د. مصطفى الضبع
محمود عرفات كاتب مصري تنتمي تجربته السردية إلى مطلع الألفية الثالثة، صدر له روايتان: مقام الصبا (2002)، ومشمش الرابع عشر (2005)، وله ثلاث مجموعات قصصية: على شاطئ الجبل (2003) حصل عنها على جائزة الدولة التشجيعية في الآداب (2005) – المريدون (2009) – الخسوف (2013)، وله قيد النشر رواية (سرابيوم ) تستعيد تجربة حرب أكتوبر المجيدة (1973) التي شارك فيها بوصفه ضابط احتياط بالجيش الثاني الميداني محافظا على ثلاثة ثوابت تمثل قضايا ترصدها تجربة وتكاد تكون علامات شديدة الدلالة على عالمه:
- مصر أكتوبر.
- الوحدة الوطنية المصرية.
- الوعي بالقضايا الاجتماعية التي يكاشفها أشخاصه أو يكتشفها من خلالهم.
وهي قضايا يمكنك ببساطة الوقوف عليها في مجموعته القصصية الأخيرة “الخسوف ” التي تضم أربع عشرة قصة قصيرة تتوزع على عدد من القضايا التي تجمعها أو تدور حول العلامات السابق ذكرها.
يتصدر المجموعة إهداء دال يأخذ القارئ إلى التجربة الأكتوبرية مباشرة ” إلى روح المغفور له اللواء الركن عثمان كامل قائد اللواء الرابع عشر المدرع في حرب أكتوبر المجيدة 1973″ وهو ما يعني أن السارد سيأخذنا إلى قلب الحدث معتمدا أسلوب البث المباشر للأحداث وهو ما يؤكده أن قصص المجموعة بكاملها تروى بضمير المتكلم الحاضر المشارك في الأحداث بدرجة أو بأخرى قدر ما تسمح به ظروف النص وملابسات الحدث، وهو ما يجعل للقصص دورها في الكشف عن جوانب أكثر عمقا في ذات السارد أولا وفي رؤية الأحداث معاينة ثانيا مما يمنحها قدرا من الواقعية والمصداقية.
ولا تغادر القصة الأولى “مرآة غائمة ” هذا الطقس الأكتوبري وهي تحكي عن مجند يعود في إجازة قصيرة ويلتف حوله أفراد أسرته غير أنه لا يحتمل سؤال الجيران عن أبنائهم وخاصة ابن عمه خيري المجند الذي لا تتوافر لديه أية معلومات عنه:” الجيران والأقارب سيأتون يهنئون ثم يسألون.. لا أملك إجابة. ولن أحتمل نظرات الترقب التى تعقب السؤال. تمنيت أن أغادر فورًا. بدأ القلق يلتهمني ببطء.. ماذا أقول؟ وكيف؟………… ساد الصمت. كنت أخشى من أسئلة لا أجيب عنها. قال فى تردد: وإذا سألوك عن أحبابهم؟ سكتُّ لحظة، ثم أتاني الجواب من حيث لا أدري: كلنا أحياء.. ولن يموت منا أحد” (ص 15) تاركا النهاية مفتوحة للتخيل، تخيل الوجود الحقيقي أو الحياة الحقيقية لأبناء الوطن، كونهم أحياء في كل الأحوال منطلقا من قوله تعالى في سورة آل عمران:)وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (.
ولا تبتعد القصة الثانية عن عالم أكتوبر فقط يغير مكان المشهد ليجعل العالم بمثابة الذاكرة الحية لهذا الجيل العظيم،كما أنها لا تبتعد عن الإهداء نفسه كاشفة عن علاقة الإهداء بالنص فالإهداء ينتمي للواقع والمهدي لشخصية لها حضورها الواقعي و السارد حين يتوصل إلى قائد لوائه المدرع بعد قرابة أربعين عاما من الحرب يربط بين الإهداء والقصة وبطلها بكلمة سر، هي في الحقيقة تقوم بوظيفتين: الربط بين النص والإهداء وإثارة الذكريات لدى القائد البطل مما يجعل منها كلمة السر لانفتاح عالم الماضي المجيد:
” اقتربت منه ببطء. انحنيتُ مقتربًا ومددت يدي مصافحًا. همست باسمي وأضفت: اللواء الرابع عشر. رفع وجهه نحوي فى ود واتسعت ابتسامته. قال بلهجة ودود تضج بالفرح: أهلا وسهلا.. تفضل. جلست بجانبه أتأمل ملامحه عن قرب. قلت له: هل تذكرتني؟ قال: تذكرتك لأنك نطقت بكلمة السر” (ص 19)، والسارد رغم أنه لا يذكر اسم اللواء في القصة فالقارئ يستطيع التعرف عليه من خلال القصة أولا وتقنية الربط التي اعتمدها الكاتب ليجعل الإهداء (الواقعي ) مشيرا إلى وفاة اللواء ولكن القصة لا تشير إلى ذلك ليكون النص في تخليده للبطل أكثر قوة من الواقع الذي يغيب عنه البطل مما يجعل من القصة واقعا بديلا يقدمه السارد، واقع يقوم بوظيفتين حسب نوعه:
- واقع تذكر الماضي ليكون بديلا عن الراهن المعيش، فالسارد يعود للماضي المجيد هروبا أو تعويضا عن الواقع الذي لا يتصالح معه، معتمدا ما يسمى بالخيال التعويضي الذي يلجأ إليه الإنسان في لحظات يحاول فيها تعويض واقعه الأليم مستمدا ما يمكنه أن يقيم عالما بديلا تحقيقا لمقولة “ذكر الصفاء في وقت الجفاء صفاء ” أي ذكر السعادة في وقت الحزن سعادة، والسارد عبر خياله المنطلق يتعالى على الواقع بكل ما يمكن أن يكون من المغريات:” انشغل الرجلان فى الحديث. راقبتهما وهما يتكلمان بود.. فانطلق خيالي.. مغادرًا المضيفات الحسناوات، والأبواب الزجاجية الآلية، والحوائط الرخامية، وأوانى المائدة اللامعة، والمناضد الفاخرة، والأرضيات الملونة الناعمة.. لأرى القناة.. الحلم الذى تحقق.. وتوغلنا نحو الشرق فى الصحراء الواسعة.. وغبار المركبات والدبابات.. وأصوات الانفجارات.. وغارات الطائرات.. وصيحات الاستغاثة.. والأجساد المشطورة.. والجراح النازفة.. والضحكات الممزوجة بدموع الخوف والأمل. وعدتُ.. على عيني ستارة من دموع.. وفى حلقي بقايا من رمالٍ ناعمة” (ص 23 من المجموعة ).
- واقع معيش تطرحه معظم النصوص التي تتحول بدورها إلى واقع يقدمه السارد مرتفعا به إلى الوعي النقدي الذي يتسع مفهومه جاعلا من رؤية الشخصية بمثابة الضمير الذي لا ينام عن رؤية الوطن وما آل إليه حاله (كثير من قصص المجموعة تقف عند مشكلات اجتماعية في مقدمتها الفساد و تعرض الجيل الأعظم للاندثار بفعل الزمن وظروف الحياة ).
جو الحرب يعكس التجربة المصرية في الوحدة الوطنية بين طائفتيها الكبريين (المسلمين والمسيحيين )
يتصدر القصة اسم رفقة رزق الله شقيقة باسيلي الضابط المشارك السارد أعمال الحرب والذي استقبله بروح الأخوة الوطنية:” أديت التحية لباسيلي الذى رحب بي وأخذني إلى مكتبه.. رأيته أطول كثيرا وأنحف. لعل الحياة العسكرية هى السبب..لاحظ باسيلي أني أكلمه بطريقة رسمية. فأشار محذرا وهو يقول: أنا الملازم أول باسيلي..لكني فى هذا المكتب وفى الملجأ الذى أنام فيه.. أنا باسيلي بن عمك رزق الله..حمدا لله على سلامتك يا حسين.. لا تحمل هما. تملكتني الفرحة..وخفق قلبى عندما تذكرت رفقة والقبلة الحانية. انتبهت على صوته يأمرنى بود: انصراف يا جندي. فانصرفت وقد تبددت الغربة التى كانت تغشى بصري” (ص 29 من المجموعة ) (يكشف السارد عن اسمه للمرة الأولى في القصة التي يتصدرها اسم رفقة التي تعد القصة الوحيدة التي تحمل اسم شخصية من شخصيات القصص جميعها مما يعني مساحة من التوازن بين قطبي الأمة كما يعني إبرازا لمساحات الالتقاء والتفاهم بين الأفراد تعبيرا عن التفاهم بين الجماعة الإنسانية في حسها الوطني )، والكاتب يجمع بين القطبين الوطنيين عبر أشخاص محددة تتكرر في أعماله (تأكيدا على هذه الفكرة تطالعنا شخصية النقيب بنيامين في روايته قيد النشر ).
السارد يختار بعناية مكان اللقاء (المطار ) بوصفه مكان عبور وليس مكان استقرار، في أماكن الاستقرار تقل نسبة المصادفة خلافا لأمكنة العبور،لا يلتقيك أحدهم مصادفة في بيتك مثلا، فكلما تجاوزت الأمكنة خصوصيتها وأصبحت عمومية تتسع مجالات وقوع المصادفات، والمكان هنا بصفاته هذه يعني حالة التشتت وعدم الاستقرار لهذا الجيل (عبر عدد من الإشارات يشير السارد إلى تشتت جيل أكتوبر وصانعي النصر مرة بمحاولته البحث عن اللواء قائد لوائه المدرع، ومرة بلقاء المصادفة بين السارد وباسيلي المقاتل وهو في مستواه الأعمق يعني تشتت روح أكتوبر نفسها ).هامش لا يخرج عن النص: ماذا لو نجحنا الآن أن نستعيد روح أكتوبر 1973 بالتأكيد سيساعد هذا على وضع أفضل يليق بوطن عظيم.
اللقاء بين ممثلي القطبين (الجندي حسين والضابط باسيلي ) يتم ثلاث مرات تقوم منها اثنتان على المصادفة:
- الأولى في الوحدة العسكرية، حيث الضابط مستقر في وحدته والجندي قادم من عالم مغاير لعالم الجندية.
- الثانية في المستشفى حيث يسعى الجندي لزيارة الضابط المصاب حيث الضابط مستقر مكانا وغير مستقر نفسيا بفعل الإصابة.
- الثالثة في المطار حيث يتجه الاثنان إلى السفر دون أن تفقد علاقتهما حميميتها مما يعني ثبات العلاقة الإنسانية داخل الاثنين على الرغم من تغير الظروف (الجندي مسافر غير محدد الوجهة والضابط المصاب والمهدد ببتر ساقه يسافر لزيارة رفقة التي يفترسها المرض اللعين ورفقة التي يمكنك اعتبارها رمزا وطنيا أو علامة على شريحة ممن افترسهم المرض تمثل للسارد جانبا من ذاكرته العاطفية ورمزا لعالمه المفتقد والقصة على سبيل المثال لا تشير إلى حياة طبيعية يحياها واحد منهم فلا إشارات إلى زواج أو إنجاب ولا يتحدث أحدهم عن زوجته أو أولاده والمرة الوحيدة التي ورد فيها لفظ “زوجتي ” جاء على لسان اللواء واصفا حاله الراهن وسبب تردده على المكان:” أشار فأتت القهوة. أخذ رشفة ثم قال بأسى: صار غدائي هنا يوميًا بعد أن ماتت زوجتي. الألم الذى بدا على وجهه أوجع قلبي” (ص 21 من المجموعة ).
إنها الوجه الآخر لحياة الميدان أو المرحلة التالية (النتيجة غير الطبيعية لحياة صناع التاريخ الحديث ) أن يعيش البطال حياة مجتمع لا يستطيع الحفاظ على تاريخه المجيد، مجتمع يعيش حالة من الخسوف ليس بوصفه ظاهرة فلكية بقدر ماهي ظاهرة إنسانية مهد لها السارد منذ البداية، منذ أن طرح مجموعة الأوضاع التي يعيشها الأبطال وحتى يصل إلى طرح واحد من أهم أوجه الحياة المصرية ممثلا في فساد الحياة الجامعية وفساد الكبار المتطلعين إلى الصعود على حساب الآخرين والذي تنفرد قصة ” أنشوطة الوجد ” بالتعبير عن واقع تنتابه عدد من العقد التي يتفكك من خلالها الأنشوطة إلى عدد من الفواصل السردية: عقدة أولى – عقدة ثانية – عقدة ناعمة – عقدة البداية – عقدة غليظة – عقدة أخيرة – عقدة الهاوية، وجميعها تصب في فكرة الخسوف الاجتماعي تلك الظاهرة التي تجعل الجميع يصاب بالإعياء في النهاية مع اختلاف الأسباب، جيل أكتوبر وصناع التاريخ تتدهور أحوالهم بفعل الزمن وحالتهم النفسية لمعاينتهم أحلامهم تتبدد
من زاويتين تكتسب تجربة محمود عرفات أهميتها:
- كونه منتميا للجيل الأعظم في تاريخ مصر الحديث، جيل أكتوبر.
- كونه موهوبا يمتلك قدرة الكاتب المتابع – بوعي – مراحل التجربة المصرية الحديثة دون ادعاء ومدار وعيه الوقوف على التجربة الأكتوبرية والوعي بأهمية تسجيلها وهو ما تفتقده هذه التجربة على عدد من المستويات فهناك مئات القصص البطولية التي لم تسجل والتي تعد بمثابة المهمة القومية والوطنية والإنسانية لمن شاركوا ممن يمتلكون موهبة الكتابة، وتنبهنا تجربة الكاتب إلى أهمية جمع هذا التراث المهدد بالاندثار.
