د. نعيمة عبد الجواد
الآداب والفنون الوسيلة فعَّالة للخروج بأرواح وعقول البشر من عالم الواقع الجامد إلى عوالم أخرى سواء أكانت تراجيدية أو كوميدية. وتحدث المعجزة عندما ينتقل القارئ إلى عوالم أخرى ويتماهى مع أشخاص لم تطأ أقدامهم أرض الواقع.
ومن وسائل الجذب في الأعمال الأدبية اللجوء إلى أسلوب أدبي لبعمل كإطار أساسي للرؤية الدرامية. فعلى سبيل المثال، عمد الكتَّاب الروسيين من أمثال “ليو تولوستوي” و”فيودور ديستوفسكي” و”أنتون تشيكوف” إلى استخدام “الواقعية” كإطار أساسي لجميع أعمالهم، لكن ما يميزها لون الواقعية المستخدمة في أعمالهم أنها قاتمة وصادمة، تصيب القارئ بالذعر ترعبه بتفاصيل الواقع الجائرة. وبمرور السنين، أصبح للأسلوب الواقعي روافد عدَّة، إلى أن برز مصطلح “الواقعية السحرية” الذي لا يجذب فقط القُرَّاء ، بل الكتَّاب أيضًا، ويبحث عنها النقَّاد ليزيدوا من ثقل تحليل الأعمال. وبالرغم من أن مصطلح “الواقعية السحرية” قدَّمه الناقد الفني الألماني “فرانتز روه” Franz Roh عام 1925، إلَّا أنه برز كحركة فنِّية في أربعينات القرن العشرين في أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي؛ حيث تلقَّفته العديد من الروايات ومن أشهرها “مائة عام من العزلة” One Hundred Years of Solitude (1967) للكاتب الكولومبي “جابريل جارسيا ماركيز Gabriel Garcia Marquez، وغيرها من الأعمال التي أثرت الفكر العالمي.
وتعنَى “الواقعية السحرية” بتصوير العالم الواقعي وكأن عالم من السحر أو الخيال يقبع بداخله. لكن، من الممكن أيضًا اعتبار اللمحات السحرية والخيالية أمر معتاد؛ وأبرز شاهد هو حواديت الأطفال. وتمامًا كما في الحواديت، تعمل الواقعية السحرية على إزالة الحدود التي تفصل الواقع عن الحقيقة. ومن أهم خصائص الروايات التي تصنَّف على أنها تنتمي لتيار الواقعية السحرية أنها تدور في مكان حقيقي معروف، وحتى العناصر السحرية مثل التحدُّث للموتى أو التخاطر مع الجماد، فأنه يتم تقديمها وكأنها أمر مألوف. ومن أجل دفع القارئ ليصدق أن الملامح السحرية أمر معتاد، يعمد الكاتب إلى عدم تفسير سبب الظواهر، بل ويتحدَّث عنها باقتضاب. ولإضافة المزيد من السحر للرواية، فإن هيكل السرد لا ينقسم إلى بداية ومنتصف ونهاية، فالحفاظ على عنصر السحر يتطلب عدم وضوح التفاصيل حتى لا يعي القارئ ما إذا كانت الأحداث سوف تتقدَّم، أم سيتوقَّف الحكي عند نقطة ما. ولهذا، كانت الأعمال التي تنتمي لتيار الواقعية السحرية وسيلة فعَّالة في نقد سلبيات المجتمع بأسلوب غير مباشر، وخاصة إذا كان النقد موجه للسياسات والنخبة.
واستخدام تيار “الواقعية السحرية” بكثافة في أمريكا اللاتينية منذ أربعينات القرن الماضي، لا يمكن أن ينفي أبدًا استخدامها في أوروبا قبل هذا التاريخ. فلقد استخدمها الكاتب التشيكي “فرانتز كافكا” Franz Kafka (1883-1924) في العديد من قصصه؛ مثل: “التحوُّل” Metamorphosis، و”فنان الجوع” Hunger Artist، والعديد من القصص الأخرى. ومن الملاحظ في استخدام “كافكا” للواقعية السحرية أنه يحوِّلها إلى عمل مخيف تعلق أصدائه في ذاكرة القارئ, لخوفه أن يلقى مصير الشخصية الرئيسية ذاته.
ولقد آثر كاتب روايات الرعب الأمريكي “ستيفن كينج” Stephen King (1947) استخدام ذاك التيار في جميع رواياته؛ حتى يحيلها لتجربة نفسية مخيفة. والكاتب “ستيفن كينج” الذي تحقق رواياته المرعبة المثيرة نجاحًا كبيرًا منذ سبعة عقود وحتى الآن، بدأ كتابة القصص المرعبة وهو لا يزال طفلًا بل ونشر مواده في مجلات أدبية بمقابل مادي. ومجموع الكتب التي ألَّفها طوال مسيرته الأدبية أكثر من 70 كتابًا، والمثير أن 30 كتاب منها، منذ طرحها وحتى الآن، تتصدر قائمة “الأكثر مبيعًا” عالميًا، وتلك ظاهرة لم ينعم بها كاتب قطّ.
وعلى عكس كبار الكتَّاب وميلهم لاستخدام أسلوب منمق ولغة معقَّدة، يعمد “ستيفن كينج” إلى الكتابة بأسلوب سهل، عباراته بسيطة خالية من التعقيد، لدرجة أثارت هجوم النقَّاد عليه، فأشاعوا أن أعماله لا تتناسب وذائقتهم الأدبية، لكن كان للجمهور رأيًا آخر. فأسلوبه السهل البسيط يجتذب كل الفئات العمرية، وحتى رواياته تظهر فيها شخصيات من كل الأعمار، وكذلك حيوانات قد يكون لها دور مؤثِّر في سير الأحداث. ولتأصيل الشعور بالرعب، يدفع “كينج” القارئ لاكتشاف الأحداث المريبة والشعور بالخوف من خلال التدرُّج في الوصف؛ فهو يصوِّر تجارب شعورية حقيقية يحاول يستكشف فيها أبطال الأعمال ظاهرة غريبة، ويحاولون تفسيرها ببراءة إلى أن يكتشف البطل أن وراء الحدث أمر مخيف، واستخدام الواقعية السحرية في هذا الشأن يزيد من جرعة الرعب في أي حدث. ويلاحظ أن جميع الشخصيات في روايات “كينج” لها دور، حتى ولو كانت هامشية. ولا يمكن للقارئ أن يحذِّر ما إذا كانت الشخصية سوف تستمر حتى نهاية العمل أو يتم قتلها في السطور القليلة القادمة.
ولقد لفت “كينج” أنظار النقاد ودفعهم للإشادة بموهبته عندما نشر روايته القصيرة “ريتا هيوارث وسجن شاوشانك” Rita Hayworth and Shawshank Redemption (1982)، والتي تحولت إلى فيلم “وداعًا شاوشانك” Shawshank Redemption الشهير الذي حقق، ولا يزال يحقق، نجاحًا جماهيريًا عالميًا منذ طرحه عام 1994. في هذا العمل الأدبي، يبرز “كينج” فكرة الصبر والمثابرة كوسيلة للهرب من سجن مُشدد الحراسة. والرائع أن جميع الشخصيات ذات أبعاد نفسية عميقة، بما في ذلك الثانوية منها، لكنها تدفع القارئ للتعاطف معها، لدرجة محاولة رسم ماضي لها وتوقُّع مستقبل لها، وكأنها شخصيات رئيسية. لكن الغريب، أن بطل الرواية “أندي دوفرين” الذي تدور حوله الأحداث لا يتعاطف القارئ معه؛ والسبب أن “كينج” استطاع أن ينقل عذابه النفسي وفشله المتكرر ونجاحه، في نهاية الأمر، في الهرب والفوز بحياة جديدة إلى عقل القارئ.
رواية “ريتا هيوارث وسجن شاوشنك” تنتمي لفئة الرُّعب النفسي الذي يدفع القارئ لتصوُّر نفسه مشارك في العمل؛ فيخاف ويرتعد وتملؤه الشجاعة، حتى ولو كان يتصنعها؛ تمامًا مثل الشخصية الرئيسية. ومن المواقف شديدة الرعب النفسي سطو “دوفرين” على غرفة الإذاعة وتشغيله لأوبرا كلاسيكية. وبالرغم من الاستمتاع بجمال الصوت واللحن، يرتعد القارئ لما يتوقَّعه من عذاب مهين في انتظار “دوفرين” بعد فتح باب الغرفة. وتكرر نفس الموقف عند لحظات الهرب والخوف في كل ثانية من الاخفاق أو الموت، تمامًا مثلما يشعر “دوفرين”. واستخدام الواقعية السحريية في تلك الرواية، مكَّن “كينج” من نسج عالم أقرب إلى الحلم أو الحواديت، ويؤكِّد ذلك خاتمة الرواية التي تدور على شاطئ هادئ شبه معزول عن العالم.
الأعمال الأدبية التي يقبع الواقع المرير في جميع أحداثها، قد تتحوَّل إلى حلم مُرعب يفيض بهموم الإنسان. واستخدام الواقعية السحرية في الأعمال المُرعبة يحوِّلها لتجربة مريرة تسكن الوجدان وتبث الرعب في النفس إلى أمد قد يكون سرمدي.