حاوره: باسيليوس بواردي
مَن لم يُعرّف لنفسه ما هو الشعر، وهناك أكثر من تعريف ـ يقول مرزوق الحلبي ـ سيكتب طيلة حياته دون أن يبلغ مرتبة الشعر، ستكون كتابته اعتباطية تمامًا لا يُعوّل عليها وإن أصاب هنا وهناك في نص أو جُملة. في حديث معه لمناسبة صدور مؤلّفه الشعري “في مديح الوقت” قال: “جرُؤت على لقب شاعر بعد أن جرّبت حوالي عقديْن كتابة الشعر وصمدت في امتحان نقد أساتذة في اللغة العربية وآدابها، وبعد أن غصّت مكتبتي بآلاف الكتب من كل حقل معرفي وأدبي. جرُؤت على إصدار مؤلّفي بعد أن تيقّنت من أنني اهتديت إلى ما هو الشعر”!
مرزوق اسعيد الحلبي ـ مُبدع متعدّد المجالات. فهو إضافة إلى عمله في حقل الصحافة، كاتب باللغات الثلاث العربية والعبرية والانجليزية. يكتب النقد الأدبي والثقافي. كتب ويكتب القصة ويعمل على روايته الأولى. يكتب في الفكر وفلسفة السياسة والأخلاق. صاحب دار نشر جدل ومُترجم مُخضرم. حقوقي وناشط اجتماعي وثقافي. مثقّف مستنير له مواقف وإسهامات فكرية جريئة وخلافية أثارت وتُثير الجدل في السياسة والمُجتمع والشأن العام والدولة والإرهاب والأصولية. مُثقّف موسوعي ينعكس ذلك في مؤلّفه الصادر عن دار جدل بطبعة أنيقة قلّ مثيلها في ديارنا والمبوّب بأناقة متناهية.
نصّه الشعري “لا نفادي” بامتياز. يُقارب قصة الإنسان في كل زمان ومكان رغم إنه ابن زمانه ووقته. فهو على خصومة مع “السلطة” و”مركز القوة” و”الطاغية”. وهو نصير “الحريّة” باحث لا يتعب عن “العدل ـ أولى الفضائل”. يسعى إلى “الحقيقة” بلا هوادة، حقيقته وحقيقة الاجتماع الفضيل وحقيقة الكون وحقيقة اللغة. وهو في كل هذا ينحت لغته الخاصة ومفردة موسومة باسمه. سهل ممتنع وبسيط دال وموجز مكثّف. لنصّه طبقات تتصل بالتاريخ والدين والهوية والاجتماع وجدلية الظواهر والثقافة العربية وتلك الكونية. يطلع من ثوب المعرّي حينا أو من لُغة فوكو حينا آخر مرورا بعذوبة درويش وأسئلة دي ـ سوسير وغنائية نزيه خير. شعر الحلبي فيه مسحة من الصوفية والفكر الغنوصي وفيه عمق فلسفي مع حرص شديد على نص حميم يستدعيك وإن كان موضوعه المحنة والموت وجهنم وكل ما يُنهك الروح. هو شعر اجتهد صاحبه أن يكون شعرا مهما كانت منابعه ومشاغله كمثقف وكمفكّر. يأتي شعره مرسلا ومنثورا أحيانا أو موقّعا، له موسيقى ورتم قافلة. وفي كل الأحوال يحضر أنيقا بهيًّا.
أعرف الحلبي يوم التقينا أيام الدراسة الجامعية قبل ما يزيد عن ثلاثة عقود، والتقت دروبنا مرات عديدة وصولا إلى كتابة مقدمة مؤلّفه هذا وإجراء هذه المقابلة المطوّلة معه. وأعترف له أنه يُدهشني في كل لقاء من جديد.
ما دُمنا في سيرة الشعر، مَن هو الشاعر عندك؟
ج: “هذا مرتبط بسؤال بدئي، ما هو الشعر؟ الشِعر نصّ دال على المعنى لا على حدوده. الشعر مجاز أو كذبة أو بِدعة، مزحة أو خدعة لقول الحقيقة. هو حيلة الشاعر اللغوية لبلوغ المعنى أو هو المجوس الذين بشّروا بالمسيح ومضوا. الشعرُ أحيانا قول منقوص عن قصد للتدليل على ما نقص. الشعر مكتمل بنقصانه أحيانا وقائم بغموضه أو بما حُذف من كلام. الشّعرُ لُغة لا تخضع لمنطق اللغة التي نعرفها وأنماطها ومبانيها وتراكيبها وقوانينها وإلا ما اعتُبرَ شعرا. والشعر هو عدوّ “الطبيعي” و”المنطقيّ” و”العُرف” و”المألوف” و”المتوقّع”، وإلا ما صارَ شِعرا. هو النص الموحي، هو هذا الكائن الشفيف الذي يخطفك دون أن ترى تفاصيله ولا سيماءه أبدا. سترى ضحكته وشجنه وهدوءه لكنك لن تراه بالوضوح الذي تتوقّعه لأنه ساعتها لن يكون شعرا. الشّعر الشّعر هو الذي يعيش في لُغة قابلة للتأويل تُنتج الدهشة بعيدا عن “التوقّع”. الصور المتعددة الطبقات والقوة الدلالية للاستعارة والمجاز وعُذوبتها أساس اللغة الشعرية. الشعر يُولد من زفاف المفردات وجِماعها ومن العلاقات الحميمة الساحرة التي يُبدعها الشاعر في رحاب اللغة. لا شعرَ بدون اللغة الجديدة في اللغة وبدون الفكرة المُشرقة ضمن كلام بسيط مصفّى غير متكلّف ولا إنشائي ولا مُبتذل. الشعرُ أكثرُ انسيابا وأقلّ جلجلة. مَن أجاد هذا الفنّ فهو شاعر حتى لو لم يُسمِّ نفسه بهذا الاسم.”
لم تذكر الوزن ولا البحورَ؟
ج: “بوعي وإدراك تاميْن. أردتُ التأكيد على الشروط الضرورية للشعر لا على ما هو غير ضروري للشعر. صحيح، في ثقافتنا وذائقتنا اعتقاد موروث مفاده إن الشعر هو “الكلام الموزون والمقفّى”، لكني لا أتحدّر من هذا الاعتقاد وأحاول أن أتخلّص من أثره فيّ بوصفي من جيل درس الشعر على أنه كذلك وتربّت ذائقته على الموسيقى والإيقاع في الشعر. صحيح، قد يكون الشعرُ بدأ حياته في الإيقاع وبيوت العروضِ وخيمته لا سيما يوم كانت الثقافة العربية (وسواها) مسموعة، لكّنه استطاع الانتقال للعيش بقواه الذاتية والتكيّف في العراء وفي الساحات والحقول حرّا مُرسلا منثورا وغير مصفّف الشعر ولا يعتمر عِمامة. الكتابة منحته مساحاتها فانطلق. الشعرُ الشعرُ عاش ويعيش في العروض، وعاش ويعيش خارجه حُرًّا مُرسلًا ومنثورا. من هنا اعتقادي الجازم بأن إجادةُ عِلم العروضِ والعومُ في بحوره لا يؤهّل أحدًا أن يكونَ شاعرا. قد يكون العروض شرطا لوجود شعر لكنه ليس الشرط الضروري. المجاز والاستعارة والكناية والإيحاء والضباب أولا وأساسًا. أنا من القائلين بوجود “القول الشعري” في الأنواع الأدبية الأخرى وليس في القصيدة حصرا. أحيانا قد تقرأ صفحتين وثلاثا في رواية فتخال نفسك في رحاب الشعرِ. من هنا دأبي على القول إن أردتَ اختبار شاعر فاقرأ نثره. وهذه قاعدة صمدت في امتحان الشعراء الذين أعرفهم. إذا قرأت نثر درويش ستجد نفسك أمام شاعر وكذلك إذا قرأت نزار!”.
