مرسي جميل عزيز.. حارس وجدان المصريين

morsi gameel aziz
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أسامة كمال أبو زيد

لم يكن مرسي جميل عزيز شاعر أغنية فحسب، بل كان وجدانًا جمعيًا ومتحدثًا روحيًا بلسان المصريين، حين كانت الأغنية مرآتهم الصادقة والموحية.

وُلد في التاسع من يونيو عام 1921 بمدينة الزقازيق، في بيتٍ تفوح منه رائحة الفاكهة الناضجة ودفء الريف المترف، إذ كان والده من كبار تجار الفاكهة، فتهيأت له حياةٌ تتيح للموهبة أن تُطلّ مبكرًا على العالم. هناك، في تلك البيئة التي تتجاور فيها الأرض والحنين، تشكّل وعيه الأول، فترجمها لاحقًا في أغنياته التي حملت طعم الريف وعبيره: غنّت له نجاة “أما براوة براوة.. أما براوة دوار حبيبي طراوة”، وغنى له محرم فؤاد “الحلوة داير شباكها شجرة فاكهة”، كما كتب “يا مزوق يا ورد في عودك” التي كانت نقطة انطلاقه الكبرى مع عبد العزيز محمود.

منذ الثانية عشرة، كانت اللغة قد فتحت له أبوابها. حفظ القرآن والمعلقات، وقرأ لبيرم التونسي، وارتشف من نداءات الباعة في الأسواق ما سيصير لاحقًا أيقونة صوتية للهوية المصرية. كانت الأغنية في وجدانه طائرًا يرى الجمال حتى في الغبار المتطاير حولنا، ويحوّل العامية إلى شعرٍ له جذور وسماء.

لم يكن يكتب كما يكتب الشعراء، بل كان يؤلف العالم من جديد في أغنياته. كان يؤمن أن الأغنية ليست لهوًا، بل مسؤولية. قال ذات يوم:

“الأغنية أخطر الفنون جميعًا، فهي التي تشكّل الوجدان وتربّي الانتماء.”

ولهذا لم يكن مجرد شاعرٍ رقيق، بل مفكر يصوغ الكلمة باللحن، واللحن بالأغنية. درس العربية والآداب القديمة والحديثة، وقرأ في الفلسفة والمسرح والسينما، حتى نال دبلوم السيناريو من معهد السينما عام 1963. كان عقلًا مدرّبًا وقلبًا طفلًا يؤمن أن الكلمة يمكن أن تُنقذ العالم.

كتب مرسي جميل عزيز لأصواتٍ كبرى صنعت ذاكرة الغناء العربي:

لأم كلثوم كتب ثلاثية العشق “سيرة الحب”، “فات الميعاد”، و”ألف ليلة وليلة” التي اختار اسمها بنفسه لأنها كانت الأغنية رقم ألف وواحد في مسيرته، ولأنها قُدمت احتفالًا بالعام الألفي للقاهرة.

ولعبد الحليم حافظ كتب باقة من أروع أغانيه: “الليالي”، “يا خلي القلب”، “بأمر الحب”، “في يوم في شهر في سنة”، “ليه تشغل بالك ليه”، “نعم يا حبيبي”، “أعز الناس”، و”من غير ليه” التي غنّاها بعد رحيله محمد عبد الوهاب، كأنها رسالة وداعٍ من الشاعر إلى الدنيا.

ولنجاة كتب “حبيبي لولا السهر” و”أنا بستناك”، ولشادية “الحنة يا حنة”، “وحياة عينيك”، “على عش الحب”، ولمحرم فؤاد “يا غزال إسكندراني” و”ندم”، ولمحمد قنديل “يا حلو صبح”، ولوردة “لولا الملامة” و”لعبة الأيام”، وفايزة أحمد “يا مه القمر ع الباب” و”أنا قلبي إليك ميال”، وحتى فريد الأطرش ومحمد فوزي غنيا له، وكذلك فيروز التي شدت برائعته الفصحى “سوف أحيا” التي تحولت إلى معجزة صغيرة من معجزات الإيمان بالحياة.

يحكي الأديب خيري شلبي أنه كان على وشك الانتحار حين سمع صوت فيروز ينشد:

“لمَ لا أحيا وظلّ الورد يحيا في الشفاه…”

فعاد إلى الحياة. لقد أنقذته كلمة، من شاعرٍ كان يكتب ليُبقي الإنسان على قيد النور.

وحين مُنعت أغنية “يامّه القمر على الباب” بدعوى أنها تحرّض البنات على الحب، دافع عنها العقاد قائلاً:

“فيها من البلاغة أضعاف المئات من قصائد الشعر العربي.”

أما يحيى حقي فقال عنه:

“من الظلم ألا يُدرّس مرسي جميل عزيز، كشاعر مرهف الحس، بارع الإشارة، يعنى أشد العناية بوحدة الأغنية واحتوائها على معنى جديد، يعبر عن الحب أدق تعبير، وعن الجنس بأجمل الكتابات.”

وقال فؤاد حداد:

“لقد كتب مرسي جميل عزيز الفلكلور، وما هو أجمل من الفلكلور.”

ولم يكن في حياته أقل بهاء من شعره: أنيقًا، عطوفًا، صلبًا، محبًا. يصلح المصباح كما يصلح بيت الشعر، ويزرع بستانه كما يزرع الكلمة. كان يرى الفن امتدادًا للحياة، والبيت امتدادًا للأغنية.

نال وسام الجمهورية عام 1965 تقديرًا لريادته في الأغنية الشعبية والعاطفية، لكنه نال ما هو أخلد: أن تبقى كلماته حيّة في الشوارع، في المقاهي القديمة وهواتف العابرين.

ورحل عام 1980، بعد صراعٍ مع المرض سافر بسببه إلى الولايات المتحدة، ليعود ويموت فوق تراب وطنه ويدفن في الزقازيق، حيث بدأ كل شيء.

كان مرسي جميل عزيز، في جوهره، شاعرًا يرى أن الأغنية وطنٌ صغير، وأن الكلمة يمكن أن تكون صلاة. لذلك ظلّ فينا كصوتٍ لا يُنسى، وكأننا حين نردد كلماته نقول معه ما لم نجرؤ أن نقوله نحن:

“نقابل ناس ونعرف ناس ونرتاح ويا ناس عن ناس،

وبيدور الزمن بينا يغير لون ليالينا،

وبنتوه بين الزحام والناس،

ويمكن ننسى كل الناس،

ولا ننسى حبايبنا… أعز الناس.”

مقالات من نفس القسم