيله.
النوع الثالث من التجريب ورد في قصة «خرافتنا»، ومن خلال النص الحواري في التحقيق بين ضابط يبحث عن طريقة قتل احد الأفراد، وبينما يدعي أخوه أنه هو من قتله بتوطين فكرة الانتحار في عقله، تنفي الأم هذا بادعاء ان ابنها المدعي دوره في قتل أخيه يبحث عن دور يستشعر فيه الرجولة، أما الأب فهو غائب فهو في حروب لا تنتهي، وما منح النص تمايزه، طريقة تقديمه عبر الحوار، عبر مناقشة صلاحيات ضابط التحقيق، وصلاحيات المتهم من خلال اللغة الممنوحة لهما، مَنْ منهما له حق استخدام صيغة الاستفهام، ومن صيغة الأمر، ومن يجدر أن يكون حواره منهيا بنقطة، ومن يجدر أن ينه كلامه بعلامة الاستفهام، ويتخذ الحوار والاستجواب مع الأم بعد ذلك منحنى آخر، لكن جوهر القصة سيبقى أن هناك عالما كاملا لا تسجله الأوراق الرسمية، فهناك فنار، وبحر، وكلاهما بالنسبة للحكومة من الخرافات والخزعبلات التي يعيش فيهما أهل القرية، رغم اعتراف الحكومة بوجود صيادين وسوق للأسماك، وهو ما لا يتم إلا في حالة وجود بحر، إلا أن الخرائط الرسمية والحدود الرسمية لا تشير إلى ذلك، وكأن عدم وجود الشيء في الأوراق الرسمية هو أمر كاف جدا لإلغاء وجوده ونفي تحققه على أرض الواقع. ومن ثم يمكن تحميل هذه الرؤية أو اسقاطها على نقاط لا حصر لها في أرض الواقع، فكما قلت من قبل، إن التجريب هنا يتم استخدامه لصالح انفتاح الرؤية، وجعلها قادرة للتكييف التحوير بحسب الاتجاه الذي سيفكر فيه القارئ، فيمكن استحضار مئات الحالات التي توجد في أرض الواقع ولا تلق اعترافا من الحكومة في مواجهتها، ولعلنا نلاحظ أن الكاتب لم يحدد حكومة بعينها، ليظل النص صالحا لأن يقال عن أي مكان وأي زمان بهما تجاهل من قبل أي نظام لأي واقع اجتماعي يعيش فيه أفراده دون عناية أو رعاية من الدولة.
والمظهر الرابع للتجريب جاء في قصة «بحث صغير حول المظلة»، عندما يتم دمج الأسطورة، مع عالم الانترنت، فبينما تعرَّف بطل القصة على البطلة من خلال الانترنت، ومن خلال عرض مجموعة الشمسيات التي تحمل أسطورة اختزالها روح العاشقين القديمين، وبينما نمت الصداقة بينهما من خلال هذا الرمز الحداثي لعصرنا الذي نعيش فيه – أقصد العالم الافتراضي – إلا ان النص يعكس مقدار ما دخل به البعض لهذا العالم من إيمان ورغبة في تصديق الأساطير، خاصة أن هذه الأساطير تبدو في مجملها محاولة لتحدي الفناء والعدم، واعادة ابتعاث الانسان من جديد، اعادة بقائه في وجه متغيرات الزمن، يقول الراوي: «إنها تؤمن بالأسطورة، مثلي تماما، مهما أنكرنا ذلك. لعله اليوم الأخير لي ولها في هذه الدنيا على هذه الصورة، سوف نتيح للعاشقين القديمين العودة فينا، ربما اليوم، ربما الآن في هذه اللحظة ذاتها.»صـ124، وغالبا ما يترك النص مساحات للنهايات المفتوحة التي تجعل القارئ يعيد بنائها بنفسه، فنحن لا نعرف على وجه اليقين إن كانت الاجراءات التي اتخذاها معا قد نجحت أم لم تنجح في أن يعيدا العاشقين للحياة من جديد؟ وهل هذه الاستعادة هي بالروح فقط أم بالروح والجسد؟ فالنهاية تأتي على النحو التالي: «رفعت وجهي تدريجيا إليها، كانت دموعي الآن مكشوفة ومعلقة بين جفوني على وشك أن تنفلت، لكنني لم أكن الوحيد عندئذ الذي يوشك على البكاء، ولم أكن الوحيد في هذه الغابة الذي لا يريد الخروج منها.» صـ125.
أما قصة «قطط ودوائر وخزعبلات أخرى» التي كنت قد بدأت منها، فجوهر ما يميز تجريبها استكناه وصف عالم الروح، ومخاطبة الانسان لذاته في داخل ذاته عبر أفق متوازية، فالربط بين محاسب ينزل سلالم لا نهائية، وصاحبة البناية العجوز التي تستحضر روح زوجها في جسد هذا المحاسب، والقطط التي تم اسكانها بأرواح كانت تفزع وتحاصر هذه السيدة العجوز مما أداها لمحاولة الانتحار، كل هذا يمكن أن يكون أمرا تقليديا تماما تناولته مئات القصص من قبل، لكن فكرة تمثل الروح في صراعها مع السكينة ومع الاستقرار من عدمه في هذا العالم الموازي، الذي يمكن أن يقف كرمز للعالم الداخلي لكل إنسان منا، ففي داخل كل فرد منا دنيا أخرى كان ولا يزال يتمنى أن يعيشها، لكن بعيدا عن محاولة تأويل القصة، إذ أنا حريص على عدم تقديم أية رؤية تأويلية حتى لا أغلق انفتاح النص الذي يمكنه أن يحمل رؤى وتأويلات عدة، فإن التجريب بهذه الطريقة من الحكي الموازي بين عوالم مختلفة لفئات مختلفة من الانسان اشتركت في المكان، لكنها تنافرت في الروح والحلم والطموح، حققت تجريبية خاصة في النص.
إن قراءة مجموعة كما يذهب السيل بقرية نائمة تشبه رحلة في مغامرة تجريبية لاستكشاف مناطق للوعي واللاوعي يتآزرا فيهما معا، ليتجمعا على ذات القارئ فيذهبا به إلى أفق ومدى مغاير مع كل مرة يعيد فيها القراءة، ليفتحا له من جديد امكانية تفكيك وتركيب الواقع والإنسان في عالمه المعاصر، ليصبح السؤال الجوهري: أين روحي ووعيي وشعوري من كل ما حولي في عالمي الذي أعيش فيه؟ هو السؤال الذي يتحمل القارئ مسئولية الإجابة عليه بمفرده دون عون من المجموعة سوى فتح أفق كيفية المساءلة فحسب.