مغامرات الشكل القصصي من التقليدية إلـى التجريب ـ الرواية نموذجاً

مغامرات الشكل القصصي من التقليدية إلـى التجريب ـ الرواية نموذجاً
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. محمد الكرافس

تهدف هذه الورقة إلى تسليط الضوء على مجموعة من المحطات والمغامرات التي عبرها القص العربي للوصول إلى مستوى من الخصوبة والتنوع في الإنتاج وعدم الاستقرار على درجات منفلتة من التجريب والنضج التيمي والشكلي.

سنحاول في هذه الدراسة مقاربة شكل القص القديم /الجديد في الإنتاج الأدبي العربي من خلال الحديث عن تاريخية الشكل الروائي ومغامرة التغيير والتحديث وأفق التجريب في الرواية الجديدة بحكم أن «الشكل الروائي في جوهره صورة لغوية سردية مكتوبة للفعل البشري»(1) وهو اللغة التي تحمل في طياتها مضموناً نسميه جوهر الشكل.

وهذا الجوهر الشكلي طبعاً هو المغامرة الحقيقية في القص والرؤية الفنية الجديدة التي تسربت في لباس غربي إلى الثقافة العربية التي كانت تحتضن شكلا معينا من السرد. هذه الرؤية الجديدة قلبت موازين الأولويات في الأدب العربي وتحول معها الشعر إلى درجة ثانية من الاهتمام وتبوأت الرواية/القصة قمة الإبداع العربي كمغامرة نثرية ذات شكل جديد في الكتابة. هذا الشكل الجديد ما لبث بدوره أن تغير إلى أشكال متعددة من التداخل الأجناسي حتى قيل أن Metafiction الرواية عرفت تغيراً أجناسياً داخل الجنس الواحد وظهر ما يسمى بالميتاقص فما الذي تغير مثلا منذ «حديث عيسى بن هشام» لمحمد المويلحي إلى «أبناء الجبلاوي» لإبراهيم فرغلي؟ هل يكفي سرد حكاية على لسان شخصيات في زمكان وحبكة للحديث عن شكل قصصي؟ هل تكفي اللغة وحدها لتكون وعاء أوحد لركوب مطية التجريب في الشكل القصصي؟ تلكم أسئلة سنحاول الإجابة عنها في ما يلي.

تاريخية الرواية عند العرب ـ تطور الشكل بين التراث والاحتكاك بالغرب:

تتميز الرواية كفن أدبي ريادي على المستوى العالمي والعربي- بحداثتها ونجاحها القياسي في قلب موازين النظم الأدبية التي كان متعارفا عليها منذ ظهور أول عمل « دون كيشوط» لسرفانتيس الإسباني ومروراً بـ «روبنسن كروسو» لدانييل ديفو وروايات القرن التاسع عشر وهي تعرف التغيير تلو التغيير مبتعدة عن النظم الكلاسيكية للسرد ومرتكزة على خلخلة البنية السردية وزعزعة مفهوم القص حتى بات القارئ المعاصر يمسك رواية فلا يعثر فيها على تماسك بنيوي لوحدة النص بل عليه أن يجتهد في إيجاد البنية وتجميع عناصرها المفتتة واستخراج الجماليات المستعملة فيها.

الرواية شكل قصصي بامتياز يحاصر الذات المبدعة في حربائية متمنعة كما يجعل الذات القارئة تتفاعل مع مضمون الأحداث والعلائقية ما بين الشخصيات وتحاول فسخ شفراتها.

ومن خلال مجموعة من الدراسات التي قام بها مؤرخو الرواية ومنظروها من أمثال باختين وجان ريكاريو عند الغرب أو عبد المحسن بدر والدكتور جابر عصفور ويحيى حقي عند العرب تتمظهر الرواية بحضورها في محطات متناغمة مع بعضها تارة ومنفلتة من ذاتها تارة أخرى.

فالعرب عرفوا السرد/الحكي في سالف العصور ولكن الشكل هو الذي تغير ولم يعد منمطا خاضعا لجاهزية قوالب لغوية تقفز بين السجع والبلاغة التقليدية في المقامة أو السير الشعبية. أصحاب هذا الرأي يعتبرون أن الرواية عندنا لم تنبن على البياض ولكنها انطلقت على أسس الكتابة المقاماتية والمرويات السردية الشفهية التراثية التي كانت تعج بهما الثقافة العربية.

هذا الطرح الأكاديمي لمجموعة من النقاد لا يشفع للشكل الروائي العربي اصطدامه في جنينيته بمجموعة من الإكراهات والاعتبارات الثقافية والسياسية كان العالم العربي خلالها يزحف في تخلف وخضوع للسيطرة الغربية كامتداد للإمبريالية المتغطرسة خلال القرن التاسع عشر وكامتداد ثقافي/استشراقي لاستكشاف الشرق وما يخبئه.

وحتى في الغرب نفسه فالفن القصصي برمته خرج في مخاض عسير من رحم أوربا العصر الوسيط على أنقاض أشكال وموروثات ملحمية وكنسية إلى فضاءات أنضج وأكثر اتساعا من خلال ريادة الرواية الفرنسية التي أثرت التاريخ الروائي العالمي وأعطت بالتالي للعرب عن طريق الترجمة وعن طريق المثاقفة كذلك نمطا وفنا جديدين من خلال أعمال زولا وبلزاك وهيكو، حيث تزامن هذا التطور مع مرحلة النهضة العربية التي كان خلالها العالم العربي قد بدأ يستفيق من سباته ومن ويلات الجهل والمحلية.

2-1/الرواية هل بدأت كشكل مقاماتي؟

عرف القرن التاسع عشر ظهور مجموعة من الكتاب الشباب العرب الذين احتكوا بالثقافة الغربية ـ الفرنسية بالضبط- عن طريق متابعة الدراسة بحيث أثمر احتكاكهم بالآخر المتقدم انفتاحا حرا على نوعية الآداب والفنون السائرة آنذاك ووعي بعضهم بضرورة تقليد هذا الغرب لاسيما بعد إتقان لغته. هذه الفئة النخبوية حملت لواء ترجمة روائع الأدب العالمي في مرحلة أولى ثم ما لبثت أن حاولت إنتاج أشكال روائية منطلقة من المادة الخام الموجودة في الثقافة المحلية في مرحلة ثانية.

الرواية شكل قصصي بامتياز يحاصر الذات المبدعة في حربائية متمنعة كما يجعل الذات القارئة تتفاعل مع مضمون الأحداث والعلائقية ما بين الشخصيات وتحاول فسخ شفراتها

طبعاً لا يمكن إنكار وجود السرد في التراث العربي سلفاً، ذلك أن «كليلة ودمنة» و«سيرة عنترة بن شداد» وأشكالاً سردية أخرى يعتبرها بعض النقاد سردا أعطت للكتاب العرب أرضية لبلورة شكل قصصي يعتمد على التشويق والحكي والسرد الخطي الرامي إلى تسلية القراء وإمتاعهم.

وتتجلى هذه المادة الخام على الخصوص في المقامة التي لا تخلو بدورها من قص وشخصيات وأحداث تشبه إلى حد ما بعض أركان الشكل الروائي وبناه التحتية. يمكن إذن الإجابة على السؤل السالف بالقول أن الكتابة الروائية عند العرب في البداية حاولت التخلص من أزمة الانضباط الميكانيكي إلى ما كان سائدا آنذاك من مقامة وسجع لغوي حين هبت رياح التقليد على كتاب القرن التاسع عشر وأدخلتهم في إشكالية التوفيق بين المورث السردي وضرورة محاكاة الإنتاج الروائي الغربي والسير على منواله.

في هذا الإطار لعب الانفتاح الثقافي ومتابعة الدراسة كما سبقت الإشارة إلى ذلك دوراً جوهرياً في خلق تماس من المقارنة بين الأشكال الأدبية الموجودة سلفاً والشكل القصصي الغربي الجديد،فجاءت نصوص «وي إذن لست بإفرنجي» لخليل أفندي خوري و«الساق على الساق في ما هو الفارياق» لأحمد فارس الشدياق، وروايات زينب فواز وعبد الحميد البوقرقاصي ومحمود طاهر لاشين»(2)

و«حديث عيسى بن هشام» لمحمد المويلحي و«غابة الحق» لفرنسيس فتح الله مراش لتكون أشكالا روائية بالمفهوم التقليدي للرواية، ولا نقول هنا رواية نظرا لمجموعة من الاعتبارات النقدية يضيق المجال لسردها هنا، بحيث كانت تنهل من التراث السردي والمقامة بالخصوص وما يتبعها من سجع ووصف وانضباط للغة الماضي في مضمونها البلاغي التكلفي وحتى في شكلها المبني على أسس الأحداث التاريخية كما في حالة جرجي زيدان. هذه الأعمال حاولت أن تكون وفية للقص كشكل جديد ولكن هنا يطرح مشكل الفرق بينها وبين الرواية الفنية بشروطها الشكلية المعاصرة: هذه الأشكال الروائية كانت مغامرة جديدة وإبحاراً متميزاً في مجال الرواية إلا أنها كانت وفية لقص الأحداث مبتعدة عن أهمية الشخوص وعلائقية تواجدها في المتن السردي وفي الحبكة. إنها أشكال بدائية–بالمفهوم المادي وليس بالمفهوم القدحي- لجنس الرواية خاصة الأعمال التي ألفها جرجي زيدان حتى وفاته سنة 1914 وأليس البستاني وليلى بعلبكي.

هذه الأعمال كانت على درجة بسيطة من النضج الشكلي جعلها ترسي دعائم البدايات الفعلية للقص الطويل بالمشهد الإبداعي العربي خلال بدايات القرن العشرين حين بدا الشكل القصصي نشازا دخيلا على المشهد الأدبي العربي وهو يمأسس منحى آخر بعد ظهور رواية « زينب» لمحمد حسين هيكل سنة 1913 كشكل روائي أكثر نضجا فنيا عن الأشكال السابقة وأكثر ابتعادا عن اللغة القديمة.

لقد تميزت التجربة الروائية في تلك الفترة بكونها وعاء للتعبير عن مركزية الذات ولتحميل خطاب فكري يعطي نضجاً وسمة تحررية مثلماً بدأ ذلك الوعي ينعكس عند الأنا العربية التي احتكت بالأنا الغربية كما عند هيكل وطه حسين وأحمد أمين أثمر شكلاً جديداً من الكتابة السير- روائية التي اقتاتت أساساً من الذاتية مثل «يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق الحكيم و«الأيام» لطه حسين جعل الموازين في التجنيس تنقلب لسيطرة النثر العادي على الشعر ولغة المقامة دونما تكلف شكلي ومغالاة سجعية لصالح الأهمية الشخوصية ونضج الخطاب والمحتوى المنفلت والبنية الواقعية للرواية.

2-2/ الشكل الروائي:من الترجمة إلى المحاكاة:

خلال تلك الفترة (حتى بداية القرن التاسع عشر) كانت الأمة العربية تعيش فترة فراغ يسميه البعض بياضا امتد في تاريخ الحضارة العربية منذ سقوط الأندلس إلى الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798 توالت بعده الحملات الاستشراقية على المنطقة العربية وظهرت نخبة من أبناء الوطن العربي خاصة بالشام ومصر مثل رفاعة الطهطاوي الذي قاد حملة عكسية هذه المرة هي حملة الترجمة وهنا كان الاحتكاك بجنس الرواية وبأعمال ستوندهال وشاتوبريون وفيكتور هيكو وفولتير غيرهم. وكانت البداية عبارة عن إقبال على ترجمة هذه الأعمال ثم ما فتئ بعض هؤلاء الكتاب أن بدؤوا يزيدون وينقصون ويتصرفون في الأعمال المترجمة في مرحلة أولى ثم ما لبثوا أن أحسوا بنوع من النضج جعلهم ينتجون أشكالا روائية تدور في فلك التقليد وتتسم بالسطحية في خطابها من خلال التركيز على الجانب العاطفي وكذا محاولة جلب المتعة والتسلية للقارئ.

هذا الطرح الأكاديمي يجعل ظهور الشكل القصصي عموما في الأدب العربي الحديث مبنياً وبشكل مباشر على الاحتكاك الثقافي بالغرب وعلى تقليد الإنتاجات الروائية التي كانت سائدة في ذلك الوقت وهو طرح يبدوا منطقيا إذا ما أصلنا لنشأة الرواية التي بدأت عند الغرب.

3/ الشكل الروائي من الكولونيالية إلى التحرر السياسي والفكري:

تحدث الدكتور محمد برادة في ندوة عقدت شهر ديسمبر 2004 بالقرين بدولة الكويت عن فترة من تاريخ «الرواية العربية في سياق ما بعد الكولونيالية للإحالة إلى فترة الخروج من الاستعمار»(3) التي تميزت بخطاب جديد وتيمات ناضجة عن الأشكال السالفة بحيث اتخذ الشكل القصصي عموماً توجهاً جديداً وصار وعاء للتعبير عن هموم الذات حيث أن الرواية لم تعد ذلك الشكل القصصي السردي ذا المضمون السطحي الذي يتصيد متعة القراء وتسليتهم بقدر ما أصبحت الشكل الأكثر توظيفاً للذاتية الفردية والجماعية والتعبير عن قضايا الأمة والطبقات المسحوقة حتى أن غائية قراءة القصة عموما باتت عند القارئ ملاذا للبحث عن الذات بحيث صار الكاتب العربي نموذجاً لعكس ذات المجتمع في مرآة رواياته والتمرد التصويري الواقعي عند نجيب محفوظ مثلا يعكس شكل القص الذي نحاه الإبداع العربي في تلك المرحلة حين «حاولت الرواية الانسلاخ من حضن لغة المقامات والأخبار والنوادر في حديث المويلحي عن عيسى بن هشام…إلى معاريج تجربة تخلصت من الآثار الرومانسية والبلاغة السلفية السابقة»(4).

قد صاحبت الرواية العربية في شكلها هذا حركية المجتمع آنذاك وتفاعلت معه شكلاً ومضموناً مستندة إلى تقليعات و«إلى أسس ومرتكزات أدبية وثقافية واجتماعية وسياسية وحضارية. ويمكن أن يذكر المرء هنا: تراكم الخبرات الفنية والأدبية، وتطور الوعي الجمالي والاحتكاك والتواصل مع تجارب الروائيين الأجانب

وقد صاحبت الرواية العربية في شكلها هذا حركية المجتمع آنذاك وتفاعلت معه شكلاً ومضموناً مستندة إلى تقليعات و«إلى أسس ومرتكزات أدبية وثقافية واجتماعية وسياسية وحضارية. ويمكن أن يذكر المرء هنا: تراكم الخبرات الفنية والأدبية، وتطور الوعي الجمالي والاحتكاك والتواصل مع تجارب الروائيين الأجانب… وانتشار التعليم وزيادة عدد القادرين على القراءة والكتابة وانتشار المدارس والمطابع ودور النشر والصحافة والمكتبات»(5).

كل هذه العوامل اجتمعت لتغير خريطة الشكل القصصي إلى مستوى التحديث مع المحافظة على خيط أبنية السرد كمادة هلامية في تشكل القص تسهم في بلورة مفهوم جديد للرواية ولشكلها الذي بدأ يعرف رجة في البنية الكلاسيكية التقليدية من خلال التفاعل مع إرث الشارع القومي خلال الفترة الكولونيالية. وقد بات الكتاب العرب على الخصوص جزءاً من نخبة فكرية وثقافية خلال مرحلة الخمسينات والستينات كما يسميها الباحث الدكتور شكري عزيز الماضي- وهي المرحلة التي حصلت فيها معظم دول العالم العربي والإفريقي على استقلالها ـ وتأثرت هذه النخبة بالمد الفكري والثورات الثقافية التي عرفها العالم ووصل صداها إلى المجتمعات العربية ومع نضج الحركات الوطنية والهروب من القالب التقليدي للموروث اقتيدت الرواية إلى كتابة ثانية مبتعدة عن الأحداث المنمطة والشخصيات التافهة في حضورها داخل النص إلى نوع ومقاربة جديدة تتسم بالتفصيل في الحكي واستعمال الرموز وتوظيف تقنيات شعرية بامتياز أخرجت الشكل القصصي من لباسه القديم إلى تجريب آفاق التحديث والخطاب المستنير بحركية المجتمع ونضاله. هذه العوامل يمكن أن نضيف إليها تطور النقد والتنظير للرواية في الغرب وهو ما أهل القص العربي ليستفيد من ذلك خاصة بعد ظهور كتاب عرب من قبيل يحيى حقي وعبد المحسن بدر الذين نظروا للقصة وأشكالها المتداخلة.

4/ شكل المعاصرَة وأفق التجريب في الرواية الجديدة:

لم تعرف الرواية ثباتا على نهج معين لفترة طويلة؛ إنها فن الانزلاق الدائم الذي ما فتئ يجرب آفاقا جديدة متسعة لاحتضان رؤى جديدة.فالرواية «لا حدود نظرية لها، وتتسم بمرونة شكلية لا نهاية لها ولا حد… وأنها نوع لا يخضع إلى قواعد ومواصفات وقوانين ثابتة، وأن التحول والمرونة الفائقة هي أهم صفاتها،خصوصاً من حيث هي شكل مفتوح يظل،دائما، في حالة صنع، فهي مغامرة كتابة أكثر منها كتابة مغامرات كما وصفها -بحق- الناقد الفرنسي جان ريكاريو»(6). والقابض على أسرارها مثل القابض على أسرار الكون حتى أنها عند نقاد معينين تعتبر فن العالم المكتوب الأول والوعاء الأرحب الذي يتسع لاحتضان التجربة الإنسانية الواسعة. الرواية الجديدة كتيار معاصر تصير الشكل القصصي الفضفاض الذي تتسع أجنحته للتحليق برحلة الإنسان ومغامراته الفكرية والفنية في تكامل وانسجام. وهناك من الكتاب من أعطى صورة أخرى للرواية من خلال اتساعها لجماليات تلقٍ تنبني على المفارقة أو كتابة التضاد حيث تصبح الرواية مساحة واسعة للهدم والبناء مثلما نجد في عدد من الكتابات الجديدة للروائي سليم بركات والتي تبتعد عن الذاتية وتقترب من التخييل الفوضوي الذي يتمرد على القوالب الخطية للرواية التقليدية. الروائي المصري إبراهيم فرغلي في روايته «أبناء الجبلاوي» -كنموذج لتيار الرواية الجديدة- يركب مطية التجريب من خلال حضور التداخل النصي عند شخصياته مع شخوص نجيب محفوظ. وهذا يعطي صورة أخرى للتجريب في الشكل الروائي العربي المعاصر وما نلاحظه هنا هو أفق التجريب المورط للقارئ والرواية داخل الرواية (الميتا رواية) التي تنسج بين طبقات السرد وهذا معناه تغليب وجودي وتكينن للشخصيات على حساب الأحداث التي يعتبرها منظرو الرواية المعاصرين خيطا سميكا ينسج على تلاقي وتباعد مساحات الشخصيات داخل فضاء السرد. هذا الانطلاق في سماء التمرد الشكلي يجعل المسافة بين نص «حديث عيسى بن هشام لمحمد المويلحي»كشكل روائي معين و« أبناء الجبلاوي» لإبراهيم فرغلي تبدو طويلة قطعها شكل القص إلى بلورة تحرر شاسع من قيود النمطية واجترار أساليب السرد الخطي والحبكة الروتينية النامية بين البداية والنهاية.

لقد انتصر الشكل الروائي في مرحلتين: المرحلة الأولى حين كان يحبو على أنقاض المرويات السردية والمقامة وتأثره بالغرب حيث جاءت ثورته على الكتابة الشعرية كثورة أولويات بالمفهوم الأجناسي لشكل قصصي نثري مكتوب على شكل تعبيري شعري شفاهي عند العرب

مسألة أخرى طبعت مرحلة ما بعد الكولونيالية على حد تعبير محمد برادة دائماً هي الوعي القومي وظهور نتائج ملموسة لحركات التحرر الوطني التي أثرت على الشكل القصصي برمته وأفرزت تداخلا أجناسيا في الشكل الذي صار ملاذا آمنا للإبداع المتفرد الحاضن لآفاق الشعر والصورة والترميز والتلميح إلى الأشياء بدل التصريح بها كما عند أحمد المديني في «وردة للوقت المغربي» أو استعارة تقنيات مسرحية حوارية سينمائية كما عند عبد الله الحمدوشي صاحب «الذبابة البيضاء» ورائد الرواية البوليسية المغربية.كلها آفاق متجددة للتجريب في الشكل الروائي تتغيا دائما خلق جسر للتواصل مع القارئ وتسعى إلى توريطه في فعل القراءة كما يقول رولان بارت على اعتبار أن القراءة تشكل كتابة ثانية للنص. الشكل الروائي المعاصر ما عاد ذلك الشكل التقليدي الذي يضم خطاباً وأحداثاً تتطور على حساب الشخصيات مبتعدة عن القارئ ومقتربة من نهاية السرد. لقد أضحت الكتابة الروائية مغامرة حقيقية في الانتصار للتجريب ومفارقة مكتملة النضج حتى أن بعض النصوص الروائية تجاوزت مفهوم الزمن والمكان وتمردت عليه وتمردت حتى على اللغة ذاتها كما في تجربة الروائي الفرنسي آلان روب غرييه وجيله السبعيني.

المثال الآخر على أفق التجريب الشكلي المتاح في الكتابة الروائي يتجلى بامتياز في تجربة الكاتب المغربي محمد شكري في «الخبز الحافي» حيث جعل من روايته/سيرته الذاتية مغامرة خصبة في قلب نمطية الشكل الروائي العربي فيخيل إليك وأنت تقرأ هذا العمل أن محمد شكري لا يقص بقدر ما يصور بجرأة لامتناهية شكلا جديدا لكتابة الشخصية/الشخصيات/ لكتابة ذاته التي يحاصرها فعل السرد في عريها وفي ظلامها ونهارها.

لقد انتصر الشكل الروائي في مرحلتين: المرحلة الأولى حين كان يحبو على أنقاض المرويات السردية والمقامة وتأثره بالغرب حيث جاءت ثورته على الكتابة الشعرية كثورة أولويات بالمفهوم الأجناسي لشكل قصصي نثري مكتوب على شكل تعبيري شعري شفاهي عند العرب.

المرحلة الثانية هي عندما ثار الشكل الروائي على ذاته وتمرد عليها وعلى بنية السرد الكلاسيكية؛ بل وحتى على اللغة العربية التي كانت تتميز بالسجع والبلاغة التقليدية والحشمة والوقار في معظم روايات نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين حتى جاء جيل جديد ليسمي الأشياء بمسمياتها.

مثال آخر على أفق التجريب والحداثة في الشكل الروائي نجده في كتابة المفكر المغربي عبد الله العروي في روايته «أوراق» التي تعج بدلالات المغامرة الفكرية والإغراء التخييلي بنزوح الشكل الروائي إلى تجربة جديدة في الانزياح الذهني والجنوح إلى المتخيل الغني بالخطابات المتداخلة التي تجعلك في قراءة للفكر الإنساني بشموليته ونضج تيمي قلما نجده في رواية السلف المؤسس. وهذه الذهنية التخييلية عند بعض النقاد هي أقصى قمم المغامرة الشكلية التي تنتصر لنوع من القص يميط اللثام عن قوة اللغة ودلالة الكلمات التي لا تصبح مجرد كلمات وقوالب لسانية لقولبة المعنى عند عبد الله العروي بقدر ما تصير وعاء لفك رموز الوجود الإنساني وتجريب شخوص الواقع في متخيل مشخصن مع خلخلة لمفهوم الزمن وما هو متعارف عليه في بنية الكتابة الروائية.

5/ خاتمة:

لقد مر التأليف القصصي العربي بمجموعة من المحطات عرف خلالها تنوعا في الإنتاج واختلافا في الوعي والخطاب الفكري الذي يقدمه، كما أثبتت الرواية أنها الشكل القصصي العصي على التنميط والاحتواء في الوقت الذي تم تجريب أنماط جديدة من القص تميزت بهما الرواية الجديدة على الخصوص كتيار ممتد على آفاق جديدة وكأفق لمعانقة جماليات تلقٍ أرحب وأكثر تمردا على النظم الكلاسيكية والتقليدية للشكل الروائي وفي خروج دسم عن الإطار السردي التقليدي المتوالي الأحداث حسب ما أسست له شكلانية فلاديمير بروب.

لقد اجتمعت للشكل الروائي العربي مجموعة من العوامل التي أثرت مسيرته خلال عمره القصير، كما أسهمت في خلق تجاورات وتوازنات ممتدة في تنويع الكتابات الجديدة وفاتحة باب الاختلاف الإبداعي على مصراعي التمرد والبحث خارج سياق الذات عن تجريب شكلي يقوده جيل جديد من الكتاب الشباب الذين لهم همومهم الخاصة ورؤيتهم الفوضوية للعالم.

…………

المصادر والهوامش:

(1) د. شكري عزيز الماضي: أنماط الرواية العربية الجديدة، سلسلة عالم المعرفة، عدد335، إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سبتمبر 2008، ص37.

(2) د.سيد البحرواي: الرواية والأدب الشعبي، مجلة «العربي»، عدد613، إصدار وزارة الإعلام بدولة الكويت، ديسمبر 2009، ص 64.

(3) د. محمد برادة: الرواية العربية بين المحلية والعالمية، الرواية العربية ممكنات السرد،سلسلة عالم المعرفة،عدد 357، إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، نوفمبر2008، ص 20.

(4) د. صلاح فضل: التجريب في الإبداع الروائي، الرواية العربية ممكنات السرد، سلسلة عالم المعرفة، عدد 357، إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت،نوفمبر 2008، ص 112/113.

(5) د.شكري عزيز الماضي: أنماط الرواية العربية الجديدة، مرجع سابق، ص 13.

(6) د. جابر عصفور: ابتداء زمن الرواية: ملاحظات منهجية، الرواية العربية ممكنات السرد، سلسلة عالم المعرفة، عدد 357، إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، نوفمبر2008، ص 155.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم