مشروع إنسانى وإبداعى اكتمل

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

منير عتيبة

فوجئت بخبر فى أعلى الصفحة الأدبية لجريدة المساء، الجريدة الأكثر انتشارًا ومقروئية وقتها، عن صدور مجموعتى القصصية الأولى (يا فراخ العالم اتحدوا). واضح أن كاتب الخبر قرأ المجموعة، وأعجبته، ويريد تشجيع القاص الجديد.

لا أعرف حتى الآن من أعطى المجموعة للأستاذ محمد جبريل؟ هل هو الناقد الدكتور محمد زكريا عنانى؟ أم الكاتب المسرحى مهدى بندق؟ رحم الله الجميع. لكنى حصلت على رقم تليفون الأستاذ جبريل، وتحدثت إليه شاكرًا، فوجئت به يقول لى: أرجو أن تكون راضيًا عنى.

أذهلنى هذا التواضع الذى استوعب ارتباك شاب مبتدئ يتصل بكاتب روائى كبير، وصحفى كبير، فى وقت كانت فيه الصحافة الأدبية مؤثرة أيما تأثير، ورأيت بعض الصحفيين الأدبيين الذين لا يصلون إلى كعب قامة أستاذ جبريل يتطاوسون على المبدعين فى المؤتمرات.

كان أستاذى وأبى الروحى المفكر الكبير خالد محمد خالد قد رحل منذ سنوات، ولم يملأ مكانه فى قلبى أو عقلى أحد. شعرت أن هذا الصوت الذى تحدث إلىّ بتلك الكلمات يمكن أن يكون عوضًا من الله.

لم أكن أذهب إلى القاهرة كثيرًا، لكننى كلما ذهبت اتصلت به، وزرته فى بيته، يرحب بى بكرم وحفاوة، هو وزوجته الناقدة الكبيرة والسيدة المضيافة دكتورة زينب العسال، فأجلس ما تيسر من الوقت، يحدثنى بعلمه الغزير، وروح الدعابة التى لم تفارقه قط، فأخرج محملًا بأفكار، وحماسة للكتابة، وعدد من الكتب هدية مجانية.

وكأن أرواحنا جنودًا مجندة، اقتربنا بسرعة ومحبة، عينى على الكاتب غزير الإنتاج، والإنسان غزير العطاء، أرى، وأفكر، وأحاول أن أستوعب وأتعلم.

لم يبخل جبريل على بنصيحة، أو تشجيع، أو دعم لأكون كاتبًا أفضل. وعرفت أنه يفعل ذلك مع عشرات من أجيال سبقتنى ولحقتنى، بل ويزيد مع البعض عطاءً ماديًا نظرًا لظروفهم، دون أن يقول أو يمن على أحد فى حضوره أو غيابه.

محمد جبريل بالنسبة لى مشروع إنسانى اكتمل برحيله، عنوانه العطاء دون أخذ، والمحبة دون انتظار مقابل، والمساعدة دون توقع رد الجميل. وبرغم أنه وجد أحيانًا الإنكار، أو العداوة، ممن مد لهم يده، فإنه لم يشك لحظة فى نبل منهجه الإنسانى، بل كان يلتمس لهم الأعذار حينما أرى أن لا عذر لمن لا يعترف بالفضل.

أما جبريل الكاتب فلا يمكن اختزاله فى صفة الروائى برغم إنتاجه الروائى الضخم، ولا فى صفة القاص برغم مجموعاته القصصية الكثيرة، ولا الصحفى برغم عطائه للصحافة فى مصر وسلطنة عمان، ولا كاتب المقال، ولا الباحث الأدبى، ولا الناقد… لأنه كل ذلك وأكثر، بلا مبالغة، فإنتاجه يشهد على ما أقول.

لكن الأهم بالنسبة لى أنه كاتب صاحب مشروع أدبى وفكرى بدأت ملامحه تتضح منذ أعماله الأولى، ويركز عليها مع توالى الأعمال، ولا يتخلى عن ثوابت مشروعه، ليس من باب الجمود وضيق الأفق، بل لأنها ثوابت لا يمكن المساس بها أو المساومة عليها، ربما أهم خطوطها: الانحياز إلى المهمشين على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية- الاهتمام ببناة مصر فى كل العصور تقديمًا للمثال الذى يمكن الاستفادة من إيجابياته، والانتباه إلى سلبياته، لتنطلق بلادنا إلى الأمام – وضع مصر نصب عينى إبداعه فهى المنطلق وهى الهدف، هى الطريق والرحلة والغاية – الإيمان بالقومية العربية برغم ما تداعى عليها من مصائب، والتأكيد على أهميتها فى تحقيق نهضة عربية شاملة لن تستطيع دوله واحدة أن تحققها بمفردها – الإيمان الذى لا يتزعزع بأن القضية الفلسطينية هى القضية الأولى والأهم والأنبل لكل عربى ولكل إنسان لديه عقل يعى وضمير يقظ – التطلع إلى المستقبل دون الحياة فى الماضى، وإن كان لابد من الالتفات إلى الماضى فلدراسته من أجل المستقبل.

ويعرف من قرأ جبريل أنه لم يتخل عن هذه الثوابت فى إبداعه الروائى والقصصى، ولا فى مقالاته وأبحاثه الأدبية. لكنه فى الوقت نفسه كان دائم التطور على المستوى الفنى، لم يقف عند مرحلة محددة يتكلس عندها أدبه، ولم ينتم إلى مدرسة أدبية تمتص روح إبداعه، بل أخذ من جميع الاتجاهات الأدبية والمدارس الإبداعية والنقدية فى الإبداع على عمومه وليس الإبداع الأدبى فقط، فقد كان قارئًا نهمًا فى كل مجالات العلوم والفنون، فنرى للسينما أثرًا فى أعماله، وللموسيقى، وللفنون التشكيلية وغيرها، كما لم يقبع بأفكاره فى برج عاجى بل كان يطورها عبر الزمن بما يعرفه من معلومات جديدة، وبما يطوره بتفكيره، دون التخلى عن الجزء الثابت منها، كذلك كان يطور إبداعه على المستوى التقنى مستفيدًا من خبرة الكبار الذين سبقوه وقرأهم كلهم، واحترمهم، واستفاد من إنجازهم، كما لم يتوقف عن قراءة مجايليه والأجيال الجديدة التى جاءت بعده، كان صديقًا لكل كاتب جديد، وقارئًا لكل إبداع جديد، لذلك كان كأستاذه وصديقه نجيب محفوظ؛ دائم التطور والتجدد لا يمكن أن تتنبأ بما سيقدمه فى العمل التالى، لأنه دائمًا سيفاجيء القارئ بما لم يتوقع.

برحيل جبريل؛ اكتمل مشروعه الأدبى إبداعًا، لكنه لن يتوقف عن النمو والتأثير كلما تناوله القراء والنقاد والباحثون، وهو ما أدعو إلى الاهتمام به الآن وفى المستقبل، بأن تتاح كل أعماله إلكترونيًا، وأن تقدم عنها الدراسات، وأدعو وزارة الثقافة أن تطلق اسمه على أحد قصورها بالإسكندرية مدينته التى أحبها حد العشق، وكان يزورها كثيرًا دون أن يخبر أحدًا، يأتى ويعود إلى القاهرة، ثم يخبرنى بالتليفون أنه كان موجودًا (أحب أن أمشى فيها وحدى، توحشنى الإسكندرية، فأخرج من بيتى فى مصر الجديدة إليها. شوارع حى بحرى التى أحفظ كل شبر فيها؛ أحج إليها حتى أجدد الوصل دائمًا، لن أنساها، لكنى لا أريدها أن تنسانى) بهذه المعانى كان يحدثنى بعشق حقيقى متجذر، يعشق كل ما فى الإسكندرية، حتى أنه يشجع نادى الاتحاد السكندرى لأنه نادى هذه المدينة، لدرجة أن زوجته الدكتورة زينب العسال أخبرتنى أنه يتأثر صحيًا ويمرض إذا انهزم نادى الاتحاد فى مباراة ما.

كما أدعو وزارة الثقافة أن يكون أقرب مؤتمراتها باسمه وعن أعماله.

فهذا أقل ما نقدمه؛ ليس لجبريل، بل لنا ولمصر.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

mistafa bayoumy
شهادات
علي حسن

إنسان