مختارات من ديوان “تصبحين على خير”

موقع الكتابة الثقافي علاء خالد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

علاء خالد

بروح شابة

تنظرين إلى يدك المسنة بدهشة

كأنها ليست لك

وأن هذه التجاعيد

تخص امرأة أخرى

أفنت نور يديها فى غسيل الملابس والصحون

 

يد عمياء تتحس طريقها إلى التراب.

 

قبل العملية بقليل

نزعتِ خاتمك وابتسمتِ

كموظف يستريح

بعد أن يسلم آخر عهدة له.

…..

 

مع كل أزمة صحية

كنت تطمئنيننى بأنها ليست النهاية

هكذا أسرّ حلم قديم لك

وأن هناك مسافة محصنة مع الموت.

 

فى المرة الأخيرة

لم تبدر منكِ أى رسالة

فقط ابتسامة مستسلمة

كانت تغمر العربة فى طريقنا إلى المستشفى.

كنا نقترب من الموت

بسرعة فائقة

لم يعد يسبقنا فى الصف

إلا الملائكة

 

لم أكن أدرى

أن هذه اليد الدافئة

التى احتضنتها فى جوف يدى

ستلوح لى بعد قليل بمنديل أبيض.

 

فى غرفة العناية المركزة

خلعت حذائى واستبدلت آخر به من القماش

وانسللت إلى المعبد من دون صوت

تسمرت قدماى أمام قداسة الغيبوبة

كانت صورتك معروضة على الشاشة

فى بث مباشر عن الموت

وجهكِ من دون طقم الإسنان

أصبح كالمومياء

عظام مضيئة تحت طبقة شفافة من الجلد

وأنابيب مازالت تحمل بعضاً من هواء صدرك

تركت الشاشة واقتربت من سريركِ

كان الموت مضاعفا

وبحركة سريعة دسست يدى من تحت الغطاء

أقشر اللفائف

حتى أصل إلى جزء من جسدك

لايزال دافئا

ولم يصبح خالدا بعد

….

 

للوهن رائحة كولونيا ” خمس خمسات

ككلب يدلف من الباب بحثا عن جريمة

كنت أبحث عن تلك الرائحة

تحت طيات روائح المطبخ

وأشياء البيت الأخرى

كانت غرفتكِ بالمستشفى

بها رصيد من الكولونيا يكفى لسنوات

لم تستهلكِ منها شيئا

حملتها وسط أغراضك الأخرى

كى أخلى الغرفة لمريض قادم

وعُدت بها إلى البيت

أرش على العتبة وفوق السجادة

أبدد الرصيد المسحوب من حياتك

أصبح البيت كله كجريمة

لايتحملها هذا الكلب الرومانسى

 

من المستشفى التى تقع فى أطراف المدينة

إلى المدافن التى تقع فى الطرف الآخر؛

مررت على البحر

شريط أزرق

وعين حمراء

كنت جالسا بجوارك

أقرأ القرآن وأبكى

أى كتاب أقرؤه فى حضور جثمانك

كان سيدعونى للبكاء.

فى العربة المسرعة،

رفّ جثمانك عدة مرات

وأنا بجانبك

ألتف على موتك كباقة ورد

كل تماس بيننا

كموجة من الدموع تلطم وجهى

لم أرجف من هذا العناق الأخير

نعم أجساد الموتى باردة

شاشة بيضاء

لاينقصها إلا الكلام.

…..

بعد أن أنجزنا المهمة

ووارينا جسدك فى التراب

كان سائق عربة الموتى التى أقلتنا

ينتظرنى وسط الجموع

ملوحا بالملاءة البيضاء التى كانت

تغطى جثمانك.

 

عندما مات أبى

تسلمت أيضا تلك الملاءة من أحد الأقارب

كعصا عداء فى مارثون طويل

وسرت بها مسافة

ووضعتها أمامى على منضدة البار

ورحت أتحدث إليها حديثا عاطفيا

 

هذه المرة عدت بملاءتك

وصنعت منها خيمة

نصبتها فى حديقة البيت.

….

وأنا صغير

كنت  أقف ممسكا بأحد أطراف الملاءة

وأنتِ على الجانب الآخر

أشدها فترخين

ثم تشدين فأرخى

كشعرة تفاهم

كحبل المشيمة بعد أن يتحول لعادات منزلية

وفى لحظة نفردها

كشراع

ونحوطها من زواياها الأربع

هواء الذكرى الأخف من هواء ماضينا

كأننا على وشك الطيران.

 

لن أسألك عن الجنة

عن الركن الظليل الذى نأيتِ فيه بنفسك

بعيدا عن عيون الغرباء

بساقين مضمومتين كسيقان المدرسة،

عن صنف الطعام الواحد الذى اخترتهِ

وسط صفوف الموائد المفروشة.

كان من الأفضل أن أرسل للملائكة

قائمة بعاداتك اليومية

بمواعيد تناول الدواء

بملابس الصيف وملابس الشتاء.

 

ولكنى أسالك عن القبر

عن وحشة الليلة الأولى.

….

 

على الوسادة

حيث تبدئين الرحلة الشقية للفكر

وتدققين فى خيالات الجنة والنار

فى معركة لم أعرف المنتصر فيها

وأى الأبواب غلّقت فى وجهكِ للأبد

 

على الوسادة

وضعت مصحفا

كتوأم روحى لرأسك الغائب.

….

 

فى كل تذكر

كأنى أفتح صفحة بيضاء

وأكتب بملء عينىّ من تفهم

حتى يكتمل كتاب حياتك

كتاب التذكر

 

لتكونى راضية هناك

وأننى أبدا لم أسىء الظن بكِ

كنت تخافين من حياتك المكشوفة فى كتابتى

أصبحتِ الآن قارئة محايدة

تمر حياتك أمامك  بهدوء

وأصبحت أنا كاتبا متورطا فى الحب

ــــــــــــــــــــــــ

– دار شرقيات 2007

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم