“متاهة مريم” بين لوعة الفقد وتناسل الأحلام وتناظر المصائر

"متاهة مريم" بين لوعة الفقد وتناسل الأحلام وتناظر المصائر
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د.صبرى حافظ

 رواية (متاهة مريم) هي الرواية الأولى للكاتبة المصرية الموهوبة منصورة عزالدين بعد مجموعتها القصصية الأولى (ضوء مهتز) التي صدرت عام 2001. وتوشك هذه الرواية الجديدة ـ في مستوى من مستويات المعنى والدلالة فيها ـ أن تكون طالعة من إهاب قصة العنوان في مجموعتها القصصية الأولى تلك، أو تستحضر على الأقل بعض أجوائها ومناخاتها الكثيفة. لكن المهم من الناحية المنطلقية أن هذه الرواية تواصل المنهج السردي الذي بلورته الكاتبة في مجموعتها القصصية الأولى، والذي ينمحي فيه الخيط الفاصل بين الحلم والواقع، وبين الوهم والحقيقة، وبين المتخيل والمعاش التي تعد كلها وجوها متعددة، بل ومتكاملة للتجربة عندها. لكن هذا المنهج يكتسب هنا بعدا فريدا يجعلها من أكثر رويات الجيل الجديد من الكاتبات انشغالا بما دعوته بالهاجس الكياني أو الأنطولوجي الذي تعيد فيه البطلة تمحيص مفردات حياتها من أجل اكتشاف هويتها، أو استيعاب حقيقة تاريخها الشخصي. فالمتاهة التي ينطوي عليها العنوان ليست متاهة مكانية أو جغرافية، ولكنها متاهة كيانية بحق، ولها عدة أبعاد نفسية واجتماعية وحضرية، بل حتى تاريخية. ولذلك فإنها ليست بأي حال من الأحوال من صنع البطلة، أو من بنات خيالها برغم أن الخيال عنصر أساسي في بنية هذا النص السردية. ولكنها متاهة وجودية أي كيانية تجد نفسها فيها دون أي سبيل للخلاص منها. والواقع أن هذه المتاهة التي تؤكد انتماء الرواية إلى طبيعة السرد التسعيني الجديد، هي التي تجعلها في الوقت نفسه إضافة متميزة لروايات كاتبات هذه الموجة الروائية الجديدة مثل مي التلمساني وميرال الطحاوي ونورا أمين وبهيجة حسين وأسماء هاشم وسهام بدوي وغيرهن.

وما يجعل هذه الرواية إضافة ملموسة إلى روايات التسعينات النسائية هي بنيتها السردية الشيقة التي تنطوي على عملية تأنيث الكتابة من ناحية، وفتحها من ناحية أخرى على التاريخ الاجتماعي وعلى البعد الأسطوري في كتابة التجربة الريفية من ناحية أخرى. فهي من روايات التسعينات القليلة التي تكتب القرية في جدلها المستمر مع المدينة، وهي الرواية الأولى التي تكتبها إحدى كاتبات هذا الجيل الجديد عن الريف، باستثناء كتابة التجربة البدوية عند كل من ميرال الطحاوي وأسماء هاشم. وهي في الوقت نفسه رواية عن تناسخ مصائر النساء وتكرارها من جيل إلى آخر دون أمل في التحسن أو التطور. لأن الرواية تكتب لنا متاهتها في تسعة فصول ينقسم كل منها إلى قسمين: ينتمي أولهما إلى حكاية أسرة التاجي الأسطورية، بينما يقدم لنا ثانيهما تفاصيل حياة مريم وتخبطها في متاهتها المغوية. ومن هنا فإن ثمة تناظر بين الماضي الأسطوري والحاضر الملغز، وجدل مستمر بينهما في وقت واحد من خلال هذه البنية الشيقة التي يتفاعل فيها الماضي مع الحاضر ويتخلل كل تفاصيله. وهي بنية تنطوي في وقت واحد على استراتيجيات الاستمرار والقطيعة، وعلى الجدل المستمر بين المتشابهات والمختلفات. فالماضي فيها لا يتحكم في الحاضر، بل يوشك أن يكون مبتوت الصلة به. ولكنه يظل برغم هذه القطيعة البادية شبحا يؤرقه ويمضه ويقض مضجعه، قد يفيدنا أن نعرف شيئا عنه، ولكن هذه المعرفة لا تمكننا من الخروج بالبطلة من المتاهة، وإنما تعمق توغلنا معها في فيافيها وسراديبها الملغزة. وتكشف لنا في الوقت نفسه عن أن لهذه الكتابة الغارقة في بلبال الشاغل الأنطولوجي، المتخبطة دوما في متاهته، أبعادها الاجتماعية والتاريخية الدالة والمراوغة معا.

ومع أن بنية الرواية الجدلية تحتم علينا قراءة التناظر الدال بين القسمين أو بين السردين: السرد الذي يدور في القسم الأول من كل فصل، والذي يمزه النص بطبعه بالبنط الثقيل، وهو لا يتجاوز الصفحة الواحدة في كل فصل، وأحيانا لايزيد عن فقرة واحدة. والسرد التفصيلي الذي يتجاوز المائة صفحة والذي يتكون منه عصب النص وتتخلق عبره متاهته. إلا أن ضرورة فك شفرات النص السردية تتطلب منا تناولهما واحدا وراء الآخر وكأنهما سردين منفصلين لامتصلين، وذلك من أجل وضوح التحليل، ثم بعد ذلك أشير إلى بعض نقاط التقاطع والتداخل والتفاعل بينهما كي نتمكن من استكناه بعض مستويات المعنى المختلفة التي تنطوي علها هذه الرواية. ومن البداية نجد أن النص السردي الأول، وهو نص بالغ الشعرية والتركيز ينطلق من بنية الحكاية الأسطورية، ويبدأ مثلها بـ”يحكى أن”، فما الذي يحكيه هذا النص الأسطوري الملفع بالألغاز؟ “يحكي أن التاجي عندما قرر بناء سراياه أحضر عددا من قطع اللحم، ووزعها على مناطق مختلفة من الأرض. ثم اختار الأرض التي حفطت اللحم من الفساد لأطول مدة، وبنى عليها السرايا الضخمة ذات القباب والواجهات الرخاميةِ(ص5) لقد اختار التاجي المكان بمنطق التجريب العلمي والعقلي ليشيد سراياه على أساس متين. فهل حفظت هذه السرايا لحم أسرته من الفساد والتحلل؟ هذا هو السؤال الذي يؤرق هذه الرواية المسكونة بجحيم الأسئلة منذ هذه البداية الأسطورية وحتى النهاية المأساوية.

فالسرايا التي بناها التاجي الكبير ليست كغيرها من السرايات. أرادها “ألا تشبه أي مبنى آخر، فأمعن في ملئها بالسراديب والدهاليز والقاعات الواسعة والشبابيك ذات الزجاج الملون، والشرفات الرحبة المسورة بأسوار قصيرة يعلوها درابزين أسود على هيئة أغصان شجر تنتهي بورود فضية. هذا الدرابزين هو نفسه الذي حمل شجيرات ياسمين هدهد عبيرها المكان، وأحاطه بعبق مدهش يتحول في الظهيرات الصيفية القائظة إلى لعنة لذوي الصدور الحساسة تجعلهم يتسولون أنفاسهمِ(ص5). نحن إذن بإزاء مشروع حضاري كامل له منطقه العقلي، ولكن له جمالياته كذلك وأبعاده الأسطورية. فهذا الجمال الفادح المبهظ للأنفاس هو الذي يقدم لنا منذ الصفحات الأولى في النص جدلية الموت الحياة والجمال القهر والبطش. وهو ما يؤكده لنا السرد بعد ذلك أكثر من مرة، حينما يقول لنا أن بالسرايا خمسين غرفة، وأن كل غرفة تعبق برائحة مختلفة عن الأخريات “يقولون ثمة غرفة تعبق برائحة الياسمين، وثانية برائحة الورد البلدي، وغرفا أخرى تنساب منها رائحة زهر الليمون، أو البرتقال أو الفل أو العنبر حتى نصل إلى خمسين غرفة بخمسين رائحة. تتداخل الروائح مع بعضها البعض بشبق في الردهات والممرات مكونة روائح أخرى جديدة تخلب الألبابِ”(ص93). ويذكرنا بأنه “عادة ما يمتزج تغريد البلابل بزقزقات العصافير بنعيق بومة وحيدة تعشش داخل تجويف بجذع شجرة مانجو عجوز في المنطقة الخلفية من حديقة السرايا. أحتفالية الصوت تلك تشعر المارة أن الطيور سرقت الحياة من ملاك المكان”(ص51) وهو الذي يفتح السرد القديم على أبعاده الأسطورية، ويقدم لنا حتمية الموت القابع في قلب هذه الحياة البادخة المترفة. فـ”بعد وقت قليل من بنائه السرايا، دهست عجلات عربة التاجي جسد أحد الخدم. كونت الدماء ما يشبه بحيرة صغيرة متجلطة قبل أن تجف ملتصقة بالأرض. لسنوات طويلة لم يفلح أي شيء في محو أثر تلك الدماء”(ص19). فنحن هنا بإزاء الأسطورة الشعبية التي تعمد كل مبنى جديد بالدم، أو تستأديه ثمنا لجدته.

هكذا يؤسس النص البعد الطاغي، بعد القاتل في شخصية التاجي الكبير من البداية. بل يجعله لعنة تمشي على قدمين “كان التاجي أذنا مرهفة السمع، تلتقط أخفت الأصوات التي تنبعث في جنبات السرايا، وعينا حادة الإبصار تلم بأدق تفاصيل المشاهد التي يراها. باختصار كان لعنة تسير على قدمين”(ص33). وفي الفصل الخامس، وهو واسطة العقد في هذه البنية السردية تساعية الفصول، تضيف الرواية الجنون إلى مكونات عالم هذه السرايا الأسطوري. ويتخذ الجنون هو الآخر بعدا أسطوريا حيث “يقال إن ملكا في صورة هدهد اعتاد أن يتخير طعامه من بين فواكه السرايا. يطير حاملا أجود ثمار الخوخ أوالبرقوق بمقاره، قبل أن يحط في بقعة خالية. ينقر الثمرة نقرات خفيفة ثم يعفّ عنها. إذا أكل أحدهم الثمرة المنقورة يجن فورا”(ص63) ومع الجنون يجيء الجدب والإمحال، لأن الحديقة التي اثمر فيها كل ما لذ وطاب، لم تفلح فيها أبدا زراعة شجر المشمس. “كانت شجيراته تنمو إلى أن تصل لمرحلة معينة فتتوقف عن النمو، لا تزهر وتظل بلا أي تغيير يطرأ عليها”(ص77). ومع الجدب لابد أن تظهر الأشباح المؤذنة بالموت والمرهصة به. “يحكى أن ثمة من يظهر في حديقة السرايا ليلة الخميس الأول من كل شهر. ينبثق من بين شحيرات القرنفل الانجليزي ويمشي كأنما يعبر شعرة رفيعة تفصل بين الجنة والجحيمِ”(ص113). وبعد الشبح يأتي نعيق البومة المرهص بالموت ففي “ليالي الشتاء المظلمة يسمع ابتداء من منتصف الليل نعيق البومة التي تعشش داخل تجويف شجرة المانجو العجوز. تحكي الجدات أن البوم يصرخ بشكل متواصل هكذا حين يكون متعطشا للدماء، ولا يهدأ إلا برؤيتها”(ص121).

