د. أماني فؤاد
يقدم هاني عبد المريد في نصه الأخير “محاولة الإيقاع بشبح” الصادر عن الدار المصرية اللبنانية تجربة روائية تستند علي الغرائبي والمتخيل مجددا، يجسد الحياة بوصفها أثرا غير مكتمل، مبهما، وجودا شبحيا يحمل غرابته ويدفع بقدر كبير من التساؤلات؛ من أجل ابتداع واقع فني يبتعد عن النمطية،بنيةسردية لواقع حياة عجيب يبحث فيه الروائي من خلال عملية الكتابة عن لحظته الفنية المغايرة، لكنه يُضمّنها رؤيته للحياة التي يتعايش فيها الواقعي والعجائبي.
يُبرز نص »محاولة الإيقاع بشبح» مع سرديات الكاتب السابقة: »إغماءة داخل تابوت»، »عمود رخامي في منتصف الحلبة» ، »شجرة جافة للصلب»، »كيرياليسون» ، »أساطير الأولين»، »أنا العالم»، »تدريجيا وببطء» توجه الروائي إلي الفانتازيا وما تتيحه من عوالم متخيلة واسعة تتجاوز تكلسات الواقع وجموده وتكرار أحداثه وأفكاره، هذه العوالم الغرائبية التي تناوش الواقع وتخلخل صلابته تومئ بإمكانية تخيل عالم آخر، يتضمن وقائع وأشكالاً مغايرة، وهو ما يهز تأبيد الصور الجامدة للوجود، ويزحزح سلطة القديم والمستقر والراسخ، كما يفتح الأذهان علي إمكانية القفز علي كل أشكال التيبس التي تصيب الفن ومذاهبه وأنواعه، كما تصيب الواقع، فتدفع بنوع من الشغف.
سحر الحكايات
يتبادل السرد في الرواية صوتين: الابن يامن، والأم هانم، بلا عناوين سوي أرقام تتوالي، ويبدو النص كأنه منقسم إلي عالمين، في المدينة الساحلية التي لا يهبها الروائي اسما، حيث الحدث الغريب السري الخاص بأسرة هانم ومرزوق عندما يتحول ثلاثة أفراد من الأسرة إلي ثلاث دمي من المطاط »مرزوق، مازن، فريدة» الأب، والابن الأكبر، والبنت الصغيرة، وخوفا من احتمالية أن تلحق يامن تلك اللعنة تأخذه الأم وتسافر إلي القاهرة في منطقة بيت السرايات لتتركه عند أخيها يونس شبه الضرير بحجة أنه سيعينه علي الحياة نظرا لظروفه، تبدأ حياة يامن مع خاله وعالمه القاتم المحدود، والذي سيتسع أيضا بحيلة من الحيل، فيبتكر الخال لعبة قوامها اللغة، من خلالها يعيدا تعريفا لمعاني والموجودات والحقائق، ويقصون الحكايات حولها مستعينين بعوالم المجاز ليدفعا بالخيال إلي الواقع ويحاربون فقره وقتامته.
تُعين اللغة التي تعلمها »يامن»من خاله »يونس» علي وصف »فوفا» العروس التي تسكن في جوار يونس مباشرة، حيث أصبحت تفاصيل حياتها اليومية هي الرابط الذي يُشعر الخال بطعم الحياة ودفئها، صوتها، وحركتها، والصباح الذي تلقيه للخال، كما أصبح يامن هو العين التي يري بها يونس جارته بعد أن دربه خاله علي الوصف، وعمل علي تقوية اللغة لديه من خلال لعبة تعريف المفردات التي يتبادلون فيها وصف الأشياء وحكيها.
برجوع هانم من القاهرة إلي أسرتها يبدأ صراعها لمحاولة استعادة الحياة الطبيعية إلي زوجها وولديها، تعمل وتعد الوجبات وتوزعها، ثم تجلس للدمي الثلاث لتقص عليهم الحكايات، تكتشف مع الوقت أن الحكايات هي التي ترمم تشققات أجسادهم المطاطية فيظل لديها أمل عودتهم لطبيعتهم البشرية.
يشكّل الروائي شخصية هانم في الرواية خليطاً من شخصية »شهرزاد» التي تحيل إلي رؤية للعالم تجعل الحكايات في بؤرة الحياة وشفاء لمعضلاتها، و»إيزيس» حيث تجمع ما تفتت من ذراع زوجها وتضعه في إناء إلي أن يحين لحظة عودته إلي الحياة الطبيعية، ثم تستعير ثانية فتنة القص وطقسه السحري الذي تنقله عن السيدة العجوز لتستمر الحكايات فيبقي ماء الحياة يسري في أجسادهم، لكن تظل هناك حكاية غائبة يجب أن تقصها هانم لتعود الروح إلي زوجها وابنها وابنتها، تلك الحكاية لا تعرفها هانم ولا العجوز التي نبت لها ريش، وهو ما يومئ إليه الكاتب بدوام احتياج البشر للحكايات لتظل أرواحهم يقظة وإنسانية، ليظل هناك محاولة للإيقاع بشبح، الإيقاع بالهارب من الحياة أو الغائم فيها ولا نستطيع القبض عليه أبدا.
وبالرغم من اختلاف العالمين عالم يونس ويامن، وعالم هانم وأسرتها إلا أن بينهما علاقات متواشجة، فالاثنان يشكلان البنية الدالة للنص، حيث تهيمن فاعلية الحكاية، وأثرها السحري علي إعادة بعث الحياة بكل أشكالها في كل ما يفقد حيويته وجدواه، في كل مايصبح مع الوقت سطحياً ومجوفاً ويفتقد الشغف، الحكاية التي تضيء الظلام، وتهيئ حلقة وصل تبدد الموت والتقوقع جانبا ضمن رؤية الكاتب لعلاقة الحكاية بحياة البشر، الحكاية التي تضفي الحميمية علي الحياة التي تكتظ بالأشباح، الحكاية التي تختصر كل فرد في سردية خاصة حتي بعد فنائه، حيث يحكي الكاتب الحقيقي عن جده الذي لم يره فيقول: »لم يبق منه سوي حكايات تتوارثها الأسرة ، ومن خلال تلك الحكايات نجرح الموت والغياب».
بعد أن تذهب »هانم» الأم للسيدة العجوز ذات الشعر الأبيض بعد أن حلمت بها دون معرفتها السابقة ترجع في كل مرة لتعيد علي الدمي الحكايات التي تحكيها لها العجوز لتتحول تدريجيا أجسادهم طبيعية بشرية لكن بلا روح، تفضي العجوز لهانم أن هناك حكايةغائبة وعليها أن تستمر في الحكي إلي أن تأتي تلك الحكاية وتعود إليهم الروح، تُري ما هي تلك الحكاية التي يجب أن تقصها هانم علي أسماعهم، تظل الأم تجرب دون يأس فتستمر حكاياتها.
وأحسب أن المقصود بالشبح في عنوان الرواية الإيقاع بمعني للحياة، هذا المعني المراوغ غير المحدد، الإيقاع بجوهرها أو اللحظات الحقيقية الصادقة فيها، القبض علي الدافع الذي يجعلنا لم نزل نعيشها، المعني الذي لا يجعلنا نتحول إلي دمي من المطاط.
لماذا يؤكد النص علي أثر الحكايات ويجعلها نافذة لحل الكثير من قضايا الإنسان وتبديد اغترابه وتأكيد هويته؟ هل لأن الحكاية تجعلنا نقترب من بعضنا البعض، تجعلنا ننصت ونتعاطف فننمي المشتركات، نتبادل أدوار الحكي فنتقبل ذواتنا كما الآخر، هل لأنها تجعلنا ندرك نسبية الحقائق وتعددها، وتتسع بتجربتنا الفردية حين تنقل لنا تجارب الشخصيات التي ترد فيها فنصبح أكثر وعيا وثراءً، هل لأن الحكايات تقدم لنا الأزمنة والأماكن وكأننا عشنا كل العصور، ووطئت أقدامنا الكرة الأرضية كلها، هل لأن الحكايات تبدد الأشباح أحيانا وتهدهد الذهن البشري وتخدره، حكايات أخري قد تخلق عوالم فنية لم نعهدها فتتوالد الغرابة وتقفز فوق الأطر، تنطلق من خلال عوالم المجاز والخيال والأساطير لتصنع حيوات أخري موازية؟ هل لأن الحكاية لعبة الكاتب التي ندهته إلي عالمها؟
الحكايات هي القوي الناعمة بالغة التأثير في الإنسان، فما تتركه الحكايات والأشعار والموسيقي والفنون التشكيلية والسينما والمسرح وباقي الفنون من قدرة علي التواصل بين البشر واندماج حيواتهم، هو ما تجعل الآخرين يشاركونك الحياة والحلم.
ربما تتساءل سردية هذه الرواية حول الحياة، أهي شبح ؟
لو أردنا أن نعيش حقيقتها علينا أن نحول هذا الهلام الشبحي أو الوجود بلا شكل محدد إلي عوالم نتشاركها، ويظل جوهرها قدراً من الدفء والمشتركات التي تجمع البشر وتتيح قدرا من التناغم، وهوما حاول خلقه وإيجاده يونس حين انتقل يامن للعيش معه.
تبعث سردية الرواية بمجموعة من المعاني الضمنية التي تفهم من الحكايات والمشاهد دون مباشرة القول أو التوجيه من الكاتب من خلال شخصياته، من قبيل أن العيش والتواصل الحقيقي الذي يبحث عنه البشر يتوالد في مناخ حيوي من النقاش وتقريب وجهات النظر، لا في عتمة النكوص والانسحاب والعيش في عالم من الأسرار والغموض. وهنا تتجلي أهمية اللغة وإمكاناتها التعبيرية.
تعلو إنسانية البشر كلما ازدادت قدراتهم علي التعبير عن ذواتهم والآخرين بطرق مختلفة: فنية أو تقريرية، كما تزداد درجة نضج الأفراد بمدي قدرتهم علي المواجهات المتوازنة المسئولة، لا الصمت أو الهروب من المشكلات .
كما أنه لا ضرر من الاختلاف فهو الذي يثري الحياة، ويوفر حالة من الجدل الصحي الذي من خلاله تتطور المعاني وتتجدد أشكال الموجودات. ويسجل الفرد نجاحه الحقيقي حين يتعايش مع المختلف لا المطابق له والمتفق معه.
جدل العلاقة بين الواقع والفانتازيا في بنية الرواية
يشتبك الواقع مع المتخيل الفانتازي في نسق تشكيل وبنية نص »محاولة الإيقاع بشبح»، حيث استمداد المرجعية الحكائية من مناطق توتر الواقع باستجلاء مناطق إشكالية في حياة الشخصيات، مناطق شعورية ومجردة، متخيلة كثيرا لكنها أيضا حقيقية وواقعية، وتعمل علي كشف الأبعاد الإنسانية البينية متعددة الأشكال بين الشخصيات مثل: بنية الفكرة الجوهرية بالرواية، ما الكامن وراء تحول الشخوص إلي دمي؟ كيف نتحول لبشر بلا روح وحياة حقيقية؟ بينيات شفيفة أيضا تتبدي بالنص مثل العلاقة الإنسانية المرهفة بين فوفا ويونس، ثم المشهد الذي صاغه الكاتب بنهاية السرد عندما شعرت فوفا بمدي تعلق يونس بها، وتتبدي أيضا غرابة علاقة فوفا بزوجها، كيف تقبَّل اسمها »فواكه» الذي لم يعرفه قبل يوم الزفاف، وكيف تشكّل رد فعله في معاملته لها علي ضوء اسمها وما فعله معها وحدد شكل علاقتهما الجنسية، أو علاقة السيدة العجوز ذات الشعر الأبيض بمرزوق الأب الذي تحول،وعدم ارتياحها له، وعلاقة هانم بالعجوز أيضا، ومثل علاقة مرزوق بالسيدات اللاتي يبحث لهن عن عمل، وأيضا علاقة يامن بفوفا وتعلقه بها.
يظل في جميع تلك العلاقات منطقة مبهمة لغرابتها أو شفافيتها الإنسانية، لكنها تحدث، منطقة يعيشها الإنسان تحت مظلة من الشعرية الخاصة لاختلاط مشاعره فيها وخروجها عن القياس المنطقي، وهنا يأتي دور الفن الذي يلتقط تلك الفرادات الإنسانية والمشاعر البينية الملتبسة فيضعها في السياق الإنساني ويعبر عن ملابساتها.
وتتبدي أنواع من الواقعية بالنص فبجوار واقع حياة الشخوص المتحقق، هناك الواقعية السحرية التي تتكئ علي الموروث الأسطوري والفلكلوري مثل حكاية الرجل الذي عشقته الجنية، يندمج في نص »محاولة الإيقاع بشبح» الواقع والغرائبي سواء كان موروثات الواقعية السحرية التي استقرت بالوعي الجمعي، أو الفانتازيا التي تشكّلها مخيلة الروائي ليخلقوا جميعا نصا روائيا ذا بنية فنية غير نمطية، معادلا لواقع حياة حقيقية، لكنه أكثر حراكا وتخيلا وخروجا علي المألوف.
وبالرغم من فضاء هذه الرواية محدود العوالم، وتقلص عدد أبطال السردية وأحداثهم إلا أن أكثر ما يميز النص قدرته علي تقديم سرد مواز للحياة، حكي يفرد بشراعه في عوالم الخيال ويتسم بالعذوبة المحملة بإنسانيات شفيفة. فمن خلال المواقف التي تتوالي مع حركة الدراما والصراع يقدم الروائي مجموعة من القيم التي تعيد التماسك والارتباط بين البشر بعضهم وبعض، وبينهم وبين الطبيعة، بينهم وبين المعاني والحقائق من قبيل الجنون أو الموت، ويشكل الروائي تلك المواقف مستعينا بالحكايات الغرائبية أو الفكاهة والسخرية والتهكبلا افتعال، بل من خلال حدث أو مشهد بنيته العامة هي ما تحمل تلك المعاني والرسائل الضمنية.
وتترسخ عذوبة هذا النص من خلال عدة آليات رؤيوية وفنية يتسم بها العمل أهمها:
1ــ محو أثر المعني المباشر وتقديمه في مواقف ومشاهد مثل هواية يامن للزراعة والنباتات وكيف أنه يزرع الشجربالشوارع ليستفيد الناس من ظله، وربما لهذا السبب لم يتحول يامن لدمية مطاطية لأن هناك مايربطه بالحياة، أو الحرص علي مد علاقات التواصل بين البشر مثل لعبة اللغة التي ابتكرها يونس ويمارسها مع يامن لتظل المعاني والحكايات بينهما، أو ليجعله يري العالم علي نحو آخر.
2ــ لا يقدم الكاتب السردية في إهاب بكائي، ولا إصرار علي التأكيد علي انتهاك الحياة ووقوع الظلم علي بعض أفرادها، بل قدرة الأبطال علي التعايش والاستمرار والشعور بأهمية الحب والتواصل، فبالرغم من كون يونس ضريراً، ويامن منتزعاً من أسرته، ومن تحول ثلاثة من أسرته إلي دمي مطاطية إلا أن الإرادة الإنسانية والإقبال علي الحياة يغلف إيقاع النص ويعلو علي كل مآسي السردية.
3ــ تأتي العذوبة من اللغة الانسيابية التلقائية، التي تحمل جوهر الشعر في تكويناتها الأسلوبية، اللغة التي تخلق مشاهد ومواقف تدفع بالابتسام والتفكّر.
4ــ من القدرة علي جمع الواقع والمتخيل معا في سبيكة متناغمة، فالمرأة التي نبت لها زغب وريش وأجنحة، وتطعم الطيور، وتتحدث إليهم لا تبدو خارج مشاهد الحياة التي نعيشها بالواقع، وكأن للروائي قدرة علي خلق نماذج بينية من البشر أو يستطيع أن يضيف لهم خصائص من كائنات أخري، فتبدو شخصياته الورقية كأنها نماذج بين بين، بين الواقع والخيال.
5ــ من فتح عوالم التأويل وعدم وضعها في أطر محددة وهو ما يدفع ذهن المتلقي للعمل واستكمال النص من خلال جهازه التخيلي والمعرفي.
6ــ من التناول المرهف مع الجسد والغرائز وتناولهما من منظور فكاهي وإنساني لا يتضمن ابتذالا، فجميع المشاهد التي تتعلق بعلاقة فوفا بزوجها تقدم بشكل فني لا ابتذال به، حتي إن عملية التلصص والوصف التي يقوم بها يامن لخاله يونس تصور أيضا بطريقة حيوية وفي لغة تحمل الحس الفكاهي الراقي.
تتميز أعمال هاني عبد المريد وسط جيله بالقدرة علي ارتياد العوالم الغرائبية والتعامل الفني مع الفنتازيا دون الإغراق في الغرابة أو التجريد، بل دفع الواقع في العمل والسردية بطريقة تحمل الأمل دائما دون الوقوع في شرك اليأس والتشاؤم ، وتحفيز الجوانب الإنسانية والإبقاء علي قدر من القيم التي تنظم حركة الإنسان وعيشه، والقدرة علي التعايش رغم كارثية أحداث الحياة، كما أن لعبد المريد بصمته الخاصة في ابتكار أسلوب أدبي قريب إلي القارئ بعفوية وشعرية في آن واحد معا.
يقدم النص العالم وكأن بيننا وبين الآخرين أشباحا، وجود بلا حياة أو تواصل وتفاعل حقيقيين، لا تتحول إلي حياة حقيقية إلا إذا امتدت بنا الحكايات والمواقف وتبادل الحوار ووجود اللغة التواصلية المبدعة .
الحب والحكايات
ويظل الحب الذي يُبطن العلاقات بين شخوص العمل هو الذي يدفع بالحكايات والتعريفات وقدرات اللغة علي صنع وخلق واقع بأشكال جديدة، كما أن الإصرار علي مواصلة الهدف، وإرادة النجاح والإنجاز، من بُني الرواية المهيمنة، فلقد استمرت هانم تحكي حبا في أسرتها، تحكي الأحداث والوقائع التي مروا بها كأسرة، تحكي من ألف ليلة وليلة، تعيد حكايات المرأة ذات الشعر الأبيض علي أسرتها التي صارت دمي. وحين تعاطفت فوفا مع تعلق يونس بها لم توصد شباكها، وصارت أكثر أريحية، فاستمرت تشغل حياته برائحة عطرها،وروائح طهيها، ومشاهد من حياتها مع زوجها، كما أذاقته جانبا من أنوثتها أيضا وكأنه حلم.
يبدأ النص باللعبة التي اتفق عليها الخال يونس ويامن حيث يذكر أحدهما كلمة فيبدأ الآخر بتعريفها وإعادة صياغتها بالمتخيل والحكايات، فيطلق الخال لفظة شبح مستنفرا ليامن، من هنا تبدأ الحكاية التي يقصها يامن متخذا من الحاضر لحظة انطلاق حين أصبح في كلية الطب ثم عودة إلي »الفلاش باك»،حيث تقنية الزمن الاسترجاعية التي تقص حكايتهم الغرائبية.
قد يتبادر إلي ذهن القارئ السؤال الاجتماعي، لماذا يتحول الناس إلي دمي؟ لم يجب النص عن هذا السؤال رغم مرور سنوات كثيرة علي حادث التحول، ولم نعرف هل وجدت هانم الحكاية التي يمكنها أن تُرجع الروح إلي دمي أسرتها، لكن الكاتب ألمح لعدة احتمالات وراء التحول لدمي مثل أن الإنسان الذي لا رابط قوي بينه وبين الحياة قد يتحول لدمية مطاطية، لدي يامن حديقة من النباتات في شرفته، يراعيها ويعيد زراعة الشتلة التي تكبر في أحد الشوارع لتصبح شجرة فيستظل بها الناس. قد يصبح بعضهم مطاطاً لتحولهم في الحياة لآلات تعمل فقط، وكأنها في سباق لا ينتهي، قد يتحول مرزوق ومازن وفريدة لأنهم وحدهم من شعروا بزلزال لم يشعر به يامن وأمهم. حيث السرد مفتوح علي مسارات تأويل مفتوح ولانهائي، لا يقدم إجابات قاطعة ولا يمتلك الحقيقة بل هناك حقائق واحتمالات، ربما كان من الممكن الاشتغال علي السبب وراء هذا التحول ليصبح أكثر إقناعا للمتلقي.
اللغة في محاولة الإيقاع بشبح
يُطرح في هذا النص علاقة شديدة التركيب بين اللغة والحياة، يعرضها الكاتب بوعي درامي وفني رفيع المستوي، فنحن نعي الحياة باللغة، إذا امتلكنا اللغة خبرنا الحياة، نحن نفهم ذواتنا عندما نصوغ ما بداخلنا باللغة. تقول المرأة التي نبت لها ريش وزغب بعد أن فقدت الذاكرة بعد اكتشافها لخيانة زوجها:» الصدمة جعلتني كمن فقد الذاكرة، لكنه بدا كفقدان لذاكرة التعريفات، أي أنني كنت أتذكر كل الناس من حولي، أتذكر علاقتي بهم وحكاياتي معهم ، تفاصيل حياتي واضحة لي تماما، ولكن كحكايات بلا معني فما فقدت هو معني الأشياء، فلم أكن أعرف مثلا ماذا يعني الحب، الانتماء، التعاون… ، كانت تعريفاته كافية لإعادة الذاكرة إلي، حينها فهمت ما فعل، وعرفت بعدما راجعت المعاني، ونظرت لها من بعيد، أنني بلا حب، وبلا وطن، وبلا حياة حقيقية، أنني محض امرأة وحيدة».
في بنية هذه الرواية تشعر ببعض الحكايات والمشاهد وكأنها نصوص لقصص قصيرة قائمة بذاتها داخل النص الروائي، لكنها تمده ببعض بنيته الدالة مثل: »حكاية الست التي نبت الريش علي جسدها»، أو حكاية ملاك الموت، حكاية الرجل والجنية التي عشقته، تضفي هذه الحكايات طقساً أسطورياً وسحريا علي النص مكتملا، وتكسر أفق التلقي لدي القارئ وتكمل رؤيا شبحية لعالم هذا النص.
تتسم سردية هذا النص الروائي بالانسيابية، يبدو الحكي طبيعيا وتلقائيا بلا تقعر، كأن موهبة الكاتب وفكره اندمجا وانسابا بلا عراقيل توقف تدفقهما وطبيعتهما، سرد السهل الممتنع،حيث تحمل جمله وفقراته أفكارا عميقة عن الحياة، وتشيد ألغازاً و تنزع نحو غير المألوف، ويستخدم الروائي اللهجة العامية في الجمل الحوارية وتتضمن أحيانا شتائم لا تكتمل صيغها تهذيبا، لكنها توحي بطريقة الطبقة الوسطي في الحوار. كما يتضمن السرد نكات تدفع بالكوميديا في صورها الناضجة غير المفتعلة، نظرا لخروجها من موقف أو مشهد، وهوما يوحي بطبيعية الحكاية وواقعيتها، وبيان الجانب خفيف الظل في الشخوص.
ويلحظ في السرد أن كل رسالة مما يود الكاتب أن يتضمنها نصه يضعها في مواقف ومشاهد ومن خلال التقنيات الفنية والسياق المكتمل يتكثف المعني ويتقطر فلا يعود يحمل فجاجة مباشرة الخطاب ولا يقع تحت الينبغيات.
يتنامي شعور بالانتهاك يشمل معظم شخوص النص يونس الذي فقد بصره، يامن الذي اقتلع من أرضه وبيئته ليعيش مع الخال في بيت يتهالك، فوفا التي تعيش مع زوج لا تطيقه هروبا من زوج أمها، مرزوق الذي انتهك حلمه في حرب الأعداء التي أقنعهم بها مدرسهم للتاريخ. في عام 1987 كان مرزوق بالصف الثاني الإعدادي، التقي بسيد مهدي مدرس التاريخ الذي كان مهتما بالقضايا العامة، يطرح مع طلابه قضايا سياسية واجتماعية، وكان لشدة حماسه، وعظم طاقته، وفيض إيمانه بما يقول يؤثر ويقنع من يسمعه
» سيد مهدي استطاع بحسبة بسيطة علي السبورة إقناعهم بأنهم الجيل الذي سيحارب، وأن الحرب آتية لا محالة، وأن السلام هو سلام وهمي، ولابد أن نستعد، كان كلما رأي فعلا تافها من أحد التلاميذ أثناء الحصة يقول: بقي ده واحد هيحارب إسرائيل؟» عاشت كلمات سيد مهدي بداخل مرزوق.
ماهي صفات من آمن بقضية عادلة وأعد نفسه لحرب قادمة مع عدو خارجي احتل أرضه وأرض أشقائه ؟
يوظف الروائي مجموعة من التقنيات السردية التي تجسد الشخوص متوسلا بالخيال وتيار الكتابة الفنتازي، كما يرسم شخوص نصفها من الواقع ونصفها الآخر من التكوينات والأفكار الغرائبية التي لها سمت الفنتازي أو الواقعية السحرية.
ــ كأن النص يدعو بطرقه الفنية وبنيته وما يضمنه من بنية دالة ورؤية للعالم إلي إعادة صياغة الحياة ، إعادة دفع المعاني بالأشياء والقيم والأحداث، إعادة المعاني البكر للمفردات وألا نحصرها في معانيها الضيقة المعتادة، كأنها دعوة لمحاربة العزلة والوحدة والاغتراب، دعوة لإزالة قشور الأشياء المتجمدة ودفع الحياة بها مرة ثانية من خلال الخيالات والحكايات ورؤيتها علي نحو آخر.
يحدث أن تقرأ نصا فتشعر بعده بالقلق ويراودك الخوف، أو أنه اتسع برؤاك ونظرتك للحياة، في نص محاولة الإيقاع بشبح تشعر أن هناك عذوبة إنسانية تتخلل سردية النص حيث مجموعة من القيم الرفيعة التي لا تتولد من المواقف والمشاهد والحكايات التي تتوالي بالنص بلا قصدية مباشرة وهروبا من الخطابية.