محمد الشحات.. الشاعر الدؤوب: قراءة في ديوانه “ملامحُ ظِلّي”

محمد الشحات، ملامح ظلي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. إبراهيم منصور

   ولد محمد الشحات في قرية الضهرية التابعة لمركز شربين محافظة الدقهلية، عام ١٩٥٤م، لكن أسرته لم تكن تمتهن فلاحة الأرض، بل حرفة البناء، لذلك ارتحلت الأسرة إلى مدينة القاهرة، هناك تعلم الشحات في جامعة القاهرة، فتخرج في قسم اللغة العربية، وعمل في الصحافة محررا رياضيا.

   في عام ١٩٧٤ نشرت “دار الحرية” أول ديوان للشاعر محمد الشحات بعنوان “الدوران حول الرأس الفارغ” ، يقول الشاعر في القصيدة التي حمل اسمها الديوان:

أنزعُ رأسي

 من فوق العُنُقِ الدمويّ

الغائر في أوصالي

وأنازلُهُ في حرْبٍ أبديّة

   في هذه القصيدة تبدو الحيرة التي قد نسميها “وجودية” أي اغتراب وقلق، وسيبقى هذا النمط مسيطرا على شعر الشاعر حتى آخر ديوان من دواوينه، لكن ما لفتني في هذا الديوان، هو تأثر الشاعر بشعر صلاح عبد الصبور (١٩٣١- ١٩٨١م) فالمعجم الشعري لصلاح عبد الصبور بارز جدا، حيث نجد كلمات “الرأس، أبدية، الموتى، الجوع، المرض، الإنسان، مدن الحكمة، السفر، الاسم، طول العمر، الليل، التكوين، الطفل”

    بدأ محمد الشحات كتابة الشعر قبل سن العشرين، وظل حتى اليوم مواظبا على كتابة القصائد ونشرها، و هو قد انقطع عن كتابة الشعر عشرين عاما، فقد نشر ديوان “كثيرة هزائمي” عام ١٩٩٠، وبعده ديوان “المترو لا يقف في ميدان التحرير” نشره في عام ٢٠١٢م . ومع ذلك فإنه حين جمع شعره بلغ عشرين ديوانا،  جمعها في أربعة مجلدات كبيرة، نشرتها دار الأدهم ٢٠٢١م، وهذه المجلدات الأربعة لا تحوي كل شعره، فالديوان الذي نقرأه هنا “ملامح ظِلّي” نشرته الهيئة العامة للكتاب ٢٠٢١م، ولم يدخل في عداد المجلدات الأربعة. إن نظرة على حجم هذه المجلدات وعدد الدواوين ومجموع القصائد، يجعلنا نقطع بأن محمد الشحات هو أغزر شعراء التفعيلة  العرب إنتاجا.

   إن الشاعر مشغول بمعنى الحياة، وبالشعر، وقد ظهر ذلك في عتبات  نصه الجديد، فالعنوان “ملامح ظلي” فيه إشارة إلى الأصل والصورة، في زمن صارت الإنسانية رهنا بما تفعله وسائل الإعلام ، ومنها وسائل التواصل الاجتماعي، فصورة الإنسان لم تعد فقط ما يصدر عنه من فعل أو قول، بل ما تنتجه تلك الوسائل والوسائط من صور وملامح وظلال. أما الإهداء وهو العتبة الثانية في الديوان، فقد ظهر فيه الاهتمام بالشعر، وهل الشعر إلا كلمات؟ لذلك كتب الشاعر الإهداء على النحو التالي “إلى حروف الأبجدية التي تمرّ بقلوبنا فتخرج كلمات متدفقة رقراقة كيما تصل إلى عقول وقلوب الآخرين” فهذا هو الشعر ولا شيء غير الشعر، لكن الشاعر يريد لشعره أن يصل إلى المتلقين، وأن يؤثر  في قلوبهم وعقولهم على السواء.

  في القصيدة الأولى “محاوراتي مع ظِلّي” يقول الشاعر:

“كنتُ أحاولُ أن أتركَ ظلّي

يجلسَ خَلْفي

كيما يرقبَ ما يجري

حتى حين أعودُ إليه

فيخبرني

طبطبتُ على كتفيه

وأسرعتُ

لعلّي ألحقَ بقطار الرَّغبة

منكسرا عدتُ

وما إنْ نظر إليّ

حتى انسحبَ

يجرّرُ خيبتَهُ”

إنها ليست محاورة، بل مراقبة للظل وهو يتحرك محاولا أن يستقل عن صاحبه، لكن النهاية لم تكن مرضية:

أعلن ظلي رغبته

في أن يخرج منفردا

…….