لماذا سمّيته “مؤلّف شعري” وليس ديوانًا أو مجموعة كما هي العادة في ثقافتنا والثقافات الأخرى؟
ج: “لأن الشعر لديّ ليس عملية لهو بالكلام ولا هو مجرّد نصوص للتسلية أو تزجية الوقت أو مماحكات كلامية مع صديق يُماحك. لأن الشعر عندي مشروع مرتبط بالمشروع الثقافي ورافد من روافده. لأني أؤلّف الشعر كما أكتب مقالا. أو أخوض في الشعر على إنني مثقّف وأخوض في الثقافة على إنني شاعر. مؤلّف شعري، لأن إنتاج الشعر بحاجة إلى جهد تأليفي، إلى فكرة حقيقية، إلى اتصال صريح بالذات وتأمّل في الداخل، إلى شجاعة في القول، إلى قدر مُتعب من الاستقامة الشخصية في العلاقة بالذات والعالم والكون. الشعر بحاجة إلى معرفة وليس فقط إلى لُغة وعروض، إلى إشراق صوفي وليس فقط إلى تمكّنٍ من المُفردات وتقنيات الكتابة. كتبت في حياتي آلاف المقالات والإنتاجات الفكرية. كلّها لا تُعادل كتابة الشعر في كل المستويات. مؤلّفي هو محصّلة مصفّاة ومُختارة لأفكاري ومُدركاتي وقناعاتي في القضايا الوجودية وليس كتابة فنية لمجرّد الكتابة. مؤلَّف، لأن في الأمر جهد تأليفي تراكم وتكثّف مع تراكم المعرفة. وهناك جانب آخر وهو نفوري من ثقافة المجموعات الشعرية. ما أن يكتب أحدهم عشرين نصًا حتى يهرول إلى مطبعة. لا تحرير ولا شغل ولا تعب ولا انتقاء ولا شطب. المحصّلة، الكثير الكثير من المجموعات والأمسيات والمتحدثين والصور والقليل القليل من الشعر. طقوس شعرية بدون شعر. أردت بالمؤلّف ومعانيه أن أؤسس لثقافة شعرية مغايرة تقول بوجوب العمل بجدية على النص الشعري. صادفت كثيرا ممن يكتبون ويتباهون أنهم لا يحررون نصوصهم الشعرية ولا يعرضون مجموعاتهم على محررين متخصصين. أنا أحثّ الجيل الشاب أن يفعل وأن يتعب على نصّه، ألا ينشره أحيانا وأن يختصره ويشطب فقرات فيه. الشعر كلام مُصفّى لا كلام مصفف”.
في نصوصك الشعرية مسحة فلسفية فكرية عميقة ـ ألا تعتقد أنها تُثقل كاهل الشعر وتُعيق حركته؟
ج: “قد يكون قولك صحيح في بعض الأحيان. لكن هذا خيار يعتمده الشاعر. وأنا واعٍ تمامًا لخياراتي وتفاوت لغتي الشعرية من نص لنص. أنا أفعل ذلك بوعي. قد تجد نصًّا من نصوصي فلسفيًا أو فكريًا أو تأمّليًا يحتاج إلى جهد أكبر لفك شيفرته، وقد تجد في الصفحة التالية نصًّا عذبا تماما منسابا كل الانسياب من القراءة الأولى. ليس هذا فحسب، فهناك نصوص مباشرة أكثر مهمّتها قول الموقف وإعلانه كما هو دون أي اشتغال باللغة وعليها. في كل الحالات والخيارات التي اعتمدتها يُشغلني سؤال كبير واحد وهو هل استطعت أن أبلغ درجة معقولة بما تُرضي من الشعر. والشعر درجات. أو حضور الشعر في النصوص قد يكون متفاوّتا في كثافته وتمدّده. وصحيح القول، وأظنّه لمحمود درويش، ومفاده إن الشاعر قد يكتب عشرة أسطر عادية كي يصل إلى الجملة الشعرية في السطر الأخير. ومع هذا أقول مثله ـ هناك الشعر وهناك ما هو كل شيء غير الشعر. الفلسفة أو الفكر قد يُثقلان النص لكن مهمة الشاعر أن يجعل هذا الثقل محمولا وقابلا للسير به. العُمق الشعري أو طبقات المعنى هي ضرورة شعرية خاصة لشاعر يأتي من الثقافة الموسوعية. وكل شاعر يحمل شحنته وتجاربه ومكتسباته المعرفية التي تحصّلت له أكاديميا أو بجهد شخصي أو في الممارسة المهنية. وأنا راضٍ عن حملي من هذه المعارف ولا زال أمامي البحر مفتوحا”.
ما دمتَ ذكرتَ درويش ـ هل تشغلك تجارب الشعراء الآخرين، وهل تربطك بهم وبتجاربهم علاقات ما؟
ج: “بطبيعة الحال تفاعلت وأتفاعل مع تجارب مَن سبقونا ومَن أتوا بعدنا من جيل الشباب. شخصيا، تجربة محمود درويش مُضيئة ومعلّمة ودرويش هو شاعر العرب بامتياز في العصر الحديث على الأقلّ. لكني مطّلع على تجارب عشرات غيره لا سيما في مصر هذا المركز الذي نهلنا منه عقودا ولا نزال. أذكر توقفي الطويل عند عبد المعطي حجازي ونبرته وصلاح عبد الصبور وشعره المُرسل. وتتبعت خطى نزار قباني وشعراء العراق ولبنان. تجمعت في مكتبتي مئات المجموعات الشعرية وصولا إلى اليمن والسودان والمغرب. في مكتبتي مكان مرموق للشعر والشعراء العرب وغير العرب. تربطني بالعشرات من الأحياء علاقات عمل وأخوة وحوار دائم. أنظر باغتباط إلى تجارب الجيل الشاب من شاعرات وشعراء هنا وفي فضاء الثقافة العربية. كثيرا ما أقرأ لهم فتأسرني نصوصهم فأتمنى لو أني كاتبها. أنشر نتاجهم في صفحة ثقافية أديرها لنوعيتها وفرادتها. درست تجارب الكبار ونتاجهم لكني لا أغفل المغمورين، أيضا، وأتابعهم خطوة خطوة. أحيانا يساورني الشك في أن هناك شعرًا أكثر فيما لا يُنشر. أما ما يُنشر فاقلّه شعر وأكثره محاولات في الشعر. الحركة الشعرية في ربوعنا ـ فلسطين الداخل ـ لا تزال أسيرة قوالب عقائدية وأنماط تقادمت. لا يزال قسم كبير من الشعر طوباويا في مضامينه يتعامل مع الأماني والمشاعر والهوية الجماعية. و”الشعراء” و”الشاعرات” مثاليون يكتبون من رومانسية أو حنين أو ذاكرة وأقلّ من العقل والتفكير فقلّما يأتي شعرهم بأفكار ومفردات جديدة تٌدهش أو تُقنع. يسيرون على دروب غيرهم فتبدو كتابتهم تقليدا أو نقلا. لا يزال قسمه الآخر يعيش على هويته لا على جماليته وفنّيته وفكرته. من ناحية المباني الشعرية هناك نكوص من الشعر الحرّ والمرسل إلى الشعر العامودي الصارخ، ومن التفعيلة إلى البحور. هناك دورة إلى الوراء واعتقاد يتزايد في إن الشعر هو الكلام المقفّى والموزون. للأسف حصل في الشعر ما حصل في حقل الفكر والعقيدة ـ لقد لمسنا وجود سلفية وماضوية في الشعر، أيضا. في الشعر كما في الحياة عاد البعض إلى ذروة شعرية مفترضة ـ الوزن والقافية ـ واحتموا بها معتقدين إنهم إذا فعلوا صاروا شعراء. تقرأ ما يكتبون فتشعر فورا أنك في زمن مضى ولغة مُتعبة ومفردات هالكة. بعضهم بدا أصوليا تماما. مصاب بالهلع من الجديد والحاضر والمستقبل فاستعاد عدّة الأجداد ولغتهم. يكتبون كأنهم في المضارب على تخوم الصحراء. قسم منهم يجدد قليلا فيتخذ هيئة النضال والمقاومة كأنه سميح القاسم أو توفيق زياد أو محمود درويش في عزّهم! هؤلاء أنتجوا للشعر صورة كاريكاتيرية أو هزيلة أو بائسة. يسيرون على طريق الاتّباع لا الإبداع. هؤلاء، يكتبون شعرًا متوقّعا ومبتذلا وإنشائيا يعكس هبوطا ونكوصًا لا انطلاقا، قوام شعرهم احتماء بالماضي لا اقتحام للمستقبل. فلا تظلّ الأزمة عندهم أزمة شعر ونص بل تصير أزمة لغة وثقافة وفكر ومشروع”.
يبدو من هذا المؤلّف الزاخر أن لك لغتك ومفرداتك و”قواعدك” وأفكارك وفلسفتك وخاصيتك الشعرية والثقافية ـ من أين تحصّل لك ذلك؟
ج: “من حسن حظّي أنني درست اللغة والأدب في سنّ مبكرة على يد الأستاذ بدرجة بروفيسور، سليمان جبران. خمس سنوات أدخلني خلالها محراب اللغة ومعارجها ومواضع قوتها وضعفها. وفي شبابي درست اللغة العملية على يد الكاتب الكبير الراحل إميل حبيبي الذي “اكتشف” قدراتي الكتابية فاستدعاني للعمل في جريدة “الاتحاد”. عملت إلى جانبه في الجريدة لستّ سنوات محرّرا مستمعا لتوجيهاته وإشاراته. وحبيبي كان مفتونا باللغة ساحرها ومُبدعها كما هي ساحرته. وقد كان معلّما سخيّا مٌخلصا اجتهد في إكسابنا النواحي العملية للغة كأداة العمل الصحفي والإبداع بامتياز. أستاذان كبيران سلّماني الأمانة وأنا أحملها بإخلاص لهما ولها ولي وللشعر والأدب والإبداع والكتابة بوجه عام. حتى عندما أكتب في الاستشارة التنظيمية ـ مهنتي ـ وفي العلوم السياسية وفي الفكر أشتغل على اللغة وأوليها اهتماما كبيرا. لأني أعتقد جازما إن هناك علاقة وثيقة بين اللغة والفكر. أما شعري فهو وليد جهد فكري ومحصلة مواقفي وقناعاتي ومعارفي التي اكتسبتها خلال تجربتي ودراستي الأكاديمية في الحقول المعرفية المختلفة لاسيما العلوم والفكر السياسي الحقوق وفلسفتها وعلوم المجموعات وإدارتها ومنهجيات التفكير الاستراتيجي. كما أنها نتيجة جهد شخصي وما يزيد عن عشرة آلاف كتاب في مكتبتي. الشعر بالنسبة لي حقل إبداعي يعكس كل هذا وأكثر، يعكس مواجهتي اليومية مع الأسئلة الجارية ومع أسئلة وجودية لا سيما الحق والحرية والحقيقة والعدل والسلطة. من هنا فالشعر بالنسبة لي ليس تسلية في الأماسي، والشاعر ليس مُذيع يجدّ ليُقدّم ما يطلبه المستمعون. الشعر مواجهة الشاعر مع ذاته ومع كل السلطات القائمة دفعة واحدة. الشعر عندي هو استمرار للمقالة والبحث والدراسة الأكاديمية والمحاضرة والندوة والموقف من الحرب والفقر وهو شباك لعلاقتي ببيئتي وأفراد أسرتي ومكوّنات ثقافتي. من يملك مشروعا شعريا حقيقيا لا يستطيع أن يقضي ثلاثة أو أربعة عقود من حياته يكتب عن شعرها الشلّال أو عن ساقيها العاجيين. ولا أفهم كيف يُمكن لشاعرات وشعراء أن يقضوا العمر يكتبون استدعاءات للحبيب بينما الحرب على مرمى حجر والدنيا جهنم فوق رؤوس شعبهم أو شعب شقيق. لا أفهم شعراء لا ينتصرون للمظلومين ولا يقولون موقفا أخلاقيا واحدا في حياتهم. والشعر يتطلب جرأة أدبية وأخلاقية. ومنهم مَن باع روحه للطاغية. أنا الشاعر هو أنا في الحقيقة والحياة ـ أقدم عليها بشغف أقطعها طولا وعرضا سيرا كي لا تضيع مني أي جزئية ـ وهذا كله يأتي معي إلى الشعر. شعري هو أنا كما أنا. أنا الشاعر يتطابق مع أنا مرزوق الحلبي ابن زهر واسعيد الحلبي زوج دالية وأب لشادن وأخ وصديق وناشط ومسافر ومُقيم وصاحب رأي وحقوقي وابن شعب وأمة وذرة غبار في هذا الكون ـ شعري هو أنا”
لا أذكر أنني قرأت اسم فلسطين في نصوصك علما بأن نصوصك كلّها رفضية متحدّية، وعلما بأن غيرك من شعراء مكانك لا يكتبون نصًّا إلا وكانت فلسطين حاضرة فيه و”القضية” محورا من محاوره؟
