منذ أن طرح جوستاف فلوبير عبارته الشهيرة: “أنا إيما بوفاري” والأمر ملتبسٌ علينا، فهل الكاتب يكتب انطلاقاً من نوعه كذكرٍ أو أنثى، أم عليه أن يتجاوز هذا النوع ليطفو فوقه ويعمل من زاوية عابرة للنوع أو تكاد؟ ثم أسئلة أخرى أكثر تواتراً ورثاثة: هل هناك حقاً ما يُسمى بالكتابة النسوية؟ وإذا كان فهل تقتصر على كتابات المرأة فقط أم يمكن أن تكون هناك كتابة نسوية يكتبها رجل؟ أظن أن مجموعة بيريود لمحمد متولي تجيب على الأقل عن هذا السؤال الأخير، فهي كتاب يمكن اعتباره نسوياً بامتياز لو تغاضينا مؤقتاً عما قد نعنيه بذلك، لا يتردد في إعلان انحيازه للمرأة في جميع الأحوال والتجليات، في مواجهة مجتمع ذكوري يقهرها ليل نهار وبكل وسيلة ممكنة.
يتلمس محمد متولي في 18 قصة قصيرة مكتوبة بسهولة ورشاقة وخفة، حالات مختلفة من الصمت الأنثوي، الذي يكتنز بداخله صخب وضجيج ومشاعر وأفكار لا يتسع لها مجال مجتمعنا الشرقي الخانق بحيث يمكن أن تعبر عنها صاحبتها. تكاد تكون الأنثى في جميع القصص صورة متكررة، البنت ثم المرأة، العاشقة والزوجة، إلخ. كلهن متشابهات، بلا ملامح شخصية وخاصة لكلٍ منهن. طبيعة اللحظة فقط هي التي تختلف، فكأننا أمام صورة مفهومية عامة للمرأة، فكرة، نمط مسبق، فقادنا هذا إلى اختزال الشخصية الإنسانية إلى رمز في قضية عامة، وهو ما قاد بالتالي إلى اختزال وتنميط صورة الرجل. لكننا تعلمنا ومازلنا نتعلم أن الفن أبعد ما يكون عن الإحصاءات ونظريات العلوم الإنسانية مهما تجملت بلغة الاحتمالات والظنون، وعن المقولات المفهومية والإيديولوجية، ولا يصحّ بالمرة أن يكون مجرد تجسيد لتلك المقولات أو انعكاس للعقيدة مهما كانت تلك العقيدة صادقة وشريفة ومخلصة النوايا.
صحيح أننا أمام كاتب انتصر على نوعه الخاص، وعلى حدود هذا النوع الذي يمنحه المجتمع والدين تفوقاً وامتيازات لا يمكن إنكارها، ونجح أيضاً في أن ينصت إلى النوع الآخر المستضعف غالباً، ويستخرج صوته على سطوره، ولكن هذا الإنصات لم يكن بالحق تماهياً، على طريقة فلوبير –بوفاري، بل كان إنصات المعالج لحالته والباحث لموضوعه، فمازال يمكننا رؤية كاتبنا الشاب في موقع أعلى حتى وهو يمنح صوته لمن لا صوت لهن، أو من يظنهن كذلك.
ولمسة الشفقة على أوضاعهن لا تكاد تغيب، فهنّ أغلب الوقت ضحايا، فلا وجود لنموذج سلبي واحد للمرأة خلال الثماني عشر قصة المخصصة كلها للحظات أنثوية حميمة وخاصة. غالباً رقيقات وذكيات ومشتهيات، لعلّ هذه الدرجة المتطرفة من الانحياز هي ما أبعدت القصص عن التماس أسباب الفن واللعب والتجريب، وبالطبع عن الرؤية الصافية، وأوقعتها في مهاجمة الرجل كنوع أغلب الوقت. ما زاد الطين بلة هو اللغة الرومانسية المسرفة في أغلب قصص المجموعة، وكأن الكتابة عن المرأة أو اتخاذ صوتها لا بدّ أن ينتج أتوماتيكياً كتابة رومانسية ناعمة، لا تخلو بالطبع من لمسات حسية عفيفة للغاية مع هذا.
وكلما ابتعدت بعض قصص المجموعة عن هذه الهيمان الرومانسي والانحياز الأعمى لنوعٍ ضد نوعٍ آخر اقتربت من حالات درامية واضحة، وجاءت أطول وأكثر تماسكاً، ومضى فيها حوارٌ معقول وحيوي، يوحي لنا ربما بجدارة كاتب المجموعة بممارسة كتابة السيناريو. من المزايا القليلة الأخرى في المجموعة هو تعريض الرجل كجسد لضوء التغزّل به واشتهاءه، وكسر حالة الخشونة والمهابة وتحويله إلى فتنة وحافز للشهوة بداخل المرأة.
استطاع محمد متولي أن يقبض على 18 لحظة أنثوية بامتياز، سواء ما وقع منها في فخ النمط الجاهز أو ما انداح في بحور الرومانتيكية السهلة، بلغة بسيطة يمكن لأي قارئ التعامل معها واستيعابها، ويحمد له على الأقل عدم انجراره إلى قضايا مبتذلة فنياً (كليشهات) عند تناول عالم المرأة مثل الختان والعنف الأسري والعذرية، فقد كان أكثر اهتماماً بالمسائل الصغيرة، وهذا وحده خيرٌ وبركة، لكن الإيمان كثيراً ما يقتل الفن.