أوقفه الشرطي

وأجلسه كي يتفحص أوراق هُويته

من أين أتيتَ؟

وكيف خرجتَ؟

لا يمكنك التجوال بمفردك

وكبلّه”

 إنها حال الشاعر، بل هي حال كل حُرّ يريد أن يتفلت من السجن، سجن التقاليد والعادات، أو حتى سجن الجسد، فيواجه بمن يوقفه ويمنعه من الانفراد ومن الحرية، يأخذ بخناقه ويعيده إلى سجنه القديم.

  سوف يكمل الشاعر محاورته مع ظله الذي هو نفسه المنقسمة، فيذكرنا بديوانه الأول القديم جدا “الدوران حول الرأس الفارغ” فالفكرة القديمة عن انقسام الذات ما تزال تستهوي الشاعر حتى اليوم. لكن الشاعر لم يطوّر أدواته، فمازال يستغرق في الوصف فيتتبع كل فعل، وكل حركة، وكل إشارة، ومازال أسيرا لنمط الجملة الشعرية التي كان يكتبها شاعر التفعيلة القديم، فيكرر صيغا مثل “كيما” و”يظن بأن” و”خفت بأن” و”ما قد بقي” تكرارا غير مبرر إلا بسبب الانقياد للوزن.

وفي قصيدة “العودة إلى وجهي” تعاود الشاعر فكرة الانقسام، انقسام الذات واغترابها:

حين أعودُ إلى بيتي

أخلعُ عني وجهي

وأعلّقه بركنٍ قرب الباب

حتى لا أنساه صباحا

وكما انتهت قصيدة “محاوراتي مع ظلي” بسَجن الظل ومنعه من الحركة، فإن الوجه هنا قد اغترب عن صاحبه، حتى صار يشيح عنه، ويوشك أن يهجره فرارا منه وهربا.

  خبرة الشاعر الطويلة المتراكمة، جعلته ينوّع في أنماط الكتابة الشعرية، من المحاورة، إلى التكنيك السينمائي، كما في قصيدة “مشاهد من رحلةٍ لم ترُقْهُ” حيث تبدأ القصيدة بمقطع تمييزه، حسب مصطلحات السينما “نهار خارجي”:

العائدون من المعارك

أنهكتهم رجفة الأعضاء

حين تحسّسوا

ما قد بقي

فتثاقلوا

كيما يعيدوا ملامح

رحلوا بها”

فالمشهد الذي تصوره القصيدة تحت شمس النهار الخارجي هو مشهد من الذكريات

أما مشاهد “النهار الداخلي” فتبدأ هكذا:

“يا لهفتي

ولَدِي يعلق شارةً

والطفل يحبو

وصغيرةٌ فكّت ضفائرها

وروائح هبت من الأطباق”

وهو مشهد من الزمن الحاضر، لكن المشاهد التي تصورها قصيدة “مشاهد من رحلة لم ترقه” يكمل بعضها بعضا، فهو “فيلم قصير” يعرض مشاهد متقطعة من حياة، والرحلة هي رحلة الشاعر نفسه.

   أما قصيدة “الخرس الزوجي” ففيها يفلت الشعر من يد الشاعر، مثلما أفلت في قصائد أخرى لم يتقن الشاعر مراجعتها.

في نهاية ديوان “ملامح ظلي” نلتقي بقصيدة “رتب أوراق معارفه” وفيها يحاول الشاعر محاكاة لغة التصوف والعرفان، فيذكرنا بواحد من الملهمين الكبار في لغة التصوف، التي هي لغة شعرية بامتياز، إنه محمد ابن عبد الجبار النّفّري، صاحب كتاب “المواقف والمخاطبات“، يقول محمد الشحات :

أوقفه العارف والمستعرف

وضعيف أوقفه ومستضعف

فهي محاولة من الشاعر أن يطرق بستان “المعرفة” التي هي نصف الطريق  لدى الصوفية، ونصفه الآخر “الحب” وهذا إقدام من الشاعر وإصرار على السير في طريق الشعر بلا كلل ولا ملل، فهو كما قلنا من أسرة بنائين، والبناءون عادة  لا يملون.

 

 

مقالات من نفس القسم