النقد الأدبي العربي نَهْر واسع مُمْتَد، له منابِعه ومَصَبَّاته وله روافده ومساراته، وليس من الإنصاف أن تُوضع للنهر صورة واحدة على امتداد خَريطة صَمَّاء، دون أن تُرْسَم كافة ملامحه ومتغيراته التي تُظْهر بدقة حركة هذا النهر من المَنْبع إلى المَصَب وتُقَارِب صورته كما هي في الواقع!
وربما الذي أدَّى إلى اتساع النهر وكثرة روافده ومساراته، أنَّ التأليف في النقد الأدبي لم تقتصر المساهمة فيه على فئة واحدة، بل أسهم فيه كل مَنْ كان له صلة – قريبة أم بعيدة – بالنص الأدبي، بداية من الشعراء واللغويين والكُتَّاب والنقاد المتخصصين ومروراً بالفلاسفة وعلماء إعجاز القرآن الكريم بل ومجمل الدراسات القرآنية.
من أجل ذلك كان لابد من رسم تلك الصورة المُكَبَّرة التي تتسع باتساع النهر، وتشمل المشهد النقدي كله قَدْر المستطاع، وليس هناك في الحقيقة وسيلة سوى تتبع (مصادر) هذا النقد تتبعاً زمنياً وَصْفياً، لذا جاء الحديث عن ( مصادر النقد الأدبي القديم ) كمحاولة لتصوير النهر المتدفق ورصد حركته منذ بداياته المبكرة الهادئة وحتى مراحله الأخيرة الهادرة.
وقد جاءت هذه الدراسة بِهَدف تَعَقُّب تاريخ المصادر النقدية منذ بداياته، وتصنيفها وفق الترتيب الزمني التاريخي، وهي محاولة تَجْعَل من الكُتُب والمؤلفات شاغلها الأول، الكتب بتاريخ نشرها وطبعها وأهم محققيها إذا حُقِّقَت، أو مخطوطاتها إذا لم تُنْشَر، أو عنوانها إذا لم تصل إلينا، ثم بما تحويه من موضوعات وقضايا نقدية.
ووَضْع المصدر النقدي في سياق التتابع والتطور التاريخي يُظْهر مدى عظمة وثراء وتنوع تراثنا النقدي، ويسهم في وضع تصور عام للحراك النقدي العربي منذ بدايات التأليف، وهو تصور يجعل حركة النقد أشبه بالنهر الجاري، الذي يبدأ من منبع ويتحرك في مسار ويصل إلى مَصَب، بالإضافة إلى التعرف على تأثير المصدر السابق في اللاحق بالأخذ والنقل والاستلهام أو بالرفض والمعارضة أو بالنقد ونقد النقد.
والحاجة إلى مِثل هذه الدراسة التي تضع مصادر النقد الأدبي القديم في متوالية تاريخية من الأقدم إلى الأحدث، أصبحت ملحة ومطلوبة لدى قطاع كبير من الباحثين والدراسين، خاصة الذين يضعون أقدامهم على أول طريق البحث ممن هُم في مرحلة إعداد أطروحات الماجستير أو الدكتوراه وما قبلهما أيضاً، هؤلاء الذين أَعْيَاهم البحث عن موضوع للدراسة النقدية أو هؤلاء الذين يحتاجون إلى رؤية متكاملة ومن زوايا مختلفة لتطور التأليف في النقد الأدبي.
فَكَمْ مِن هؤلاء قد قَذَفَه بَحْر التراث النقدي العربي الواسع والعميق بعيداً وأَسْلَمَه إلى حالة من اليأس في خَوْض غِمارِه، وكَمْ من هؤلاء قد شَقَّ عليه أن يتعرف على مصادر النقد الأدبي القديم أو أن يعرف كيف يستخلص منها مادتها النقدية، لذا تحاول هذه الدراسة تغيير الصورة النمطية التي انْطَبَعَتْ في أذهان كثير من الباحثين والدارسين حول مصادر النقد الأدبي، والتي تنحصر في عدد محدود من المؤلفات القديمة تلك التي دُرِسَت وقُتِلَتْ بَحْثاً، وبات تَصَوُّر الباحث والدارس لحركة النقد من خلالها لا يَتَعَدَّاها إلى مؤلفات أخرى .
والتتبع الزمني لقضايا النقد الأدبي القديم سيسهم في الإجابة عن تساؤلات محورية، مثل: متى كان أول ظهور لهذه القضية؟ وأين انتهت؟ ومَنْ أَكْثَر الذين تناولوها مِن النقاد والأدباء والعلماء؟، فإذا أردنا أن نبحث مثلاً في تطور قضية السرقات، أو الموازنات الشعرية، أو اللفظ والمعنى، أو الطبع والصَّنْعَة، أو نظرية الفنون، أو القدماء والمحدثين، أو أي قضية وَرَدت في هذا الكتاب، فيمكننا بسهولة ويسر أن نَرْسم خريطة واضحة المعالم لهذه القضية أو تلك مِن خلال المصادر التي تحدثت عنها أو من خلال مَن تناولوها مِن النقاد.
وكتاب (مصادر النقد الأدبي القديم) هو إصدار جديد في أربعة أجزاء للدكتور علي عبد الجليل علي، وسوف ينشره المكتب العربي للمعارف بالقاهرة، ويظهر للقراء والباحثين في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته السادسة والخمسين والذي سيبدأ في 23 يناير 2025 م وحتى 6 فبراير 2025 م .