لميس سعيدي
“وكان الإسكافي منذ سنين يعيش أسيرا لخياله المجهَد في تلك البقعة الخالية من المدينة التي هجرها الناس”
حكاية الإسكافي المجنّح والحذاء الذي يتكلّم- مدينة الحوائط اللانهائية
*
في معظم حواراته، يتطرّق الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتّاثار إلى الفرق بين الخيال والواقع، وبأنه لا يؤمن بالتصنيف الموجود في القاموس أو كما يسميه “المقبرة”، فالخيال -حسب كورتّاثار- ليس سوى الوجه الآخر للواقع الذي لا يخضع إلى منطق الأغلبية وبالتالي يخيفها فترفضه، وتنسب كلّ حادثة لا تخضع لمنطق الجماعة أو المجتمع إلى الخيال أو الصدفة.
*****
حين بدأت في تعلّم اللغة الإسبانية، أخذت بعض الوقت لأفرّق بين كلمة pared وكلمة muro..تؤكّد صديقتي (وأستاذتي) الإسبانية أن muro لا تُستعمل لجدران المنزل ولا للجدران الداخلية عموما وأنه عليّ استعمال كلمة pared.
أفتح قاموس (المقبرة) الأكاديمية المَلكية وأجد التالي:
Muro: Pared
أفكّر أن الفرق ذاته موجود بين الحائط والجدار وأن في القواميس يشرحون كلمة حائط بكلمة جدار، كما يشرحون كلمة قصة بكلمة حكاية والعكس.
لماذا يختار الكاتب الحائط بدل الجدار إذن؟ ولماذا يختار الحوائط بدل الحيطان؟
*****
في “مدينة الحوائط اللانهائية” لا يتردّد الكاتب في وضع عناوين طويلة للحكايات، كما في قصص الأطفال..عناوين لا تريد أن تكون لمّاحة أو مكثَّفة، لكنها ترغب فقط في أن تحمل أسماء جميع الأبطال -مهما كثر عددهم- في السفينة ذاتها، لتأخذهم إلى الحكاية.. الكتاب في حدّ ذاته عبارة عن قصص للأطفال..الطفولة: القبول بواقع مغاير، لا يخضع للمنطق، ولا يُنسب إلى الخيال.
“عندما انتهى المنام، خافوا أن يحكوا ما رأوا، ليس فقط لأن أحدا من أهاليهم لم يكن ليصدّق، لكن لأنهم شعروا -بالغريزة فقط- وباتفاق مبهم تواطأت عليه قوة الطفولة التي لا تُبارى، أن هذا المنام المشترك علامة لا يجب أن تُحكى” ص 107 -حكاية “الرجل الذي لم يحلم أبدا”
******
حين يتحدّث كورتّاثار عن آبائه في الأدب، يذكر دائما -وقبل إدغار الان بو- الكاتب الفرنسي جول فيرن، أوّل كاتب “خيال علمي”..كما يَحكي عن أولى خيباته في الحياة ( بعد خيبة والدته التي لم تصدق أنّه هو من كتب أولى قصائده)، حين قرأ رواية -غير شهيرة- لجول فيرن في سنّ صغيرة، عن رجل غير مرئي..بدا له وجود رجل غير مرئي أمرا طبيعيا ومنطقيا للغاية، في حين سخر صديقه (الذي كان في السن ذاتها، لكنه أُصيب بشيخوخة غامضة) من الرواية وممّا اعتبره فكرة خيالية وساذجة.
*****
لو كانت الحياة كتابا، كانت ستكون مجموعة قصصية، وكان سيكون لكل كائن قصته واسمه المكتوب في العنوان..الرواية هي كلّ تلك القصص التي لم تُروَ.
*****
ما يجعل “مدينة الحوائط اللانهائية” مغامرة هائلة، هي تلك المتعة التي يشعر بها القارئ وهو يتحرّر تماما من فكرة الخيال، وهو يزيل الحاجز الذي تضعه المقبرة في مدينة ما بين الحياة والموت ولكي يبقى “الفارق الوحيد بين ما حدث وما لم يحدث قط، هو الطريقة التي يمكن أن يتحوّل إلى حقيقة عندما يُحكى”.
………….
*شاعرة وكاتبة جزائرية
*فوتوغرافيا “مدينة الحوائط تطل على مدينة الجزائر”.. بعدسة لميس سعيدي