إبراهيم الحسين
إلى الصديقات والأصدقاء؛ كنا في مدينة سيدي بوسعيد*
1 – الأزرق
الأمرُ ليس في سياجِ شرفةٍ طُلِيَ بالأزرقِ المهادن لئلا يفرَّ من مكانِه ليس في قهوةٍ انفتحَت لنا كبئرٍ بين الجبال ليس في وَردٍ استطاعَ البقاءَ على أغصانِه حافظَ على رزانتِه ولم يغادر، الأمرُ ليس في بحرٍ مجّدَ زرقتَه وغلّفَها بالتماعاتِ شمسٍ وقدّمَها بهدوءٍ لنا، كذلك ليس في ضحكاتٍ واصلَت القفزَ من أفواهِنا لتعودَ إلى البحر وليس في أغانٍ ردّدناها معاً نحتمي بها ونصنعُ بها مسافةً كافيةً تُبعِدُنا عن الجُرف؛ الأمرُ ليس كلَّ ذلك لنجدَ أنفسَنا عالقينَ بذاك الصباح بهجتُهُ ناشبةٌ في الحلق ولن تهبَّ لنجدتِنا طاولاتٌ أو منافض لن يشدَّ قمصانَنا أو يعيدَنا ثانيةً إلى الأرض اتساعُ عيونِ كاميراتٍ، الأمرُ أننا سننتفضُ ونلمعُ في هواءِ الذكرى إلى الأبد وربما كانَ الأمرُ أنّ الظلَّ الذي أحكمَ علينا أكمامَه لم يكفَّ عن التلويح ولم ينتبهْ له أحد.
24 يونيو 2022
2 – غيمُ المصافحات
يباغتُني غيمُ المصافحاتِ الذي يتصاعَدُ ويظلّلُنا، يتبعُنا أينما ذهبنا. لا أنتبهُ للشجرِ يفقدُ أعصابَهُ ويخرجُ عن أغصانِهِ وأوراقِه، ويتفرّعُ أكثر، لا أضعُ في حساباتي أنّ قُماشَ أشرعتي يمكن أن يتمزّقَ في تلك اللحظةِ التي يعصفُ بها ما يتهدّمُ من جدرانٍ داخلي لا أعرفُ مَن أقامَها أو متى، لكن لم يفتْني إدراكُ أننا كنّا نفيضُ ونمتدُّ ساحبينَ كلَّ ما يصادفُنا مِن ابتساماتٍ وقمصانٍ وفساتينَ ولونِ بَشَراتٍ وقصّاتِ شعرٍ ونوافذَ وصمتٍ محروثٍ وقصائد؛ ما لم أتوقعْهُ أبداً هو أن ترفضَ، أصواتُنا وبحّاتُنا ونبراتُنا التي كانت على مقاسِ ذهولِنا ونظراتُنا الطويلةُ الواسعة وضحكاتُنا، العودةَ معنا وتحرُنَ هناك. ما لم يَدُر في البالِ أن أتمدّدَ في سريري، وأن يكونَ غيمُ المصافحات الذي صار داكناً أكثر معلّقاً بالسقف، أن يشقَّهُ برقٌ.. ويمطرَ هكذا مطراً همجيّاً.
24 يونيو 2022
3 – تمشي وتمشي
أنت تمشي بين ملاعقَ وشُوَكٍ، وتثبُ فوقَ هدنةِ سكاكين. أنت تمشي وتعبُرُ بين أطباقٍ ومناديل، لا تعيقُكَ قهقهةُ صديقٍ ولا تعدَم طريقةً لتجاوُزِ نظرةٍ بعيدةٍ لآخر. أنتَ تغذُّ السيْرَ في أزرق بركةٍ وتشدّدُ قبضتَكَ على حبلٍ تتعلق به لتتخطَّى لهجةَ النادلِ العميقة، لكنّكَ تمشي تَطوِي منافضَ وقدّاحاتٍ ومظلّاتٍ ومقاعدَ وطاولاتٍ. تمشي وتلتفتُ أحيانا لتقدّرَ كم قطعتَ من مفاتيح غُرفٍ، كم بقيَ من زَهْرِ موظّفةِ استقبال، وكم عليكَ أن تقفَ وتقدّرَ الجهةَ الصحيحة في مُفترَقِ ابتسامتِها، ونبرتِها وأقراطِها.. لكنّكَ تمشي غيرَ عابئٍ أنّك ربما تضيعُ، غيرَ عابئٍ بقلقِ قمصانِكَ ونداءاتِها العالية. كأنك لا ترى نسائمَ بحرٍ يضعُها في طريقِك، يحاولُ إعادةَ خَطوِكَ إلى الأرض؛ إعادتَكَ إلى سويّتِكَ، إلى حقيبةٍ معلّقةٍ بكتفِك سئمَتْ عدمَ إصغائِكَ لها، غيرَ معترفٍ بحقائبَ جاءَت معك تقفُ على الأهبةِ في غرفتِك، لكنّكَ تنكرُها بشدّةٍ وأنت تمشي وتمشي وتمشي وتمشي.
24 يونيو 2022
4 – الذي فاضَ عن قميصِه
لم نكن بحاجةٍ لاقتلاعِ صخْرِ الجبال، ولم تكن خُضرةُ أشجارِها ملحّةً علينا، رخامُ “المدينة الثقافية” كان كافيا لإزالةِ الأشواك لأصلَ على مهلٍ إلى حنطةِ بَشَرتِها دونَ عائق، حتى أني عرفتُ بكلِّ سهولة أنّها قادرةٌ على حمْلِ ابتسامتِها من روحِها إلى فمِها، وأنها لا تجدُ صعوبةً أبداً في نقْلِ حلقةِ الكعك وإيصالِها سريعا إلى يدي كأنها ريشة، كانت تنفضُ بنبرتِها غباراً تراكمَ بكثافةٍ على روحي لسنوات، وكانت تنفثُ دخانَ سيجارتِها الإلكترونية خطْفاً، كأنّ مفرقَ شعرِها سيشي باستدارةِ كتفِها، كأنّه سيُفشِيها وكأنّ خطوطَ قميصِها رسالةٌ لم تُحسِنَ إخفاءَ حروفِها، أو أنها أرادتْها واضحةً.. وكان يعنيها كثيرا أن تُحدِثَ سدّاً بضحكتِها، لتجمعَ هذا الذي فاضَ عن قميصِهِ. تعدّدَ في ذراعٍ مُورِقٍ، استندَ إلى ذراعٍ ثم فاضَ برغوتِهِ كلِّها مِن حلمِهِ؛ ليخرجَ غزيراً ووحيداً مِن بابِ نظرتِهِ الواسعِ الذي بلا سقف.
25 يونيو 2022
5 – ما يتركُهُ الغريب
تَركْنا هناك أكواماً من الضحك، سيحتاجونَ جرّافاتٍ.. سيحتاجونَ وقتاً طويلاً لإزالتِها، تركْنا ظلالاً على حجارةِ طُرُقِها، لُهاثاً ثقيلاً على الدَّرج، تركْنا كلاماً أزرق وصمتاً أبيض يهفهفانِ في الهواء، تركناهما لم يسعفْنا الوقتُ ولا سعةُ الحقائب، تركْنا ورْدَ الباعةِ وصقورَهم ونداءاتِهم والفساتينَ التي تمشي وحدَها والقبعاتِ المروّضة، تركنا اللغطَ متناثراً هنا وهناك لم يكن فيه ما يُغرِي بحمْلِه. تركْنا ما يتركُهُ الغريبُ مِن لوعةٍ ومِن دهشةٍ، لم يعُد في وسعِهِ حمْلُها فذرّاها للطيرِ وللعيون؛
وتركْنا البحرَ أدرْنا لهُ ظهورَنا.. فقد فاتَ أوانُ أن نصبحَ زرقةً أو سمكةً فيه، أو موجاً أو حتى رملاً كامداً بجوارِه.
25 يونيو 2022
6 – حافيةٌ على الهواء
إلى الفنانة صابرين غنّودي
لم تكن بنا حاجةٌ للكتابةِ على الأشجار فقد كانت وحدَها تتحدّث، لا توارِبُ خُضرةً ولا تنهرُ غصناً اِلتَوَى أكثرَ يومَ صدعَ فستانُها بحمرتِهِ ويومَ هَبَّ فمُها بالشِّعر. تحلِّقُ فوق المسرح وتبتعدُ قليلا، ثم تعودُ واحدةً من نغماتِ الجيتار نغمةً تظلُّ تتصادَى لتُسقِطَ ما جئنا به على ظهورِنا. الجيتارُ الذي يعرفُها ويحبُّها كلما أقبلَت يفرحُ ويصرخُ من أقصى وترٍ فيه. لا تَعرفُ متى تنسلُّ ومتى تعودُ حافيةً على الهواء، لا تحطُّ على تصفيقٍ ولا تتمسّكُ بعيونِ كاميراتٍ كان بعضُها يرتشفُها بصوتٍ؛
هي الفراشةُ الفسفوريةُ بضوءِ قوائمِها ووجهِها.. بجناحيها الواسعينِ تحفُّ بهما المكان.. بخطوطِ ابتسامتِها الذهبية، بقبّعتِها القصيدةِ ذاتِ الشذرات. وهي الغيمةُ التي أينما ترحّلَت أو أقامَت دائما تَهمي.
26 يونيو 2022
7 – ماريان
ماريان لا تذهبُ إلى البحر، تستطيعُ أن تراها واقفةً ولن يكونَ صعباً أن ترى صُحبتَها شجرةً، مع ذلك ماريان لا تذهبُ إلى البحر، تضعُ وِشاحَها على كتفيها مثلَ علامةٍ حتى لا تضيعَ منها نظرتُها التي تهذّبُ بها أشجارَها غيرَ المرئية، حتى تهتديَ إليها بُحَيرتُها إذا ضلَّت وحتى تعرفَها الأغصانُ والأوراقُ الطافيةُ هناك، وتعرفُ جيّداً أنّ ماريان لا تذهبُ إلى البحر لأنها كثيراً ما تواربُ عينَها لتقتربَ أكثرَ من جذعِها الأول، ولأنّ بياضاً اقتحمَ شَعرَها دون إذْن ولم تقل له شيئا. تنشغلُ ماريان أحيانا بالتقاطِ الوجوهِ وإيداعِها في حقيبتِها، ولا تتورّعُ عن ردِّ التحيةِ للنجمة إذا ما لمعَت باسمِها، لكنّها لا تَعفُّ عن ظلٍّ أو كتاب ولا شاشةِ هاتفٍ نقّال، ولا تُعنَى أبداً بسؤالِ نفسِها لماذا برُغمِ كلِّ عُمقِها الواضح الذي بلا قعر لماذا لا تذهبُ إلى البحر؛ لماذا ماريان لا تضحّي بشيءٍ من وقتِها أو مائِها أو ريشِ ابتسامتِها الخاطفة والبعيدة. لماذا لا ترتكبُ زعنفةً واحدةً وتذهبُ لو مرّةً إلى البحر..
والبحرُ يدعو ماريان إلى وجهِهِ يفتحُ لها مياهَه، يُرِيها وميضَ قلبِهِ الأزرق يجهشُ وينتظر، لكنّ ماريان تَسدِلُ قصيدتَها عليها لتعذُبَ وتشعَّ أكثر. تنصرفُ إلى كلِّ مكانٍ إلى كلِّ جهةٍ إلا جهةَ البحر؛ لأنها ماريان التي تُصغِي جيّداً بكلِّ ما أُوتِيَتْ مِن ملامحَ إلى ظلِّها لكنّها لا تفكّر أن تذهبَ إلى البحر.
27 يونيو 2022
8 – زفّةُ العروس
يخرجنَ من تسريحاتِ الشَّعر يعبرن من ألوان الفساتين، يقرعن الدفَّ يدخلن فيه ويُصغين إلى نبضِ قلبِه إلى ما كان يودُّ منذ زمنٍ أن يسألَه أحدٌ عنه، يُطلقنَ أصواتا كادت أن تذبلَ وتيبسَ في دخائلِهن. كُنَّ يغسلن بالضحكاتِ حجارةَ الطريق، كُنّ يجابهنَ الوحدةَ التي طالت بأحمرِ شفاهٍ أو أغنية. يُعِدْنَ إلى الأجسادِ ألسنتَها، يردّدنَ بالخَطْوِ إيقاعاً لم يكن يوماً غيرَ انكسارِ قيدٍ غيرَ خروجٍ على الشبكة وتحرُّرٍ من الطُّعْم؛ يلتفتن إلى الواحدة ليعرفن أين بلغَت في لمعتِها، وكم قطعَت من الوسوسة.. هل شَقَّت حجارتَها هل نبتَ لها ريشٌ لتؤدّيَ الأفواهُ كلَّ ما جاءت من أجلِه؛
يخرجنَ من الكُحلِ ومقابضِ الشَّعر من حُمرة الوجناتِ من فصوصِ الخواتم من همسِ الخلاخلِ ومن العقودِ من الأقراطِ والقبعات المزركشة.. يُيمّمن صوبَ البحر يقلنَ له: جئناك أيها البحر بزرقتنا العالية جِئناكَ جئناكَ فانظرْ إلينا صِرْنا مثلَكَ فارقصْ معنا أيُّها البحرُ وغنِّ.
28 يونيو 2022
9 – استراحة
لَيسَ هناكَ مَا يَحمِلُ شَجَرَةً على الوُقُوفِ مِثلَ جُندِيّ يُلقِي التّحيةَ أَو يَجعَلُ أَوراقَها تُشعُّ بِشَكْلٍ مُفاجِئ، حتى وَرْدُها كثّفَ وَرْدِيّهُ، سَاحَةُ الشّجرةِ تتَمتّعُ بظلٍّ صَالِحٍ لاستِراحةِ عامِلةِ الفُندقِ على كُرسِيّها تَطحنُ أفكارَها دونَ صوتٍ، تأخذُ حَفنةً مِنها وتُلقِيهَا عَلَيّ:
أَتَقْرأُ لِي قَصيدةً؟
-هذا جَميييلٌ
تُوقِفُ الطّحنَ وَيخْرجُ من جِذعِهَا غُصنٌ يَتسلّقُني:
– أَتُرسِلُهَا إِلى هاتفي؟
– لكن النّتَّ مُعَطّلٌ
– إِذَنْ اِغرِسْهَا لِي فِي وَرَقةِِ
– أَعِدُكِ بِذلك
لكنّي لَم أعُد
وَمَا زَالتْ حَفْنتُها تُعَاوِدُني وَتُغطِّي شَارِعِي وَثِيابِي ورُوحِي مَا زَالتْ تِلكَ الرّائِحةُ؛ كَيفَ حَدَثَ ذَلِك!!!
29 يونيو 2022
10 – الإجهاشة
الإجهاشَةُ لَا تَعرِفُ أحَداً، بِصَريرِهَا العَالي غيرِ المُتدرِّجِ تَفْلِقُ الطّاولةَ وتُرَوّعُ الأورَاقَ بِسُرعَةِ هُبُوبِها، الإجهاشةُ لَا تعرِفُ أَحَداً تَعضُّ حِبالَ حُنجُرَتِكَ تُرِيدُ قَطْعَها وَتَهبطُ بِنَبرَتِكَ إِلى مَرتَبَتِها الدُّنيا لَا تُراعِي العُيونَ التي تَصُبُّ فِيكَ وَلا تَتَرفَّقُ بِسَوَادِ ميكروفون أو اِرتِعَاشِ أَصَابِع، تَعصِبُ عَيُنَيكَ وَتَجْعلُكَ وَحْدَكَ مَعَها
تُعْمِلُ فِيكَ أَسْئِلَتَها الجَارِحَةَ تَمحُو كُلّ مَا اكْتَسَبْتَهُ مِن تَهوينٍ لِلأُمورِ تُطْلِقُ عَليكَ عَدَمَ لَيَاقَتِكَ تَضعُكَ على حَدِّ دَهْشَتِكَ الرّهِيفِ تَأخُذُ مِنكَ الكلامَ وَتَجْعَلُكَ لَا تُجِيدُ شَيئاً غَيْرَها، الإجهاشةُ لَا تَختَبِئ أَوْتَتَخَفَّى أَوْ تَتَسَلّلُ، بَغتَةً تَجِدُهَا فِي وَجْهِكَ وَصَوْتِكَ لكن لا تَعرِفُ مِن أَيّ مَكانٍ قَصِيٍّ جَاءَتْ مِن أيّ غُرفَةٍ دَاخِلَكَ تَرَكْتَ بَابَها مَفْتُوحاً اِندَفَعَتْ وخَرَجَتْ، الإجْهَاشَةُ لَا تَطرُقُ البابَ لَا تُمْهِلُ وَلا تُعَاتِبُ وَلَيسَ فِي عُرْفِهَا كُلُّ ذلكَ ليسَ في عُرفِها مَا يَجْعَلُكَ قادِراً عَلَى تَفَادِي ضَرَاوَتِها إِذَا حَضَرَتْ ضَرَبَتْ وَأَوْجَعَتْ وَتَشَفَّتْ؛ هَذِي الإجهاشةُ التي مِنْكَ وَفِيكَ صَارَتْ عَلَيْكَ وَوَضَعَتْكَ تَحْتَ قَوَائِمِهَا. الإجهاشةُ الّتي لَا تَعرِفُ وَلَا تَحْتَرِمُ أَوْ تَعْتَرِفُ بِأَحَدٍ.
30 يونيو 2022
11 – توجعُني الزرقة
تُوجِعُني الزُّرقةُ يا سِيدِي بو سْعِيدْ وأكثر منه البياضُ كُلّمَا بَرَقَا في الرُّوحِ.
يُوجِعُني الحَجَرُ أَسْمعُ رَجْعَ خُطايَ فوقَه واضِحاً وَأرى لمْعتَهُ أرى فواصِلَهُ السّود كأنها أَمامي وأُدركُ الآن أنّها كانتْ كِتابةً، توجعُني النسمةُ ما زالت تهبُّ وترفعُ الغِطاءَ لِأنظُرَ بِعَينَيّ أَنّ الجرحَ جَديدٌ وأزرق، يوجعُني الشجرُ بِحيادِهِ الأخضر إِذْ يترُكُنا غَافِلين ويوجعُني البحرُ لم يُحرِّكْ ساكِناً لَم يُنبّهنا ولم يُشِر إلى أنّنا سَنتَوجَّعُ إلى أننا وَضَعنا في حقَائِبِنا وَجَعاً دونَ أن نَدري وَعُدْنَا بِهِ.
1 يوليو 2022
12 – القهوة العالية
إلى عبدالله ثابت
على دَرَجِ “القهوة العالية” المُعَدَّة لقراءةِ قصائِدِنا تَهدّمَتْ أفواهُنا، في الطريقِ إليهِ كانت القصائدُ تمشي بِإيقاعِها الحميمِ، في ضوءِ المقهى كانت الكلماتُ تَبحثُ عن أبوابِ القصائدِ الخَلْفيةِ والنّدُلُ كانوا يعبرُونَ القصائدَ التي كانت دون خطوطِ مشاةٍ، كانوا يعبُرون بأطباقِهم وأَراجِيلِهم يعتَرِضونَ الكلماتِ يُوقفونَ سَيْرَها، فَمِن حَقِّ نِداءَاتِ الزّبائنِ ومن حقّ قَعْقَعةِ الأَوَاني أن تَعبُرَ أَوّلاً
كَما أنّه مِن حقّ المَصطبةِ التي يُستدرَجُ إليها الشعراءُ بِأسمائهِم الشعراء الذين شَرِبوا قهوةً باردةً وتَجَشّأوا ضجراً، من حقِّها أن تَستحِي وتَتوارى تحت سجّادتِها الحمراء، كما من حقّ قمِيصِكَ أنْ لا تُرغِمَهُ على شَيئ حتَّى وَلَا على الاحتِفاظِ بأزرارِه، وحِينَ تَحِينُ اللحظةُ التي تَشُكُّ فيها أنّ الاسمَ الذي يُشَهّرُ بهِ هُوَ اسْمُكَ، تَقصِدُ المَصطَبَةَ حَامِلاً قَفَصَكَ الذّابِلَ الذي تَفتَحُهُ وَلَا يطيرُ منه شيئٌ؛
القَصائدُ لا تَتحرّكُ وقَوَائِمُهَا إلَىٰ أَعْلَىٰ.
2 يوليو 2022
13 – روان
رَوَانُ تُجرّبُ قبّعةً وشَعراً مُسدلاً يَحُطُّ على كَتِفيْها لكن روان لا تَصِلُ تُجرّبُ وَتسْلُكُ سَوادَ نظّارتِها الشّمسيّةِ تخمّنُ أنها أسهلُ وأقصرُ لكن روان تسقطُ منها الجهةُ لا تدري أين ولا تصلُ، تَتأفّفُ وتَتبعُ أقراطاً تمشي خَلْفَها لكنّ الأقراطَ تَتأرجحُ وَحدَها لا تأبهُ وروان لا تصل، تَتلفّتُ روان وتُطاوِعُ غِطاءً لشَعرِها تثقُ فيهِ وتَأْتمِنهُ على نَظْرتِها وعلى بريقِ أسَاورِها وسُرعةِ كلامِها لكنها تَتفتَّحُ وتتفتّح ولا تصل، وروان تنهضُ فجأةً وتَسْتَقِلُّ بُحّةً تقولُ إنها قد تكونُ أسرعَ ومع ذلك روان لا تصل،
روان تُوقِفُ الآنَ حَدِيثَها وتضعُ صَمتَها بقوّةٍ على الطاولةِ تفتحُ حقيبتَها فَيفِيضُ منها ضَجرٌ ودمعٌ وعيونٌ حمراءُ كثيرةٌ، لكنها تجرّبُ وتجرّب وتجرب حَدَّ أنها تَصُبُّ نَفْسَها في النّحَاسِ وتقولُ: لا أذكرُ أين قرأتُ أنه ينفعُ وأني إِذا ما غَطَسْتُ جيّداً فيهِ أو غَرِقتُ سأصلُ وأصلُ وَألْمسُنِي.
2 يوليو 2022
14 – لِنُعِن النهار
إلى طاهر العجرودي
لِنُعِنِ النهارَ على حملِ صُورتِنا يا طاهر لِنكتبْ لَهُ جُرحَنا الواضِحَ حتى يعرِفَنا ويعرفَ أنّنا نهربُ إلى شَجرٍ نتحدّثُ إليهِ أو نصمتُ في ظلِّهِ، فَلْنجرّبْ مرّةً ونُساعِدْهُ على حملِ خُضرةِ هذا الشجرِ حتى لا تسقطَ منه ولنخضرّ ونتفرّع بما يكفِي لِنضعَ في ضوئِه ضحكةً عميقةً فالنهارُ إن كنتَ لا تدري يَفرحُ يا طاهر،
لِنُعِنِ النهارَ يا طاهر حتى ولو بِإجهاشَةٍ تَقصِمُ ظهرَ الطاولةِ وتَجعلُنا نذهبُ كلَّ مذهبٍ من أَوّلِ حناجرِنا إلى آخرِها، نُعينُ هذا النهارَ على تذكُّرِنا على تَأبيدِ دمعِنا ووجوهِنا على انخطافِنا في سَوْرَتِهِ حتى وإن اِلْتَاثَتْ قُمصانُنَا ولَوَّحَتْ بِنَسِيجِها وألوانِها وثَنْياتِها يا طاهر.
2 يوليو 2022
15 – ضحكتُكَ تبني عُشَّها
إلى د. عادل خميس الزهراني
أنتَ تنبتُ في ابتسامتِكَ الخصبة، لا تعتمدُ على مصافحةٍ ولا تستندُ إلى كلماتٍ، كنتُ أظنُّ أن قميصاً أسودَ لن يصمدَ تحتَ خُطَى هذهِ الأيامِ التي عبرَتْ مسرعةً، كنت أحسبُ أن قبّعةً أمعنتْ في سوادِها كأنها تتنبّأ ستقيمُ لثوانٍ وأنها سرعانَ ما ستترحَّلُ تطيرُ وتختفي، فكم كنتُ مخطِئاً فها هي ضحكتُكَ تبني عُشَّها عند نافذتي وها هي نبرتُكَ معلقةٌ بالسقفِ مضيئةً لا تَنطفئُ؛ تلك اللّقطةُ التي جَمَعتْنا أبداً لم تكن حُجّةً ولا مبرّراً لحدوثِ هذي الهُوّةِ العميقةِ أو لِتواصِلَ هذي الرّيحُ عَصْفَها مُلصِقةً في القلبِ كلَّ قراطيسِ الخسارةِ يا عادل.
3 يوليو 2022
16 – نبرتُكَ الخفيفةُ شاسعة
إلى د. سعيد السريحي
نَبْرتُكَ الخفيفةُ واسعةٌ تضعُ فيها شوارعَ عَبَرْتَها وتشقُّ فيها طُرُقاً سَتعبرُها وتَغرسُ شجراً، تقذفُ فيها جَدلاً ما زالَ يُؤرّقُكَ، حتّى التحيةَ الخافتةَ والحميمةَ وضعتَها فيها، نبرتُكَ الخفيفةُ شاسعةٌ رأيناكَ تركضُ فيها تَتبَعُكَ الكتبُ والأقلامُ والقصائدُ مُحاولةً اللّحاقَ بكَ، تلك النبرةُ الخفيفةُ والخافتةُ رأيناكَ كيف تَفتَحُها وتَستَظِلُّ رأيناكَ كيف تهزُّها وتُقِيمُ أَوَدَكَ وأبداً لم تَجعَلْها حكْراً عليكَ، اِنتَبهْنا إليكَ كيف تقذفُ نفسَكَ فيها تَدْعَكُ جَسَدَكَ قلبَكَ وروحَكَ تُنَهْنِهُ وتَتطهّرُ، نبرةٌ خفيفةٌ وناعمةٌ لم تَترَدّد يوماً في غَزْلِها تَصنعُ منها قميصاً لا يُقَدُّ؛هذي النبرةُ التي وقفتَ وراءَها وما زِلتَ صامداً خَلْفها هذي المِصَدُّ والدّرعُ والمِترَاسُ هي قَلْعَتُكَ يا سعيد.
3 يوليو 2022
17 – كم بقيَ من الطريق؟
إلى رضوان العجرودي
تُعِدُّ شَجرتَكَ الطويلةَ لِمُهِمّتِها تُعدّها لِابتسامٍ لِنظراتٍ رَبّيتَها طويلاً، تُعد الشجرة وتُعِدّ خُضْرَتها كي تكونَ مُهيأةً لِاسْتِماتَتكَ في البحثِ عن النُّسغِ، لذهابِكَ جهةَ صَوتكَ تَصقُلُهُ وَتقرأَ، تعدّ الشجرةَ لِئلّا تُفاجَأَ بالحنينِ يرتفعُ ويبلغُ الحلقومَ، تَشْخَصُ بِروحِكَ مُوارِباً عَينَيكَ لِتعرفَ المسافةَ التي قَطَعتَها كم بَقي من الطريقِ كم بقي من الوجوهِ كم بقي من لغطٍ لم يَعُدْ يعنيكَ كم بقي من الأوراقِ والأذرعِ تُهدِيها لِأكتافِ الآخرين كم بقي من دَرَجٍ وساحاتٍ لَفظَتْ ظِلالَ طارئِيها ولم تَعُد تَتَسَلّىٰ بِغَيرِ أوراقٍ صُفرٍ تَزحفُ فوقَها وَتَهْذِي بِأسمَائِهم وَاسْمِكَ يا رضوان.
4 يوليو 2022
18 – تحذيراتُ زرقةِ البركة
إلى زياد السالم
أَظنُّ أنّ عَدَمَ قِراءَتِنا فُلولَ النّهارِ المُطارَدةَ بِدُنُوّ اللّيلِ بِتَمَعّنٍ كان خَطأً واضِحاً وكان عدمُ أخذِ تحذِيراتِ زُرقةِ البركةِ والأصواتِ الخافتةِ التي كنّا نَراها تسقطُ فيها قَبلَ أن تصلَ إلينا، واعتبارُ البحرِ الذي كان هادئاً إلى جوارِنا جملةً مُعترضةً جملةً زائدةً بِإمكانِنا حَذْفُها، كان عدمُ أخذِ كل ذلك مَأْخذَ الجِدّ خطأً أَكبرَ ، فقد كُنا عُرْضَةً لِطاوِلةٍ ومِنفضَةٍ وكلماتٍ تَخرجُ خفيضَةً ومُتلفِّعةً بجُدرانٍ أُقِيمتْ فِينا لم نَرصُفْ فيها أنا وأنتَ أَيّ لَبِنة، ثَمّةَ قصائدُ ناعمةٌ آلَتْ أن تكونَ قُبالَتَنا آلت أن تُعمِلَ فينا جَمَالَها دونَ رحمةٍ فَتَعَرَّضْنَا لِضَربَتِها وَغَشِيتْنا حُمَّى الأسَى التي رأينا أن نُعالِجَها بِظنون وحِكايةِ وديع سعادة، هِي محاولةٌ لكنّها لم تنفعْ كَما تَعرِفُ؛ فها ذِكرَيَاتُنا تَعُودُنا نحن المَمْسُوسِين بِكُتُبِنا وأحلامِنا نحنُ المُصابين بالفَقدِ المُزمِنِ.. فما زالت تلك الحمّى تُرَجِّفُنا وما زِلنا نَتَصَبّبُ ونَهذِي يا زياد.
5 يوليو 2022
19 – ماذا نفعلُ الآن يا سيدي بوسعيد؟
قُلْ لَنا يا سِيدِي بو سْعِيد أين نَضعُ شوارِعَكَ الحَجَرِيّةَ وكيفَ نَحمِلُ اِنحدَاراتِها وفي أيِّ مِفْصَلٍ مِن أَجسَادِنا نُخبّئُ طاوِلاتِ ومقاعِدَ ومِظلّاتِ ونُدُلَ ونادلاتِ وكُسْكُسِي “مَطعَمِ زَرُّووق” ونَهْرُبُ بِه دونَ أن يَنتَبِهَ أَحَدٌ، كيفَ نُقنِعُ لَيلَكَ أو نَهارَكَ أن يُهدِّئ من بَهجتِهِ ومن صَفاءِ وجوهِ عَابِرِيهِ كيف نَستطيعُ الاِنحِرافَ عنهم لِئلّا يَميلَ سَطرُهُم لِئَلّا نُربِكَ خَطَّ أَحادِيثِهِم لئلّا نُقلِقَ راحةَ قُمصَانِهِم وَفَسَاتِينِهِم أو نُفسِدَ تَصَالُحَها مع أجسَادِهم وأرواحِهم، بِلا كلِماتٍ، كيفَ نُباركُ النِّداءاتِ والضَّحِكاتِ، كيف نَجعلُ من يَاسَمِينِكَ طريقاً أَبَدِيّاً قل لنا كيف نَحفُرُ مَا تَراكَمَ فِينا ونَحثُوهُ لِنَصِلَ إلى حِكمَتِه وروحِ رائحتِه وَنصِلُ أَنْفُسَنا بِه، سِيدي بو سعيد مَكَثْنا عِند زُرْقَةِ بَحرِكَ وَحَشَوْنا هواتفَنا النقّالة بِصُوَرِه أَوْمَأنَا له كَشَفنَا لهُ صُدُورَنا وعُروقَنا عَلَّهُ يحملُ مِياهَهُ وَيتْبعُنا، تَرَكْنا له رسائلَ على رَمْلِهِ عَرَضْنا عَلَيهِ نَظَراتِنا التي مَلأْناها بالمديحِ لِزُرقتِهِ غيرِ الاِعْتِيادِيّةِ، عَلّنا نُغرِيهِ، لكِنّنا عُدْنا بفراغِ أَيدِينا يُشَقِّقُها التّذكّرُ ويُقَدِّدُها الحنِينُ؛ ماذا نَفعَلُ الآن يا سِيدي بو سعيد..
قُلْ لَنا.
5 يوليو 2022
20 – رحالُنا على الورق
ها نحنُ يا سِيدي بو سعيد نضعُ رِحالَنا على الورقِ، نتخيّر من الكلماتِ الكلماتُ المعروفةُ بالقيافةِ، عَلّها تضعُ قلوبَنا بينَ أشجارِك علّها تصبغُ بَشَرَاتِنا بزُرقةِ نوافذِك علّها ترفعُنا إلى عيونِ ناسِك وأشجارِك، علّها تضعُنا بين ذِراعَي بحرِك فيَعرِفُنا يُؤدِمُ لنَا هواءَه وَيُداوِينا بِشَمِيمِه؛
فقد سَوّتنا اللهفةُ ببياضِِ اللهبِ وزرقتِه.
5 يوليو 2022
21 – مطعم لابيللا
لَمْ يَكُنْ مُستَبعَداً أن تتخَلّىٰ تِلكَ الجُدرانُ في أيّ لحظةٍ عن حِجَارتِها أو أنْ تُضَحّي بالضّوءِ الحَميمِ الذي وجَدَ ضالّتَهُ فِيها أو أن تَطرُدَ هكذا فجأةً ودون أيّ مُبرّرٍ خَشَبَ الطّاوِلاتِ مِثلَ شَخصٍ لَم يَعُد لِبَقائهِ في المَكانِ أيّ مَعنىٰ، لَولَا أنّها وَجَدَتْ عُذراً في زُجَاجِ المكانِ الذي راحَ يأخذُ نُسخاً عَمِيقةً مِن وُجوهِنَا يَفتَحُها وَيَقرأُ رَاحَ يَحفرُ بِهُدوءٍ بَاحِثاً عن مَعادِن فِيها لَم يَطَلْها الصّدَأُ لم تَطلْها الأَيدِي لِتنفُضَها بقوةِ التّخَلّي قُوّةٌ باعِثُها شيءٌ يُشبِهُ الغَرَقَ في حَدسِ اللّا جَدوَىٰ، لَولَا المُوسِيقَىٰ التي تَتَحَيّنُ اِنفِتاحَ ثَغرَةٍ في وَاحِدِنا تُطِلُّ مِنها على لُؤلُؤتهِ لِتُولجَ فِيها خَيطَها وَتَجْعَلَهُ إلى آخرينَ أَفْلَتُوا أَعضَاءَهُم في الهَواءِ في مُوَاءَمَةٍ جارحةٍ مع إيقاعِها، لَولَا لَوْحاتٍ مَدَّتْ إِطَارَاتِها صَانِعةً مِنها أَذْرُعاً مُتشَابِكةً صانعةً درباً سالِكةً يُسَهِّلُ مُرورَ عُيونِها وألوانِها وأَجسادِها العاريةِ المُتَوَهِّجةِ السّائلةِ فِتنةً وبهجةً إلى دَوَاخِلِنا دُونَ أيّ عائِقٍ أو حاجِزٍ؛ ولَم يكُن مُستَبعَداً أيضاً أَن يَندَفِعَ وَاحِدُنا فجأةً ويَدخُلَ تِلكَ اللّوْحاتِ دونَ إذنٍ دونَ طَرْقِ لَوْنٍ أو أَثَرِ رِيشَةٍ يُكْمِلُ سَهرَتَهُ هُناكَ وَقَدْ لَا يَعُود.
11 يوليو 2022
22 – نتحيّنُ هدنةَ حمامة
ماذا تَصنَعُ بِآدم فتحي الذي ظَلَّ مُبَلَّلا بِعَرَقِ بِحارِهِ، مُتَمَتْرِساً وَراءَ نظّارتهِ السّوداءِ مُتَسلِّحاً بِقُمصَانِهِ، لَمُ نَسْتطِعْ مُصَافَحتَهُ ولا حتّىٰ جَسْرَ الهُوّةِ التي تَفصلُنَا عنه، فَظَلَلْنا نُرابِطُ لَيسَ مَعَنا غيرُ قَصائِدنا تَقفُ معنا نَتَحيَّنُ هُدنَةً حمامةً تَخرُجُ مِن قلبِه وتُقرِّبُهُ لَنا شَجَرةً تخرجُ مِن كُتُبِهِ وتُرسِلُ فُروعَها شجرةً تمشِي إِلينا وتَقرأُ علينا بِحَفِيفِها شُروطَهُ؛ آدم فتحي الذي يُقدَّسُ مَسافَتَهُ آدمُ الذي يُنَزِّهُ بَوّاباتِه التي لا تَنْفَتِحُ وَلا يَظْهَرُ.
13يوليو 2022
23 – مائدةُ ماريان خاليةٌ من البحر
ماريانُ تُعِدُّ صَباحَها على نارٍ هادئةٍ، تضعُ ما تحتاجُ إليهِ مِن الخبزِ وتَتَفَقَّدُ نَقَّالها تضعَ كلَّ شيءٍ على المائِدةِ قَهْوةً وَأَفكاراً تَملأُ طَبقاً بِما اِستطاعَتْ تَذَكُّرَهُ مِن الحُلمِ وَآخَرَ بِما اِستَطاعَتْ مِن الشُّرودِ وآخرَ بِنظَراتٍ مُحَمَّصَةٍ داخِلَ حَيْرَتِها وَفي سَلّةٍ تَضَعُ تَنْهِيدَةً عَمِيقةً تُحصِي فِيها بِخَطٍّ مُتَعَجِّلٍ ما عليها أن تَفْعَلَهُ اليوم؛
لكنّ مائِدَتَها خالِيَةٌ مِن البحرِ..
ماريانُ التي تَقولُ إنّ البحرَ يَزِيدُ الوَزْنَ ويُشَعِّثُ الشَّعرَ ويرسُمُ عن عَمْدٍ هَالَاتٍ سَوْداءَ حَولَ العُيونِ وتقولُ إنّه يَهِيجُ ويُحدِثُ الفَوضَىٰ يَجْعلُ الوجوهَ تَلتَفِتُ إليكَ تقولُ إنّه يَفضَحُ تقولُ ماريانُ وتُرَدِّدُ إنّ البحرَ في الصّمتِ أو النَّهْنَهَةِ في البُكاءِ أو النّشيجِ أو النّحيبِ هُوَ البحرُ الذي لَنْ أَذهَبَ إِلَيهِ.
14يوليو 2022
24 – أنا مثلُ ماريان
وَأَنا مِثْلُ ماريان لَا أَذهبُ إِلَىٰ البَحرِ، لكنّ لِي حُجَجِي الوجيهةَ، لَا إِطَارَ لِلبحرِ فَكَيْفَ أَقِفُ أَمَامَهُ أُؤَدِّبُ شَعْرِي وَأُرَاجِعُ وَجْهِي أُبْقِي على مَا أبقي مِن الكَلِماتِ وَأَسْتَبْعِدُ الذي أستبعدُ كَي أَبْدُو نَوعاً مَا جَمِيلاً، وَكَيفَ إِنْ ذَهَبتُ وَوَقَفتُ هَلْ سَيُهَذِّبُ البحرُ مِياهَهُ هَل سَيَنْهَرُ يَدَهُ أَلّا تَرْتَفِعَ ألّا تَمتَدَّ بَغْتَةً وَتَخْطِفَ مَا فِيَّ مِن عُشْبٍ وَتَتْرُكَنِي أَجْرَدَ.. هلْ سَيَحْسَبُ أَوْرَاقِي أَسْماكاً وَيَبْتَلِعُها سُفُناً وَيُغْرِقُهَا وَمَعِي فيها صَحْبٌ وَأَحِبَّةٌ كُتُبٌ وَوَرْدٌ،
أَنَا مِثلُهَا لَا أذهبُ إِلىٰ البحرِ لَيْسَ لِأنّ ماريان لَا تَذهَبُ، فَلِي مَا يَمْنَعُنِي وَلِي مَا يَجعلُنَي أَجأَرُ أَحْيَاناً وَأقولُ: كَيفَ إِنُ جَازَفْتُ وَذهبتُ كيف آمَنُ أَلّا يَخْرُجَ عَلَيَّ مَوْجِيَ يَرْتَفِعُ عَنِّي وَيكُونُ لَهُ كيفَ لَا تَثِبُ مِنِّيِ الكلماتُ فِي وَجْهِهِ وَتَصْنَعُ قَوْسَها اللّامِعَ؛
أنَا مِثْلُكِ يا ماريان لَا أَذهبُ إِلىٰ البَحرِ
لَكِنَّ لِي حُنُجُرَتِي الزّرقاءُ يُتْعِبُنِي كثيراً وَيُمِضُّنِي أَنْ أَرَاهـا تَرْغِي أَمَامَ بَحرٍ سَمِعتُ مَا سَمِعتُ عَن مِياهِهِ وَخِصَالِهِ عَمَّا يَخُطُّهُ فِي أَروَاحِ الذِينَ يَذْهَبونَ إِلَيهِ عَنِ النَّحِيبِ الّذي بِقَسْوَةٍ يَحْفُرُهُ فِيهِم.. يُصَيَّرُهم وَجْهاً آخَرَ لَهُ يَا مَارْيَانُ.
14يوليو 2022
25 – أيّتها الزرقة اجعلينا نوارس
نُصافِحُ أَحجَارَكِ يا سِيدي بُو سْعِيد نُلقِي التّحيّةَ علىٰ شوارعكِ نَجعلُ صَباحَنا مَائِدةً لِأشجاركِ بياضِ جُدرانكِ وَزُرقَةِ أبْوَابكِ ونوافذكِ.. نَقولُ لِهوَائكِ أَشْرِعتُنا ذَابِلةٌ فَانْفخْ فِيها مِن رُوحكَ نقولُ لِزُرقةِ بحرِكِ بَهُتْنَا أَيّتُها الزُّرقةُ فَاجْعلينا نَوارِسَ تَشْخَصُ بِأَبْصارِها فيكِ عَلَّها تَلْمحُ قَمِيصاً أَوْ حِكايةً أو ضِحكةً تَطفُو هناك.. أَيّتُها الزُّرقَةُ قُولي لِصاحِبكِ أنّ لَنا أَقْداماً لَمْ نَجِدها عندما فَتحنا حَقائِبَنا أَنّ لنا شِفاهاً غَافَلَتْنا اِنسَلّتْ وَغَطَسَتْ فيه، نُصافِحُ أَحجاركِ وسَماءَكِ وجوهَ أَهْلِكِ نُصافحُ رَطانَتَهُم نُصافحُ زَيتونكِ وَنَتوهَّجُ خَلْفَ زُجاجَتِنا يا سيدي بو سعيد، نقفُ فوقَ أَعلىٰ دَهْشتِنا القَاتِمةِ عَلَّنا نَلمحُ حارِسَ بَوٍابةِ فُندقٍ عَلّنا نَقعُ علىٰ دَرَجٍ طويلٍ عَلّنا نَتبَدَّدُ في جَفْلَةِ قُفلِ بابِ غُرفةٍ علّنا نَحُطُّ رَأسَ سَبّابةٍ نَتَهَجّىٰ بها مَفْرِقَ شَعْرِ مُوَظّفةِ اِسْتقبالٍ علّها لَا تَغْلِبُ عَلَينا قُلوبُنا فَلا نجِدها إِلّا مُتَذَهِّبَةً وَمُضِيئَةً في عُمْقِ بِركَتِكِ التي كانت تُحذِّر وَلَمْ يُدِر لَها أَحدٌ بالاً كانت تُحذِّر وَتُكَرِّرُ زُرقَتَها تُحذّر وتحذّرُ بُلَهَاءَ ذَهَبُوا في مُصافَحتِهم بَعيداً ذهبوا بِأيدِيهِم وَأرجُلِهم وَلَم يَعودُوا ولا أَظنُّهم، لَيْتَنا أَجَّلْناها قُلوبَنا تِلكَ ولَم نَجْلِبها مَعَنا؛
نُصافحُ يَاسَمينَكِ فَرُبّما قَصَّرَ بِعَبِقهِ مَسافتَنا..
نصافحُ وَنتَردَّدُ مِثلَ صَدىً لا يكُفُّ هناك..
نصافحُ ونصافحُ ونُصافحُ أَحجَاركِ ونسمعُ الآنَ واضِحاً نَبْضَها المُتَسارِعَ نصافحُ وَحْشَتَنا الأكِيدَةَ يا سيدي بو سعيد ولَيسَ لِراحَةِ يَدِكِ أو أَصابِعكِ أَيّ أثرٍ فَتَبْقَىٰ أَيدِينا مُمْتَدَّةً ومُعلَّقَةً وَمُهَوِّمَةً في الحَنِينِ.
15يوليو 2022
26 – قمصانُنا العالية
قُمْصَانُنا في الضّوءِ وفي النّوافِذِ وفي النّظراتِ، في الأذْرُعِ قُمصاننا تُعِيدُنا إلى جِباهِنا بِنَسِيجِها تُحاوِلُ إِعانَتَنا علىٰ حَمْلِ الصّخرةِ ومُوَاصَلةِ الطّريقَ، تَحُضُّنا علىٰ شَقِّها والخروجِ منها، قُمصاننا بِأَلْوَانِها هِيَ المَجاديفُ تَضَعُ ياقاتِها وَأَكْمامها طَيَّ أَيْدِينا غير آبِهِين بِعُلُوّ مَوْجِِ أو تَنَكُّرِ رِيحِِ وقُمصانُنا في الهَفْهَفَةِ تُؤَمِّنُ قَصِيدَتَنا أَلّا يَخْرَقَها أَحَد أَوْ يُزَحْزِحَ ألْواحَها، فَقُمصاننا بِحَفِيفِها هي التي ثَبَتَتْ مَعَنا وَلَمْ تَنْكُص أو تَفِرّ، وَقُمصاننا لَم تكُنْ يَوماََ غيرَ جِدارِنا الأَخير نَكْتُبُ علَيهِ أَسْماءَنا وَنَمشِي فيهِ بِمُحاذاةِ كَلِماتِنا نَحْرُسُها مِن الرَّعَشاتِ والمُنحَدَراتِ نَحْمِيها مِن الجُروفِ ومِن الحُروفِ المَريضةِ…
قمصاننا هي القُمْصانُ العالِيةُ الّتي كثيراََ ما نَسْمعُها تُتَمتِمُ أغْنيَتَنا الأُولىٰ
كثيراََ ما نَراها تُومِضُ وَتومضُ وَمِيضَها النَّقِيَّ وَلَيْسَ علَيْها غيرُ دَمِنا الصَّحِيح…
قُمصانُنا التي تَعرِفُ أنّها في الضَّوءِ وفي الظِّلِّ في العُزْلاتِ وفي الصَّرَخاتِ وفي الأُخُوَّةِ هُمْ قُمْصانُنا.
15 يوليو 2022
27 – ماذا نفعل؟
ماذا نَفعلُ بِهذي القُمصانِ والنّظراتِ
ماذا نفعلُ بِأيدِينا وأصابِعِنا الفارغةِ..
علىٰ أيّ شيءِِ نَضعُ هذا الغصنَ الجارحَ الذي لَم تَطِبْ لهُ أرضٌ غير صدورِنا لِيَنبُتَ وَيَمتدَّ ويخضرَّ خُضرتَهُ وَأَيّ كِذبةِِ سَنُمرِّرُها علىٰ حقائبِ الكَتفِ كَيْ تَقَرَّ وتُصدِّقَ فَتَتْرُكُنا نعبُرُ مِن أَحزِمَتِها إلىٰ شُؤُونِنا، كيفَ نَتصرَّفُ في الابتساماتِ وَبِأيّ تَشَاغُلِِ سَنُغطّيها بأي تَغافُلِِ سَنُجفِّفُها لِتَختَفي كَأنْ لَمْ تَكُن،
بأيّ اِفْتِعالِ رَزانَةِِ سَنَبدو عَادِيّين جداً كَأنّا لَم نَخسَرْ خُضرةَ هذا العُشبِ لَم نخسر الأكُفَّ علىٰ الأكتافِ لَم نَفقِدْ قَوائِمَ المقاعِدِ التي كانت تُحَمْحِمُ قَبْلَ أنْ نَقْترِحَ أَجْسادَنا علَيها كانتْ تَعرِفُنا وَتُرَتّبُ مَسانِدَها لَنا كانت أكثرَ مِن ذلكَ تُنادِينا بِالأَسماءِ والأكثرُ مِن ذلكَ أنّنا لا نَعرفُ ماذا تَقولُ عَنّا الآنَ وبِماذا تُفكّرُ، بِأيّ مِلقَطِِ سَنَسْتَلُّ الشُّرُفاتِ مِن جِلدِنا بأيّ مِقلَعِِ سَنَقْتلِعُ حِجارةَ الطّريقِ مِن أَصوَاتِنا كيفَ سَنَتَفادَىٰ ضَوءَ الظّهِيرَةِ أَبِالتّحدِيقِ في صُورةِِ أَبِالبَحثِ عن بابِِ مُمَوَّهِِ خلْفَ شَعْرِِ أو تحتَ بَياضِ أسْنانِِ لِنُعَاوِدَ الدّخولَ ونُطفَئَ هذا الجَمرَ لِنُقْنعَهُ بِأنّ بعضَ الرمادِ ليسَ عَيباََ وأنّ الصُّلْحَ خيرٌ؛
ماذا نَفعلُ بِكُلِّ ذلك ماذا علينا أن نفعلَ أو ألّا نَفعلَ نحنُ الذينَ لَم نَكْبُ لكن بأيّ صَبرِِ نُداوِي هذا الجُرحَ الطّويلَ بأيّ هَكذا تَجْري الأمورُ أحياناََ أو أنّ الوَقتَ كَفِيلٌ بِمَ نعالج هذي الكدماتِ التي تَملأُ جَسَدَ القصيدةِ ..
ماذا نفعلُ بِكلّ هذي الزينةِ وأنتِ بعيدةٌ وبعيدةٌ وبعيدة يا سِيدِي بو سْعِيد.
16 يوليو 2022
…………………………….
*المهرجان الدولي للشعر بمدينة سيدي بوسعيد بتونس (الدورة الثامنة – من 16 إلى 19 يونيو 2022)