محمد خير .. لا للتأقلم

محمد خير .. لا للتأقلم
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

زينب خير

أن تقرأ بيت شعر .. أن يعجبك رسم مشهد فى قصة قصيرة .. أن تنبهر بفصل في رواية .. لكن أن يكون ذلك هو نفس الحدث الذى شاهدته، فتدركك الدهشة بشكل مختلف حيث كنت شريكاً فى شراء حبات فلفل قصيدة (سهو)، وأنت الشخص الذى ارتجف خوفاً فى قصيدته من أشباح الأحبة (حقيقة)، وترى كيف رسم محمد خير المشهد بخياله الخاص، وكيف نحته فى ذاكرته لسنوات طوال وركبه فى حدث مختلف تمام، كيف يدرك المعنى بعين أخرى ويركبه فى لوحات عالمه الخاص.

أذكر جيداً تلك اللحظة عام 1983 فى منزلنا ببغداد، عندما كان عمره لم يتجاوز الخمس سنوات وهو يقف أمام الراديو الروسى الضخم على ضوء شمعة ولا يحرك ساكنا، عندما سألته لماذا تقف هكذا أجاب: “مستنى الفرقة اللى بتغنى لما يخرجوا، أنا اتفرجت عليهم وهمه داخلين الراديو زى النمل”. وكانت هذه الفرقة هى “عفاريت الراديو”.. لقد رآهم بالفعل.

ذهب بنساء العائلة الخالات والجدات فى رحلات للحكى .. يجرب فيها قدرته على صناعة الحكايا، وهو يقف على سور بلكونة فى المصيف، وبعد أن ينتهى ويتأكد من انبهارهن يخبرنا بأنها حكاية من تأليفه.

بدأ مجرباً سيناريوهاته فى تسجيلات عبر شرائط كاسيت يكتبها ويوزع الأدوار بيننا، إخوته وأبناء الجيران ويدربنا ثم نسجل برامج على تيمة برامج الراديو آن ذاك.

ذات نهار كنا نسير مع مجموعة من أصدقائي فى الجامعة، وسبقتنا خطاه، ناديته فردعنى صديقى: اتركيه هو ليس معنا الآن إنه يحفر ما شاهده  فى ذاكرته بطريقته الخاصة، لن تعرفى أى المشاهد التى مرت علينا الآن هى التى رأتها عيناه، هو  Future“محمد فيوتشر” هذا الشاب لا يعيش بيننا، هو يعيش فى اللحظة القادمة التى ىسيكتب  فيها ما يحدث الآن.

بالرغم من  القضايا الكبرى التى حلها فى حياته، إلا أنه لا يزال يحتفظ بنعمة الدهشة أمام حلول الأمور العادية والبسيطة، فترى الحيرة الكبرى على وجهه عندما يسأل ماذا يجب أن يفعل إزاء هذه المناسبة أو تلك، فتنتابنى ضحكات خبيثة وأكتم الاسئلة التى تنتابنى، هل فعلا كل هذا التجهم من أجل أمر يمكن أن يحل فقط فى محل الهدايا الذى تمرعليه مرتين يومياً، لكن واقع الأمر أنه يرى إذا أردت أن تبهج شخصاً ما، فذاك بالضرورة يستلزم جهداً غير عادى، وليس ببساطة زيارة محل الهدايا، بل هو بقدر استطاعاتك أن تبهجه، بنفس قدر خوفه على مشاعر أحدهم، بجملته المعتادة ” بس هو كدة مش هيزعل” .

عن البهجة المفاجئة التى تعتلى وجهه عندما يرى نفس المشهد الذى نراه جميعاً، لكن بعين صانع الحكايا، فيكتسي وجهه بابتسامة طفل، وأكاد أحياناً أن أرى يداه وهى تفرك بعضها بعضاً كمن عثر على كنز لامع وهو يفكر كيف سيحول هذا المشهد حروفاً فى الحكاية.

بسلاسة ممتعة يكتب أحداث حياته مجردة من الزمن ومدموجة مع حكاياته الأخرى، فيجمع ذاك الحدث من عشرين عاماً مع ما حدث من ستة أشهر ويرسم منها مشهدا مستقبليا.

بسيط بقدر استطاعته استقبال  شعره الأبيض فى أوائل الثلاثينات بدون مقاومة ، لايزال يحتفظ بنعمة الاندهاش أمام كل الأمور التى نراها بسيطة وعادية، فلم يسمح لروحه أن تعتاد على المآسي اليومية ولا زال يرفضها كلما حدثت كأنها تحدث لأول مرة .. فهو صاحب شعار “لا للتأقلم” الذى أطلقه بسبب تكرار انقطاع الكهرباء وغرق القاهرة فى الظلام، كان يقصد به لا للظلام بكل أشكاله فى العقل والحياة والروح .

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم