مشرحة صغيرة

شرفة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

‫ كنت في كل يوم أنظر للأجزاء البشرية المحفوظة حولي في الفورمالين، وأمارس رياضتي الذهنية الجديدة، أجمع في خيالي الأجزاء الخاصة بشخص ما، كأنني ألعب بازل، كانت اللعبة مجهدة، خاصة أن مشرحتي الصغيرة هذه، تحوي ما يزيد عن عشر جثث، أولهما جثة «عيد» الجنايني، صعد للنخلة بلا حماية، سقط ميتًا، حين دفع أبي لأهله مبلغًا كمكافأة نهاية الخدمة، بدت كمساعدة كبيرة لم يكونوا يتوقعونها، أمسكوا بالفلوس، ظلوا مشدوهين، حينها سألهم لو يتركوا الجثة ليسترها بمعرفته، بدا طلب أبي غريبًا بالنسبة للحضور، لكنهم وافقوا دون تردد، كان أبي يعلم بولعي بالعلوم والتشريح، أسس لي معملًا على أطراف حديقتنا، وجدته بعدما انصرف الناس، يدخل بالجثة مكورة على عربة يد، معلنًا أن مرحلة تشريح الضفادع والأرانب قد ولت، وأن عليّ أن أتعامل مع الموضوع بجدية أكثر.

‫ بعد ذلك عرفت طريق المقابر اشتريت من هناك جثة لفتاة، ثم حصلت بالصدفة على رجل صدمته سيارة، تركته وسط الشارع ليلًا بلا رحمة وحيدًا، حصلت على بقايا صديق نهشته الذئاب في رحلة خلوية، هكذا كنت أجمع الجثث التي تقع في طريقي، حتى صار لديّ مشرحة صغيرة، لكنها تحوي الكثير.

‫ برطمانات الفورمالين تتراص على الأرفف من حولي، تحوي عيونًا، آذانًا، أكبادًا، قلوبًا، أصابع، رئة، ركبة، …

 ‫ وجدت الليلة لديّ طاقة هائلة على العمل، لم أكتف بتشريح أجزاء من جثث قديمة، ولم يعجبني الاسترخاء على الكنبة، ومحاولة تجميع جثة في ذهني، أتيت بأدواتي كاملة، قررت أن أعمل بالعكس، أقوم بتجميع إنسان فككته من قبل لأجزاء، بدا الموضوع سهلًا، أرمم العظام، أركب بداخلها الأعضاء، ثم أكسوها بالجلد، هذا ما كنت أود فعله، ولكن عند البدء قلت لماذا عينان، ماذا لو وضعت عينين بالأمام، وعين في كل جانب بالرأس ولتكن فوق الأذن بقليل، ثم عين في مؤخرة الرأس، وأخيرة فوق الرأس، بالضبط في الوسط، أن تكون عينه في وسط رأسه بالفعل، وليس مجازًا.

‫ أعجبني التصميم، هكذا لن نحتاج كثيرًا للف والدوران، سنرى من كل الاتجاهات، ستقل الحوادث، سنكون مقاتلين أكثر فاعلية، وتقل الأسرار في العالم، لن يتحدث أحد من خلف الآخر، لن يكون هناك طعن في الظهر، ولن تستطيع زوجتك ضبطك وأنت تلف رقبتك خلف مرور حسناء، كم سيكون هذا رائعًا، ربما مع مرور الوقت سيكون هذا الشكل مقبولًا.

‫ تحمست للفكرة عملت فتحات بالجمجمة للعيون الجديدة، ليصبح لمخلوقي ست أعين.

‫ ربما كنوع من المزايدة الساذجة، جعلت له مخ ونصف المخ، ثلاث كليات، زودت في الضفائر العصبية، والكتلة العضلية، ظللت أعمل عليه، وضعته في ركن بالحجرة، نظرت له معجبًا وفخورًا بما صنعت، كان الإجهاد قد نال مني، لم أستطع مقاومة النوم، وجدتني ألقي بجسدي على الكنبة الصغيرة داخل مشرحتي، وأروح في نوم عميق، كمن فقد الوعي فجأة.

‫ ما لم أعرفه وقتها أنني نمت قبل أن أقوم بضبط بعض التعريفات لمخلوقي الجديد، فصار معيار الوقت بيني وبينه مختلفًا، اكتشفت أن الساعة بخمس سنوات، في ست ساعات نوم، كان قد قضى من عمره ثلاثين عامًا، كبر، ونضج، عاش وحيًدا، فرح وحزن واكتئب، مرض، وشفي، اكتشف المكان، تأقلم معه، تعامل مع البرطمانات بقداسة، فهي تحوي جثث أجداده ربما منذ آلاف السنين، تغلب على كل شيء، عدا شيء واحد، شعوره بالوحدة، شعوره بأنه مختلف، وسط عالم ‏

‫لا يشبه فيه أحد، قرر أن يستخدم أدواتي، ظل طويلًا يحاول ويفشل، ويحاول حتى صنع أنثاه بنفسه، أنثى جميلة تشبهه، لها ست عيون، عمل لها قلبان ومخان، وأربع حلمات تدر متعةً وخيرًا.

‫ حين مرت الست ساعات استيقظت ليلًا، كانت أنثاه بجواره، تخيلت أنها أضغاث أحلام ، أو أنني هيئ لي، كنت بين النوم والصحو، شربت كوب الماء بجواري ورحت في النوم مرة أخرى.

‫ أقوم لأجده وسط أولاده وأحفاده، كأنهم جيش احتل عالمي، لم أكن مرئيًّا بالنسبة لهم، مما أعطاني حرية التحرك بينهم، والاقتراب، وملاحظة التغيرات، اكتسب هو وقاره كجد، يُجلس أحد أحفاده أمامه، كأنه ينصحه، أو يقطر له حكمته، ويدعوه للتأمل، يقول انظر لماذا خُلقنا بكل هذه العيون، أنها دعوة لنرى، ونستقبل العالم كله بحب، لماذا عين في كل جهة، وفي الأمام عينانْ!! كأن الخالق أراد أن يلفت نظرنا إلى أهمية المستقبل، والنظر إليه، أن تنظر للخلف بعين وللأمام بعينين، أن تعطي للمستقبل من تفكير ضعف ما تعطي للماضي، من الممكن أن نظل نتأمل في أجساد الأجداد المحفوظة أمامنا داخل هذه البرطمانات، حتى تضيع أعمارنا دون أن ننجز شيئًا.

‫ الولد يستمع لجده بكل تركيز، كأن الجد ينعش خياله، ويفتح في عقله مسارات جديدة للتفكير، الجد يلحظ انجذاب الولد وانبهاره بما يقول، فيزيد متسائلًا لماذا جعل لنا الخالق عينًا فوق الرأس! أنت تستكشف الطريق بعيونك، بماذا تفيد عين بأعلى، الولد يقول متهكمًا، إنها عين لا ترى إلا السقف أو السماء، وهنا يردد الجد الكلمة مرة أخرى، «السماء».

‫ جميل، أنت ولد جميل، يربت على كتفه، يميل على الجدة يقول لها إنه الحفيد الذي يشبهه، وورثه كاملًا، يعود لحفيده المختار قائلًا، العين بأعلى تقول وأنت في حياتك، تنظر في جميع الاتجاهات، تتحرك، وتحتاط، وتسعى من أجل العيش، لا بد ألا تنسى السماء، أن تظل هناك عين تذكّرك بها، عين الروحانيات التي لا تستقيم الحياة بدونها…

‫ كنت أظن في البداية أنني غير مرئي بالنسبة لهم، ولكن أعين الجد والجدة، كانت تبدو كأنها تتوقف أمامي، تحيط بحدود جسدي، تركت مشرحتي، أغلقتها عليهم، فررت للبيت الكبير، بعدما أشيع أن بالمشرحة عفاريت.

 ‫ بقيت للآن لا أعرف، هل كانت عيونهم تتجاوزني كمخلوق أقل، كما تتجاوز أعيننا نملة على الحائط، -فلهم أضعاف ما لدينا من أعضاء- أم كانت لا تحيط بي لجلالي كخالق؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة “من شرفة بيتهوفن” .. الصادرة عن دار المصرية اللبنانية 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون