سعدية وعبد الحكم: مراوحات التوثيق والتخييل

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

طارق إمام

يقدم حسين عبد العليم في روايته الجديدة “سعدية وعبد الحكم وآخرون”، محاولة لمقاربة  عالم البيوت السرية في القاهرة، في لحظات توهجها وحتى مشارف نهاياتها الغابرة، تاريخيا وتخييليا.

يمكننا أن نحيل هذا النص إلى أشباهه ـ تركيبيا ـ من الروايات الوثائقية، لن يخفى على القارئ ذلك الجانب الإخباري والولع التسجيلي، والاستشهاد المباشر، بعدد من الوثائق  التاريخية الموضحة للظاهرة، والتي تحضر بالتبادل مع العالم الروائي ـ التخييلي بالضرورة ـ وشخوصه الذين يعيشون في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي.

لاثنتين وعشرين صفحة،  ـ تحتل الفصلين الأول والثاني  من الرواية ـ يجوس النص في استكشاف وثائقي بحت لا يقطعه إلا الظهور التمهيدي الخافت لشخصيتي “الصاغ أسعد أفندي بسادة”  و:”سعدية” العاهرة، ليستعرض مراحل جوهرية من علاقة السلطة في حقب مختلفة بالبيوت السرية، بدءا من عهد محمد علي وحتى أواخر الأربعينيات، قبل سنوات قليلة من قيام ثورة يوليو.

يحضر بوضوح، المناخ السياسي والاجتماعي لمصر لما يزيد عن مائة عام وهو ما يبدو معه جزء من الطموح الدلالي للرواية، السلطة كمتن أخلاقي في علاقتها بعالم البيوت السرية، كهامش غير أخلاقي، وهو ما يتحول من سؤال مجرد بعد ذلك لعلاقة شخصنة من لحم ودم.

الصاغ أسعد بسادة ـ ممثل السلطة ـ وسعدية ممثلة العالم السري، كلاهما شخصية غير متنتمية، أسعد لم يرغب أبدا في أن يكون ضابطا ولم ينتم أبدا لنسيج المنصب، وبالطريقة ذاتها لم تكن سعدية أبدا “مومسا”، فلا هي مهتمة بالمتعة أو المال، بل تفعل ذلك دون أن تعرف لماذا أقدمت عليه، في حوار كاشف بينهما، جسد بشكل كامل فلسفتيهما، المتشابهتين، في إدراك الوجود.

إن هذا التطابق يأخذ أحد أشكاله في القرب اللفظي الشديد بين اسمي “أسعد” و”سعدية”، وهو ما لا أعتقد أنه تحقق عبثا، أو من قبيل الصدفة في الرواية،.

من ناحية أخرى فإن بقية الشخصيات لا تبدو أقل “لا انتماء” بل إنها محاطة بظلال غرائبية، تحكم سلوكها ورؤيتها للوجود بما يجعلها نغمات نشاز،  وتبدو حتى أحلامها في الوجود عجيبة مستغربة، فعبد الحكم  لا يهوى شيئا في حياته سوى الكلاب، حتى أنهم أطلقوا عليه في البلدة “أبوكليبة”، وانتشرت حوله الشائعات بوجود علاقة تربطه بكلبة تسمى “فلة” يعاشرها عبد الحكم بدوره ـ الشاذ اجتماعيا ـ له في الرواية نظير وقرين في السلطة هو البكباشي الألفي، المختص بشئون الكلاب في كلية البوليس، والذي صنع المعجزات التي تتناقلها مصر كلها، وكان أول من أجاد تدريب الكلاب البوليسية للكشف عن الجرائم.

“مدرسة الحكيمات” هي الحلقة الوسيطة بين السلطة والبيوت السرية، التي تنتمي لكليمها، بنفس الدرجة، فهي تابعة للسلطة، غير أنها  فضلا عن تعاملها المباشر مع الساقطات في الكشوف الدورية الطبية، والحجر على المصابات بأمراض خطيرة، تبدو صيغة أخرى من البيوت السرية بمنطق بناء الرواية ذاته، يأتي التوثيقي مستعرضا تاريخ مدرسة الحكيمات، قبل أن يتم تقديم عظيمة الممرضة والتي تصاحب سعدية في أيامها الأخيرة، بعد إصابتها بالخراع. لقد التحقت العظيمة، بمدرسة الحكيمات فقط لكي تطفئ شهوتها العارمة بالقبلات التي تمارسها مع الأطباء في البحث عن علاقة كاملة مع رجل، ولكن، فقط تكتفي بالتقبيل. صورة أخرى لسعدية، يبدو معها الطموح العبثي والذي لا يخلو من عدمية ولامبالاة، ويشوش كل المعانی المتماسكة الاتفاقية التي يعرفها البشر. شخصيات غير اتفاقية، ترصدها الرواية، وتلتقط خيطها التراجيدي المهلك.

***

بقدر ما تبدو اللغة تقريرية، فيما يخص الوقائع ـ لغة التاريخ الحاسة المجردة، هي أيضا لغة تاريخ رسمي ـ بقدر ما تتخفف في الجوانب الروائية من النص، لغة سردية تعمد الى الدارج تسمى الأشياء بمسمياتها العامية على ما في بعضها من صدمة واستنفار وتبلغ ذروة ذلك في لغة الحوار العامية ايضا، بين الشخوص، بكامل إباحيتها.

ربما نحن أمام رهان آخر يربط ثنائية اللغة “فصحى عامية”، بثنائية “السلطة/ الهامش” السالف استعراضها وان النص الجمالي الذي يتكئ على التوثيق المباشر وغير المدمج وغير الذائب في العالم السردی بتواشج کامل، بیدو نصر تشویش کامل. حتى وإن بدا غير ذلك أو إن لم يكن انتواه. ليست فقط المقارنة من التسجيل، كحقيقة/ يقين والروائی کذپ/ احتمال، مثلما نجد حتى في التقسيمات السينمائية الدارجة ولكن الانتقال المفاجئ ـ حيال قارئ يهيئ نفسه دائما لأحد خيارين ـ بين طريقتين في رؤية العالم، يبدو جوهر النص في النهاية طريقا ثالثا بينهما، إن سعدية وعبد الحكم وعظيمة، لا  تبدو فقط  شخصيات روائية، إنما تتجاوز أعراف الشخصيات الواقعية داخل الفن الروائي نفسه، الحافز الذي يكون بمقدار الهدف. النهايات المتسقة مع البدايات، التكوين النفسي المكتمل والمقنع، إنه طبقا لجميع هذه المحددات، ستخفق في إقناع القارئ  “الواقعي” وتبدو أكثر اتساقا مع  النصوص  الوجودية والعبثية، حتى أن الخلفية الاجتماعية والتاريخية قد تبدو معها- شديدة الخفوت والتأثير، وعلى الجانب الآخر تمثل مؤسسة التوثيق أي التمثيل، بالضرورة والاتفاق والإجماع قائمة راسخة، غير مهددة أو زائلة، تحيا کوقائع، بينما تذوى الشخوص.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم