عمر حسني جبريل
الجو خانق رغم تيار الهواء الشديد، عيناي جمرتان ضلتا طريقهما فسكنتا محجريَّ، أرى بشرًا حولي غير أن وجوههم مسطحة، وملامحهم متداخلة، أرى شاربًا كثًا في رأسٍ غطاها حجا…. أهذا حلق في أذن ذلك الرجل؟، أشعر بالإنهاك حد الإعياء .. إلا أن قدمي ليستا كذلك.
أسير مدفوعًا دون رغبةً مني وقدماي اُستُبدِلتا بإطاري سيارة – فقد سائقها التحكم بها – تتنامى رائحة احتكاكهما كحريقٍ شديد الهول، جهلٌ تامٌ أو إدعاء عن كيف وصلت لتلك الحالة؟
حلقي جافٌ كأسفلت أغسطس المزيت حديثًا، ويزداد جفاف حلقي مهما ازدردت ريقي، كظمآن يرتوي بملح أجاج، ابتلع حبة الدواء ولترًا من المياه جرعة واحدة والجفاف لا ينتهي . الدم يغلي بأنفي استشعره سائلًا، أمد يدي فلا أجده، جسدي ثلجي أطرافي مشتعلة، ورأسي بركانٌ ثائر.. أشعر بثقلٍ شديد متى حاولت التوقف، وإطارا السيارة لا يصيبهما الإعياء، وأنا أعي إعياءً يسرقني.
لا أدري كم مر إذ ابتلعت المسافة من بداية الكورنيش حتى نهاية الأعصر، أفقد سياج الكورنيش الحديدي إذ انتهى والظلام يلُفُنا بوداع آخر مصباح مضاء، كاختفاء رفيقك الأوحد حين واجهك انغلاق الطريق أمامك ومطاردك يتشمم أذنك، وحيدًا استندت على ما تبقى من ذلك الرفيق بخطوتين للخلف، لسعتني برودته حتى اغتالت قدرة أعصابي على التحمل فاعتدتها بمزيد من الإمساك بها، وثقلٌ لا متناهي يدك أضلعي إذ توقفت، حبةٌ أخرى ولترُ آخر، وألقي الزجاجة الفارغة واستكمل خفتي باستعادة إطاري السيارة من جديد عائدًا من حيث أتيت.
خيال رضيع محمول بين يدي أمه يتراءى لي بفيه مفتوح، وملامح منقبضة، أهذا الرضيع يبكي بلا صراخ؟
يقطع خيالي نورٌ متوهج، وصوت يكاد يصم أذني وسبةٌ لم أدرك كنهها من سائق سيارة تجاوزتني، أنظر حولي فلا أجد سياجًا ولا نيلًا، فقط محلات كثر متراصة بجانب بعضها، التف لأنظر خلفي لأجد الكورنيش بالناحيةٍ الأخرى وسياراتٍ متراصة وأضواءٍ متراقصة على كلمة سرفيس المتكررة.
أقف حائرًا أخطو بضع خطوات باتجاه الشارع المتفرع، اقف مرةً أخرى، أنظر لساعتي مسلوبة العقارب، وأرقاما بضوءٍ خافت لا استطيع تمييزها، وصوت بعيدٌ ينادي شخصًا باسمي لكنه قطعًا ليس أنا.
ناقوس رأسي لا يتوقف أبدًا، وانتظارانطلاق حممها، أشبه بحفار يخترق جمجمتك، وإطاري عاجزان عن الدوران مرة أخرى وسقوطٍ وشيك على الحدوث، اجتررتهما باتجاه مقهانا – أنا وإطاريَّ – لنستريح قليلًا غير أن زحامًا متفقًا عليه، حجب الراحة عن أنظارنا، حاولنا البحث كثيرًا،غير أن كلما بحثنا، كلما صاحبت الحمم المنتظرة، حمما أخرى تعج بالكِدر والضيق، وبكاء الرضيع عاود كبكاءٍ مزعج لا يتوقف، وجمرتان تبحثان عن مصدر الصوت ولا تجد، يقطع البكاء إنذارٌ مألوف بأنه قادم وعليك أن تفسح مكانًا وإلا فالاصطدام وشيك، تتوه الأصوات دفعةً واحدة مع تهليل ضخم وصوت صقفات متوالية احتفالًا بهدفٍ ما، انزوى جزء مني بعيدًا عقب ذلك، وقليلًا قليلًا استشعرت رائحة الرماد بأطرافي، فعدت من حيث قطع خيالي النور المتوهج، وعبرت لما يجاوز الطريق طريقًا آخر، اتخذت أول سيارة أجرة جماعية، إلى حيث أردت التوجه، ونظرت للمقعد الأمامي فإذا الرضيع يستمر في البكاء، وأمه تنوء بحمله لرجلٍ جالسٍ بجوارها، فيرفعه قليلًا ويهدهده قليلًا، ثُم وضع في فمه شيئًا لم يتضح لي، لفظه الطفل واستمر في الصراخ، فلعنه الرجل وأعاده لأمه، فوضعت رأسه على كتفها وأخذت تربت على ظهره بإيقاع مستمر، والجمرتان تنطفئان قليلًا قليلًا بذات الإيقاع، تثاءب الطفل، فأمالت الأم رأسها وقبلت رأسه بحنانٍ جم لم يكن يبدو أبدًا من مناولتها لأبيه في بادئ الأمر، فنظر الرجل بطرف عينيه ثم خاطب السائق “هم بَدره، وهم شيله، وهم عيشته .. يقطع العيال وسنين العيال”، أعقبها السائق بضحكة بترها المطب المتوارى بحنكة في الظلام، فضمت الأم ذراعيها حوله وهي تميل للأمام، أحال كل الأصوات لهمسٍ ناعسٍ، وفي خضمه كموجة عالية صوتٌ لم يبدد بأنهن يحملننا رُضعًا حتى تنمو مشاعرنا فيمكنها حملنا لـ .. ، وقبل إتمام الموجة مدها، جزرني الإعياء، فانحسرت نائمًا.