بدايةً من مطلع الألفية الثالثة، ولسبع سنوات، واصل محمد ربيع هجماته الروائية علي فن الرواية التقليدي، إلي أن سلبنا الموت حضوره الحي والمُراوغ والمختلف، في حادثة عبثية يوم 3 مارس 2008، وهو في الثالثة والثلاثين تقريباً، وكان أيامها بدأ يعمل بالصحافة الأدبية بصحيفة البديل المأسوف عليها كذلك، . إلا أن ربيع لم يترك لنا الكثير في بلاط صاحبة الجلالة، وكان ميراثه الأساسي لنا هو خمس روايات، استطاع أن يؤمن لها _ خلال حياته _ القدر الأقصي من الحرية في التفكير والحركة والكتابة، عن طريق نشرها بنفسه في طبعات محدودة، إدراكاً منه لعبثية محاولة نشرها في سلاسل أدبية حكومية أو حتي في دور نشر خاصة. وحول ذلك يعلق ربيع في حوارٍ قديم معه: “طب قوللي انت أعمل ايه اذا كان اللي ممكن يطبعوا لي رواياتي جبناء ومرعوبين من خيالهم وبيمشوا يبصوا حواليهم وتلاقيهم ماشيين لازقين في الحيطان، طب دول أتعامل معاهم ازاي، أنا لو عرضت علي أي دار نشر في مصر أو حتي لبنان رواية زي البابا مثلا ممكن صاحب الدار ينزف من مناخيره أو يصاب بجلطة أو ينشل. وعدم وجود أي عمار بيني وبين النشر الرسمي لا يشغلني لأن في النشر الخاص بطريقتي بكون متحكم تماما في كتاباتي ولا واحد حمار يطلب مني حذف أو اضافة أو تغيير فيما أكتبه!” هذه الروح المتهكمة والخفيفة ليست غريبة علي محمد ربيع الشخص والروائي، ولعله سيعلق بكلامٍ لن يختلف كثيراً عما سبق إذا علم بأن جميع من وعدوا بنشر أعماله بعد وفاته لم يحركوا إصبعاً لذلك، رغم أن مسألة حقوق النشر والتفاهم مع أسرته لا تمثل عائقاً فعلياً أمام ذلك. أعمال ربيع الخمسة منشورة علي الانترنت، في أكثر من منتدي وعلي مدونة باسمه أنشأها أحد الأصدقاء بعد وفاته مباشرة.
خصوصية تجربة محمد ربيع الروائية مسألة لا تحتاج منا لتأكيد بعد شهادات بعض كبار الروائيين والنقاد مثل أ. صنع الله إبراهيم و د. محمد بدوي، ينبع تميز ربيع في الأساس من قتله للرقيب الداخلي الذي يسكننا جميعاً، حين قرر أن يكتب بلغة أخري عن أشياء أخري، أن يكتب رواية أخري غير تلك التي يعلموننا قواعدها ومبادئها كأنها مقدسات. نجاح ربيع في التخلص من هذا الرقيب الداخلي أتاح له اكتشاف الطفل المدهش والساحر في نفسه، والذي لم يأل جهداً في السخرية والتهكم من الواقع وكل ما يمثل مؤسسة راسخة الأساس، لا تبدأ من الدولة ولا تنتهي عند الأسرة أو المؤسسة الدينية، وخصوصاً في تجلياتها المتشددة الفجة.
في أولي روايات ربيع، موسيقي تصويرية، لم يكن قد تبين بعد لغته الروائية الخاصة ولا العوالم التي سوف يكرس لها الأعمال التالية، غير أنها عكست مناطق شخصية حميمة في شخصه، إنها كتابة طيبة تشبه كتابات عشرات من أبناء جيله، عن قصة حب _ قد تكون تجربة شخصية _ بين طالبين جامعيين، مسلم ومسيحية، ولنلحظ أن عالم المسيحيين المصريين هو العالم المفضل لدي ربيع في أغلب رواياته، دون أن يكون لذلك أية دلالات كبيرة، ولو شئنا التأويل فكأنه ينتقم لهم من التهميش المجتمعي والفني بوضعهم علي الدوام في صدارة رواياته، وكأن مصر التي يكتب عنها ربيع _ في بعض الأحيان _ خلت من مسلميها، ومع هذا فهذه ليست سوي أهون مفارقات ربيع وغرائب كتابته. في هذه الرواية تجلي عشق محمد ربيع للموسيقي، بتوزيع فصول الكتاب علي آلات موسيقية مختلفة، وكأنها سيمفونية هو قائدها وملحنها، كما أنه كشف بوضوح عن ولعه بالملك محمد منير وخصوصية موسيقاه المتمردة والأصيلة، ذلك الولع الذي عرفه جيداً كل المقربين من ربيع.
في عمله التالي “عموم الليالي التي” كان قد ركز انتباهه علي العالم الديني المسيحي، وتعامل معه بخفةٍ ومرح، منتزعاً عنه هالة الخوف والإجلال، وهو ما لم يفعله _ في حدود علمي _ أي روائي مصري، مسلماً كان أم قبطياً، حتي الآن. وانزاحت الغيوم الرومانتيكية والتقاسيم الموسيقية، لتخلو الساحة قليلاً للعب والسخرية، بلغةٍ تكاد تكون ركيكة بالمقاييس التقليدية، ليس لمجرد اختلاط الفصحي بالعامية، ولكن أساساً لأن منطق بناء الجملة وتركيبها لا ينتمي انتماءً خالصاً لا للفصحي ولا للعامية، كما في هذا المثال العشوائي من الصفحة الأولي من روايته الثانية عموم الليالي التي: “انني لو كباقي الناس، يمنعني أن أوجد بينهم دون أن أثير بوجودي قلقاً وتحفظات وأحدث ربكة ولو أنني استطيع التحرك بحرية وسلاسة كما يفعلون، لو انني أقدر علي فعل ما يفعلون دون أن ألفي مليون مستنكر ومليون منتقد وكذا مليون آخرين يصطادون في الماء العكر، لو يحدث ذلك ويتاح لي لحاربت هذه المشكلة بمعننة وروقان بال وجبت أمها الأرض:- حافظ علي كلامك يا إبرام، حد يسمعك تبقي حكاية.”
مع رواياته التالية تجذرت هذه اللغة أو هذه الطريقة الخاصة في الكتابة السردية، مع إضافات جديدة أكثرها لفتاً للانتباه هي اللغة المكشوفة، إن صح هذا التعبير، التي لا تخجل من تسجيل الكلام القبيح (ما يعبتره البعض قبيحاً) وتسمية الأشياء بأسمائها كما نسمعها في حياتنا اليومية. هذه اللغة المشكوفة كانت تقرّب القاريء بطريقة أو بأخري من الرواية، علي عكس المتوقع، فكأنه يجلس مع صديق لا يتورع عن النطق بأفحش الأقوال، ربما لتسلية الصديق وهدم الحواجز والإضحاك وأيضاً تخريب كل معني وقور، كل التزام أخلاقي هش منبته الخوف من الآخرين أو من عقوبات المؤسسة بأشكالها. ما نعتبره قبيحاً.
وربما تزامناً مع محمد ربيع كتب مصطفي الناغي، التسعيني الجميل، روايات قليلة بهذه اللغة نفسها ولا يجد بالطبع من ينشرها له ولا أظنه يطمح إلي قراء أكثر من أصدقائه المبدعين، ومهما اختلفنا حول القيمة الأدبية والفنية _ وهو اختلاف مشروع دائماً وابداً – لأعمال الناغي أو الربيع أو غيرهما، لا يمكن الاختلاف حول حق أي مبدع بأن يقول ما يريد وكما يريد، مهما اعتبره الكهنة والسدنة مجافياً للذوق أو إباحياً أو مجدفاً كافراً، التهم نفسها التي طاردت ربيع في حياته، حتي بلغت مستوي المطاردة الأمنية في بني سويف.
إلي جانب اللغة المكشوفة والصريحة، شن محمد ربيع في أغلب رواياته حرباً شرسة علي الجدية بكل رموزها، لا يمكن ألا يستغرق في الضحك من يقرأ مثلاً مؤامرة علي السيدة صنع الله، حيث يلتحم تبجيل العاشق لمعشوقته السيدة صنع الله، ونكران كل قبيح في حقها، بممارسات هذه المعشوقة الجنسية شديدة السخاء مع الجميع. أو سخريته المريرة من المتشددين والأصوليين في آخر أعماله ناس أسمهان عزيز السريين، متخيلاً تفاصيل الحياة الجنسية لابنة أمير جماعة الإخوان المؤمنين، ومفارقة استخدام الإيمان الشكلي والمحفوظات الدينية كغطاء شفاف لأغرب الأفعال والفانتازيات الجنسية. لا يمكن الخروج بهذه التأويلات مطمئنين بعد قراءة روايات ربيع، لأنه لا يشير لها بالتصريح أو التلميح، بما أنه يستسلم كليةً للعبة الكتابة ومتعة الحكي المفارق والمجنون، فلا يبني ليخبرنا بموعظة نهائية في نهاية العمل، بل يبني ليهدم ويخرب الأبنية المستقرة الراسخة في وعينا ولاوعينا أيضاً، مخلصاً لنهج الرواد الحقيقيين وهو الخروج علي الجماعة والإجماع، بلا عودة.
لنك مدونة محمد ربيع التي يمكن قراءة أغلب أعماله منها: