عبد العزيز دياب
دموع الإبل من الروايات التى تخطف القارئ، تنفلت فيها الأحداث من اليقين إلى اللايقين دون فجاجة أو تعسف فى مواقف كثيرة من أحداث الرواية وتمثلاثها السردية، فى مساحات لا بأس بها. يتمدد اللايقين فى النسيج الروائي بقدر حاجة الأحداث إليه، بقدر النمو النفسى والاجتماعى للشخصيات داخل العمل الروائى، بالدرجة التى يستلزمها حضوره ومراوغته لليقين، فيبدو طبيعياً غير مقحم فى الأحداث، أو دخيلا على فكر وتخيلات الشخصية الروائية.
اعتمد الروائى العديد من الفنيات التى كانت بمثابة حاضنة، ينمو ويتربي ويترعرع فى أجوائها اللايقين. لا يخفى على أحد الهزة العنيفة التى رجرجت قيم المجتمع وأطاحت بفضائل كثيرة منذ عقود وأزمنة بعيدة، تضاءلت المسافة كثيراً بين ما هو يقينى وما هو غير يقيني، اتسعت مساحة الشك، وفى المقابل انكمشت مساحة البديهى والمسلم به.
وهذه الفضيلة، أو ذلك الملمح الفنى لايخص هذه الرواية وحدها، إنما هو تيمة فنية يتمتع بها السرد الروائي فى العموم، بيد أنه فى رواية دموع الإبل تحظى تيمة اللايقين بحضور كثيف. ولا يتحقق اللايقين فى الرواية أو فى أى عمل روائي بمزاج عبثى. أجواء الرواية وطقسها هما اللذان يحتضنان الجنوح اللامنطقي الغرائبي، فيبدو وكأنه الطبيعى المنطقى، بمعنى أن اللايقين يأتي محفوفاً بحيل فنية تحتضن اللامنطقى والشاذ عن الطبيعى والمالوف، تخلق داخل العمل قانونه الخاص، فيصير الشاذ واللامنطقى هو الطبيعى والمألوف. هنا تستعرض الرواية تلك المراوغة التي تتمثل فى إزاحة القين باللا يقين فى مسالة موت كاملة:
(قالت فى حيرة من لا يعرف كيف يتكلم:
ـ إنت مش عارف إن كامله ماتت؟
لم أكن أحلم عندما انتترت من حجر سلمى، وقلت إننى يا حاجة متماسك جداً، وفى كامل وعيي، وكامله لم تمت، بل تزوجت فى شبين، وغنيت بنفسى فى فرحها- ص39)
طبيعة وتكوين سلمى الشخصية الروائية المحورية كواحدة ركبها الجن (ملك العشاق)، تقوم بدور “كودية” فى حفلات الزار ببيتها لعلاح النساء الملبوسات بالجن والعفاريت، شخصية ميتافيزيقية، تتمتع بمواصفات خارقة، تحقق لها هذا بعد أن انطفأت اللمبة أربع مرات وهى تدور خلف الساقية فى ظلمة ما بين المغرب والعشاء، فيما كان كامل أمام المياه فى الجهة الأخري من الحقل وسمعت الصوت الذى يحدثها.
تتفجر الأحداث داخل العمل، ويتموضع السرد داخل الرواية من خلال شخصية سلمى، كذلك تدور شخصيات الرواية فى كنفها، فهى المنبع والمحور والمصب، هى التى تؤهل القارىء للعبة اللايقين، هى التي تشعل الخيال وتوقظ المشاعر، من خلالها تتبدى الرحلة الكونية المباركة التى يقوم بها سالم للبحث عن الجنة ومحاولة الرجوع إليها، شخصية سلمى بكل غرائبيتها التكئة التى تمكن الروائى من صياغة روايته بنسيجها الدرامي بكل جنوحه، ورسم شخوصة بكل توجهاتهم ومعتقداتهم الشعبية.
تـأتي شخصية سالم الشخصية المحورية التى تمضى بالتوازي مع شخصية سلمى- لاحظ التشابة بين الاسمين، كأن هذا الاسم اقتطع من ذاك- تعزف على نفس الإيقاع المتمثل فى الخرافة والحكايات الشعبية، كأننا بصدد القصص الشعبية التى كان يغنيها (الصَّييتة) مثل “شفيقة ومتولى”، وسالم بما يتمتع به من صوت جميل استثمرته سلمى ليكون مطرب الجوقة فى حفلات الزار المقامة فى “القاعة” الجوانية بالبيت، على الضوء الشحيح الذى يهبط من “ناروزة” السقف.
الجنوح المحبب للايقين يفجر التساؤلات، تتسع معه مساحة الدهشة لدى القارىء، تستفزه وتثير انتباهه، والروائي لا يكف عن العصف بمخيلة القارىء مستخدما فنيات عديدة تفضى إلى ما يسمى باللايقين، فقد نبتت شجرته فى أرض الاسطورة، والخرافة، والأهازيخ، والحكايات الشعبية، والأبطال الهامشيون، وجنوح الخيال، والاتكاء على التراث، ولغة استقاها بعبلها وطينها من مفردات الجماعة الشعبية.
(ترنو إلى باب موارب لم تطرقه يد منذ سنوات، دون أن تصدق أن الرجل الذى تعد له القفصين وتنتظره كل يوم مات منذ عشرين عاماً- ص 64)
والمقصود بالرجل هو الزوج… دهشة جديدة، وعصف بالمخيلة، وتوالد التشاؤلات.
الفنيات فى الرواية، وفى أية رواية تتحقق جنبا إلى جنب، أو بالتوالى، أوالتوازي، أو التبادل، أو التداخل، بالأحرى تتحقق بكل هؤلاء جميعاً. المهم أنه فى رحاب فنيات العمل الروائي، واتساقا مع غرائبية الأحداث يتقبل القارى فكرة اللايقين، يصدقها وينحاز إليها، لأن الكاتب هيأ أرض الكتابة لتمو شجرتها وتتفرع غصونها.
(وفيما كان النور يشع من وجهها، تماما مثلما قال حنا، من مفرق الشعر إلى المنحر ومنبت الثديين، قالت بخجل:
- الحمد لله.. إنت كنتِ خارجه بدرى قوى ليه كده؟
ردت مستغربة:
- انا…؟ من إمتى وأنا بخرج؟ – ص 8، 9)
يتلاعب الكاتب بالقارىء كيفما يشاء، يأخذنا من المصلى التى تستظل بالجميزة إلى الصحراء وغموضها، يجيد فى السرد النقلات الحادة المباغتة بمهارة وفنية، نجد سالم الراوى حادى يغنى للجمال، التى كانت مأخوذة بحلاوة الصوت، ومرت بإثنى عشر نجعاً والدموع تشر من عيونها، يمزج غناء سالم للجمال بغناء سلمى معه وهم حفلات الزار، يمزج ما بين البشر والإبل “كنا جالسين فلم أعرف متى وقفنا، ولا متى انضم إلينا عابد بالناى، كانت الصاجات بين أصابعها تفرقع بلا ابتزال، وأنا انتقل من موال إلى آخر كأنما أهوى فى منزلق، لا أملك القدرة على التوقف، حتى صرنا كإبل مجهدة”
التماهى بين الشخصيات عندما بدأ يخلط بين سندس وأم سالم فيقوده ذلك إلى اللايقين: (وكنت اشعر بالإصبعين الصغيرين يخففان الضغط عن حلقي:
- إنتى سندس؟
أومأت برأسها وانكبت فوق يدى وقبلتها بتلقائية وقالت”حمد الله ع السلامة”، ثم استدارت فبدت من الخلف أمى، وبينما كنت مرتبكا كيف أخلط بين سندس التي لا تزيد عن عشرين عاماً وأمى التي تجاوزت الخمسين- ص 78)
حالة ضبابية حُلْمية اكتنف أحداث الرواية بشكل ملحوظ، سندس تعاشر سالم معاشرة الأزواج وهى ليست زوجته، كانت معه فى مرقده، بعد ذلك لا أثر لها فى الحجرة، رغم بقايا أنفاسها الدافئة بظهره (حين انتبهت إلى ان سندس لا تشبك ذراعيها جيداً حولى. قمت من النوم مفزوعاً، فلم أجدها محتمية خلفى كاول الليل، تحيط رقبتى بذراعيها، وصدرها المطل من منحر القميص الليمونى مضغوط بظهرى، كأنما اقود حصانا جامحاً وهى خلفى- ص 103)
هذا علاوة على استحضار الناقة إذا جاء ذكر سندس، التماهى ما بين سندس والناقة (رأيت أمى منهمكة فى رص بلاليص المش، وقبل أن أتكلم قالت:
- مراتك خدت البعرورة ومشيت.
صرخت بحرقة: إلى اين؟ فحدقت باستغراب فى العضة التى انحسرت انحسرت عنها الملاءة وقالت فى هدوء متعمد:
- يوه ياسالم راحت لأهلها، ص 103)
فى دموع الإبل يواجه الراوى التيه والفقر والاحباط بالغناء، يأخذنا من حكاية إلى حكاية، وتبدو الحكايات فى مجملها رحلة البحث عن الجنة المفقودة فى المكان الذى أسماه “مرج عامر”، وجعل هذا المكان مقترنا بسندس، كأن الوصول إلى سندس هو فى حد ذاته الوصول إلى الجنة، فتتماهى شخصيتها مع أمنا حواء، والكاتب لا يكف أبدا عن مراوغة اليقين بالليقين. قال الراوى فى حديثه مع عبد المجيد راشد الفلاح: (طلبت أن يخبرنى عن سبب صمته المفاجىء حتى أمشى، فتنهد كأنما لينهى الكلام:
- لأن إللى إنت بتدور عليها دى هي سلمى بس من عشرين سنة، ص107)
يتكىء الكاتب على الموروثات، والحكايات والأهازيج الشعبية، وعلى غموض وجهامة الصحراء، على الأسطورة والخرافة، يخلخل الأحداث ينفيها بعد أن أكدها، هى رحلة حلمية للبحث عن ألأحلام المفقودة، الأحلام التى تشدها خيوط الراوى، كل خيط فى اتجاه معاكس للآخر.