ج: “أنا شاعر لا يعيش من قضيته ومثقّف لا ينتفع من هويته أو مأساته. أو لنقل أنا لا أقوام في إطار قضيتي فقط ولا أرى نفسي تحرريا ضمن علاقتي بالإسرائيلي فقط. التحرّر في نظري والمقاومة والرفض ليست في استظهار مأساتك وذكر اسم بلدك في كل كلمة بل في أن تستطيع الحفاظ على إنسانيتك وكرامتك، وأن تحصّل وتٌنجز وتكسب وتعيش وتعطي لفلسطين معنى ومضمونا وحضورا وحياة وقِيَمًا خاصة إن ما من أحد استطاع أن يمحو الاسم. ربمّا خناك جيلان بعد النكبة اضطرا لاستظهار الهوية وإعلان وجودهم ـ محمود درويش وسمح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم ـ وقد فعلوا ذلك لأجلنا. أما أنا فأرى مهمتي وجيلي أن نعيش ملء الحياة والوقت رغم شرطنا السياسي الخاص. هويتنا مفروغ منها وصراعنا هو في مواجهة السلطة والقوى والقهر ـ وهذه المواجهة واضحة في نصوصي وسيرتي الشخصية. خلال أيام سجني قرأت كل ما كان في مكتبة السجن وكل ما أحضره لي المرحوم والدي في نهايات الأسبوع. هذا كان ردّي الإنساني على سجّاني. المعرفة كانت العتلة التي أحمي بها روحي وضميري من الأذى. المعرفة كانت بوابتي إلى التحرّر من سيادة الآخر وقهره. والكتابة هي الردّ. كتابة الشعر وسواه ـ البحث والمقالة والدراسة والمحاضرة والكتاب. كثيرة هي نصوصي التي أخاطب فيها القاهر والطاغية والغريب الوافد والقوة وأعرّيها. وكثيرة هي النصوص التي أمشي فيها مكشوف الظهر وأعزل غير خائف ـ دليل تمكّني ومنعتي. ربما إنني فقدت المكان بمعنى ما، لكني أريد امتلاك ناصية الزمان بأبعاده كافة لا سيما الحاضر والمستقبل. وقد خبرت بالتجربة وبالمعرفة أن الزمان أهم من المكان في الصراع بين الأمم. امتلاك نفسك وزمانك يعوضك عن فقدان المكان ويُعزّز من قُدرتك على الصمود. شعري هو ثمرة مقاومة الذين سبقونا ومهّدوا لشفائنا من نُدبة النكبة. هم ثبّتوا الهوية وأعلنوها ونحن نجتهد لنعيشها ونمارسها. هويتي المكانية والثقافية والسياسية هي التي أنطلق منها لكنني أتجاوزها بوعي تام إلى الإنساني وإلى الاستنارة. وأنا الذي أسكب في إطار الهوية المضمون الذي أريد، لست أسيرا لها ولا حبيسا فيها. على نهج درويش إنما الهوية إبداعُ صاحبها لا وراثة ماضٍ”.
في كل إجاباتك مواقف واضحة من الموجود الشعري أو الثقافي ـ تتحدث عنه بنقدية وبنوع من الحكم ـ يُمكنني أن أقدر طبيعة العلاقة بالفاعلين الثقافيين في ضوء ذلك ـ هذا وإن كنتُ أعرف المكانة الخاصة التي يحفظونها لك؟
ج: “ أدأب على إقامة علاقاتي بالفاعلين الثقافيين على وضوح، على الأقل من جانبي. أولا ـ لن تجدني أكيل المديح لمن لا يستحق ولن تجدني مُتجنيًّا في الحكم على نص أو كاتب. كل شيء في نصابه لا هو أكبر مما هو ولا هو أقل. والعدل أولى الفضائل في كل شيء. أحاول أن أكون عادلا في الشعر، أيضا، وفي الثقافة. ثانيا ـ عادة ما أقول رأيي وأسوّغه. وجهة نظري مؤسسة على حجّة لا على هوى أو مزاج. لا أنا مزاجي ولا أنا شخصاني. وهذا ما يُعطيني حصانة ما خاصة وأنني لست على تنافس مع أحد، لا على قصيدة ولا منصب ولا على جائزة ولا على موارد. نظريتي بسيطة ـ الليل يتسع لكل النجوم والنيازك والندامى والمتسكعين والعشّاق وأولاد الحرام، فإن فعلتَ شيئا من هذه فافعل بشرف، الكتابة والشعر والاختلاف والتفاهم والصداقة والخصومة ـ كلها بحاجة إلى أن يظلّ واحدنا شريفًا أو نبيلا. وأعرف إن المشهد على العموم بعيد عن هذا. وهو ما ينعكس على العلاقات في ساحة الأدب. يظلّ لي منهجي مثلما لي شعري ولغتي وثقافتي التي أحملها معي أينما كنتُ واثقًا منها ومنّي، أقف في أعلى موضع وأقول ها أنا كما أنا. من هذا الموقع وبهذا الوضوح آتي إلى الثقافة والشعر والأدب والسياسة والاجتماع وكل أنواع العلاقات. في مستوى ما قد يبدو الأمر مُتعبا لكنه في المحصّلة أراه الشيء الوحيد الممكن من ناحيتي. وكما أقول ‘يُسعدني أن نتفق لكن لا يضرّني أبدا أن نختلف‘“.
أرى مؤلّفك في طبعة أنيقة من حيث الإخراج والطباعة والتبويب الداخلي وعتبات النص الداخلية ـ إنه يختلف عن كل ما نراه هنا أو حتى عن الكتب التي تصدر في دور النشر في العواصم العربية؟
ج: “هذا صحيح لأن لا فصل لدي بين شكل ومضمون. لا تنس أنني صاحب دار النشر التي صدر عنها المؤلّف، دار “جدل” للنشر. وبوصفي كذلك، هذه هي معاييري ـ منتهى الاحتراف والدقة والاهتمام بأدقّ التفاصيل. لكن هناك أمور أخرى مثل إن التكنولوجيا اليوم تُتيح لنا تقنيات متناهية الدقّة، فلماذا لا نوظّفها؟ ولدينا أفضل المهارات فلماذا لا نستثمر مهنيّتها؟ هذا ما فعلته مع ثلاثة كتب أخرى صدرت عن دار النشر ولفتت الانتباه بأناقتها ونوعيتها. حصلنا بفضلها على إطراءات القراء والنقّاد. بالنسبة لهذا المؤلّف، أخضعناه لعملية تحرير مُضنية ليس فقط للنصوص بل للكتاب كإصدار. وزعنا النصوص على أبواب ولكل باب عنوانه مثل “جدل” و”جنة التأويل” و”ورد الشام” و”عودة الحلاج” و”وجع الأماكن” وغيرها. والأبواب هنا أو “عتبات النص” مسألة ليست شكلية بل تتصل بصلب المضامين، وهي محاولة شعرية قائمة بذاتها. أن تبني سياقات عامة وخاصة للنصوص والمواضيع، وأن تضع عناوين ومداخل هي كالبوابات المشغولة بيد فنان أو الأبواب المزخرفة بـ”الفيتراج”. هذه حرفة وفن اعتمدناه ونريد تعميمه لما فيه من إضافة للمؤلَّف وللكتاب الصادر هنا. هناك عامل موضوعي اقتضى ذلك وهو كون المؤلّف يحتوي على 320 صفحة وعشرات القصائد والنصوص. هنا، تصير عتبات النص وبواباته ضرورة للبناء الشعري العام للمؤلّف. فلا تأتي النصوص اعتباطا ولا مصادفة في مواقعها. الكتاب كلّه خضع للتحرير مثل النصوص. وهذا سرّ الجمالية والسحر في المؤلّف بطبعته الأولى”.
أخيرا ـ لماذا تكتب مرزوق الحلبي؟
ج: “أنا أكتب لأقيمَ توازنا بيني وبين العوالم. كي أصحّح الكون وأخلق موديلا لعالمٍ أفضل. في نصوصي إشارات واضحة على أسى وشجن وألم وحسرة وسخط وثورة، مثلما فيها مواضع أمل وحبّ وإشراق، بيد أني في كل هذه المضامين إنما أقصد التأشير على المرتجى المأمول لي وللعالم. أفعل ذلك بعقلانية لا برومانسية، بإرادة الثوري، لا الطوباوي، وبرؤية أخلاقية تستمد جذواها من فكرة العدل باعتبارها أولى الفضائل. لا أعد أحدا بالجنة لكني أعده أن أعمل معه على إنتاجها أو على الأقلّ تصورّها بتفاصيلها وبالطرق المؤدّية إليها. والشعر بساط الريح الذي أقترحه على الناس كي يطيروا على متنه إلى ما يشتهون. أكتب لأستكمل ما لا أنجزه في أفعالي الأخرى”.
…………..
*أستاذ اللغة العربية وآدابها ـ حيفا