هذا العالم الواقعي الأسطوري هو ما يقدمه لنا الخيط السردي الأول في تواشج مستمر مع الخيط الثاني، حيث أن جزئياته تشكل مقدمات الفصول السردية أو استهلالاتها الموجزة التي تستعيد الماضي قبل أن تدخل بنا في طوايا الحاضر. فما الذي يقدمه لنا الخيط السردي الثاني؟ يبدأ السرد الثاني بوضع عالمه كله على الخيط المشدود بين الحلم والواقع، بل يبدأ من الحلم ليتوجه عبره للواقع. لأن الحلم في هذه البداية السردية هو الذي يتحكم في الواقع ويرهص بمساره. “قالوا من يمت إثر طعنة قاتلة في الحلم يقتل في اللحظة نفسها في الواقع. ومن يسقط في حلمه من مكان شاهق مرتطما بالأرض يتوقف قلبه على الفور. فلماذا بقيت مريم إذن على قيد الحياة؟ كأن هناك أخرى في مثل سنها تقريبا وتحمل وجهها وجسدها وتسير بمحاذاتها”(ص7) ثم تسقط “بجوارها قتيلة هي الأخرى”(ص8) ولا تكتفي هذه البداية بالالتباس الناجم بين الخلط بين الحلم والواقع فحسب، ولكنها تضيف له فكرتي القرين والموت كذلك. فلسنا هنا بإزاء “مريم” واحدة، وإنما مريمتين، وربما عدة مريمات. وهي من البداية في “ٍمكان أشبه بمتاهة بلانهاية”(ص7). لكن هذا كله جرى في الحلم، وما أن تصحو “مريم يوسف أحمد التاجي” على الواقع حتى تبدأ مشاكلها العديدة فيه. فهي وريثة أسرة التاجي بعد أن فقدت الأسرة كل تيجانها، وتبدد عنها مجدها الغابر، وألق سراياها القديم. تجد نفسها في شقة عابدين ـــ لاحظ دلالات اختيارات الأسماء والأماكن في هذا النص البديع الذي ينطوي علي مستويات متعدده من المعاني والدلالات ليس أقلها أهمية المستوى الاستعاري أو الرمزي ـــ التي “لم تطأها قدم منذ تخرج يوسف في كلية الصيدلة وعودته إلى سرايا التاجي”(ص9) حيث افتتح صيدلية في المنطقة، وعاش حياة مضطربة، ككل الذين سرقت منهم تضحياتهم في مصر التردي والانهيار، بعدما فقد ذراعه اليسرى في الجبهة التي تبقيها الرواية غامضة. فلا نعرف في أي حرب من حروب مصر الكثيرة ضد العدو الصهيوني فقد يوسف ذراعه. ولكن تظل الذراع المبتورة مشعة بالدلالات على مستوي التأويل الاستعاري للنص، تطل علينا بين الحين والآخر كوجع تاريخي وجرح لايندمل.

وتفاجأ “مريم” بوجودها في شقة عابدين تلك في زمن غير الزمن الذي كان فيه لعابدين مكانة وألقا، انتهى هذا الزمن منذ انتهى ألق التاج والتاجي معا. لا تعرف كيف وجدت نفسها فيها، وتشعر بضياع حقيقي وفقدان أكيد للقيمة والماهية، بعدما أصبحت مصر بأكملها “قليلة القيمة” في زمن الهوان والتبعية. ولذلك يغزوها هذا الإحساس المر “أنا لا أحد. قالتها مريم لا كما يحدث في الروايات البوليسية الرديئة، حين يصيح الخصم الشرير غالبا: لا أحد يهزمني، فيرد عليه البطل بسخرية واثقة: أنا لا أحد. على عكس هؤلاء المتكئين على ذواتهم بيقين فاجر تشعر أنها تلاشت، وأن عليها أن تواجه العالم منذ هذه اللحظة كمن يختبر الحياة لأول مرة”(ص11). هذا الاختبار للحياة لأول مرة هو مبدأ تأسيس الأشياء في كتابة الهاجس الكياني وتمحيص مفردات العالم كلها من جديد. ومع هذا الإحساس بالتلاشي وانعدام القيمة، وهو الإحساس الذي يتفشي في كثير من كتابات هذا الجيل التسعيني التعيس الذي جاء في زمن التبعية والهوان، وانسد في وجهه الأفق على جميع المستويات، تشعر بأنها تعيش في عالم غير حقيقي. فلا يمكن أن يكون هذا العالم المترع بالفساد والتردي حقيقيا بأي معيار من معايير العقل والصواب. “ودت لو تلمس ثمرات الخوخ والمانجو أمام الباعة لتتأكد من أن الأشياء حقيقية. لماذا يطاردها هذا الإحساس القاتل بأنها تطفو فوق هذا العالم دون أن تعيش فيه. وأن العالم نفسه غير موجود إلا في خيالها فقط”(ص12) وهذا الإحساس بعدم حقيقية العالم هو الوجه الآخر من وجوه رفضه أو التملص من مأزق الوجود فيه. وهو أحساس يتخلل نسيج النص كله. حيث “تسير مريم في شوارع المدينة كالمنومة، لاتدري هل هي في عالم حقيقي أم لا؟ كل الأشياء صارت بعيدة عنها، موغلة في تنائيها لدرجة مرعبة. الأشخاص الذين كانوا جزءا من حياتها تحولوا إلى مجرد أشباح تزورها من آن لآخر ثم تغادرها فجأة تاركة إياها لدوامات الحيرة والجنون دون أدنى شفقةِ”(ص65)

وتحاول “مريم” أن تعثر على بعض الرواسي التي تتشبث بها في هذا العالم الزئبقي الذي يتفلت بلا رحمة من بين أصابعها الراغبة في الإمساك به. فتبحث أولا عن “رضوى” صديقة سنوات دراستها بالجامعة وزميلة سكنها في بيت المغتربات، فلا تجد لها أثرا. فـ”رضوى” هي الأخرى بنت هذا التغير الضاري الذي عصف بمصر. ترك أبوها البلد، وعمل في إذاعة “صوت أمريكا” الذي لم يعد في هذا الزمن الردئ ثمة صوت سواه. وترك ابنته وراءة تتسول أصداء صوته في المحطة المذكورة، فلا غرو أن تكون أغنيتها المفضلة هي الأغنية الأجنبية الشهيرة “شبح الرجل الميت يمشى، شبح الميت يتكلمwalking, dead man talking Dead man”. وكأن هذا الرجل الميت الذي يتكلم هو أبوها الغائب وراء “صوت أمريكا”. وسوف تجد “مريم” بعد كثير من البحث أن “رضوى” قد التحقت بهذا الرجل الميت هناك، وتركتها وحدها تحمل عبء ميراث عائلة التاجي ومجدها الغابر القديم. ألم تكن أي محاولة للتشبث بصوت الموت هذا تصيبها بالصداع؟ “كانت تضبط مؤشر الراديو على صوت أمريكا تستمع للغو كثير يصيب مريم بالصداع”(ص17). إذن فالنص يسد أمام “مريم” باب التشبث بوهم زمالة أو صداقة قديمة مع من أصبح أبوها بوقا لـ”صوت أمريكا”. وتحاول بعد ذلك البحث عن شيء آخر تتشبث به، فتذهب للقاء زوجها “يحي الجندي” التي لاتذكر أنها تزوجته ـــ ففي مستوى من مستويات الدلالة في النص، تدور الأحداث بعد تعرضها لحادث سيارة غامض ـــ بل لا تستطيع أن تعثر له على وجود حقيقي في الجريدة التي يعمل بها. فلا نعرف إن كان يحيى هذا وهما خالص من بنات أفكارها، أو واقعا لايريد الوعي الاعتراف به. ولكنها فيما بعد وهي “تنكش في الأوراق الكثيرة في صندوق صوفيا الخشبي بشقة عابدين، وجدت وثيقة زواج تخص مريم يوسف التاجي ويحيى الجندي”(70) غير أن إنكار زملاء يحيى بعدوانية لوجود شخص بهذا الإسم يعمل معهم(ص14) يحرمها من أي يقين، فتكتشف أنه لم يعد أمامها سوى العودة إلى ماضي أسرتها تنقب فيه عن معنى لحياتها في هذا الزمن الردئ. ويأخذ هذا التنقيب منحيين: أولهما يمكن دعوته بالمنحى التاريخي الذي يقدم لنا تاريخ أسرتها بفرعيه: فرع الأب المنحدر من أصلاب التاجي وزوجته الألبانية الأصل “صوفيا”، وفرع الأم “نرجس” الذي استفاد من عملية الحراك الاجتماعي الواسعة التي وفرتها ثورة عبدالناصر الاجتماعية، وهيأت عبرها لابنة “صالح” العامل السابق في “الأورنص” الانجليزي، والخفير السابق لجناين التاجي، أن تدخل الجامعة، وتحلم “بإنجاز رسالة ماجستير في الأدب الأنجليزي عن وليام بليك”(ص41) ثم تزوج من ابن أسرة التاجي العريقة. أما الثاني فيمكن دعوته بالمنحي النفسي الشخصي الذي ينقب في تاريخ علاقاتها كأمرأة بصديقاتها الحميمات من “إديث” و”رضوى” أو بزواجها الملغز من “يحى الجندي”. وتكتب لنا الرواية من خلال التضافر الخلاق بين هذين المنحيين رواية المرأة التسعينية بامتياز، لأن “مريم” قد استطاعت بضربات الفن الروائي الموفقة أن تجمع المجد من كل أطرافه كما يقولون، ولكنها كمصر التي نشأت فيها تعاني من التردي والدمار، ولا يفيدها هذا المجد الآفل في شيء اللهم إلا تعميق إحساسها بالفقد والمتاهة. فهي بنت المجد العريق، وأسرة التاجي التي أنشأ جدها الكبير سراياه على أساس العقل والمعرفة بعدما اختار لها أنسب المواقع، ثم شيد عليه أجمل السرايات. وهي في الوقت نفسه ـــ ومن ناحية الأم ـــ بنت السواد الأعظم من الفقراء الذين ينتمي إليهم جدها الآخر “صالح” بعدما وفر التعليم المجاني في زمن عبدالناصر لابنته “نرجس” فرصة الصعود إلى طبقة التاجي الأعلى.

لكن استعادة الرواية لهذه التواريخ وتنقيب “مريم” في طواياها عما تتشبث به من يقين لا تتم بهذا المنطق التحليلي الذي يستخلصه النقد من النص، وإنما بمنطق السرد الاستعادي المتقطع. وهو سرد إشكالي لأن راويته لا تثق بما يدور حولها، ناهيك عما يدور في خلدها. “أحيانا تندفع إلى ذهنها تفاصيل كثيرة تكوّن مشاهد واضحة كاملة، لكنها لاتستطيع أبدا معرفة ما إذا كانت هذه المشاهد والأحداث قد وقعت فعلا أم لا؟”(ص70) ولذلك فإنها تبقي هي وما تسرده علينا في “عراء الأسئلة”(ص72) تواصل التنقيب عن معنى لحياتها. ويبدأ تنقيبها لدلالة المفارقة من لحظة الموت: لحظة موت أبيها ـــ بذراعه المبتور في حرب خاسرة ـــ بعدما انقلبت به السيارة في الترعة وهو في طريقه لبيت عشيقته “كوثر”. فقد كان موت الأب الدامي موت مضاعف. فهو موت آخر رجال أسرة التاجي، وأكثرهم معاناة من انكسار الحلم الوطني، والهزيمة القاصمة التي هدت الجميع. وهو في الوقت نفسه الموت الذي نزع من حياة البطلة آخر رواسيها أو مراسيها. فقد جاء هذا الموت بعد موت التاجي الكبير، ومقتل ابنه من زوجته الثانية “زينب” وهو في العشرين من عمره بسبب “ثأر غريب بدأ نتيجة خلافات مالية بين التاجي وإحدى العائلات من بلدة مجاورة”(ص85) وبعد موت “صوفيا” التي حكموا عليها بالجنون، وعزلوها في إحدى الغرف البعيدة بعد أن بدأت تصرخ ليلا عقب موت زوجها الذي رفضت الاشتراك في مراسيم جنازته “لاعنة زينب متهمة إياها بقتل التاجي بالاشتراك مع النمر الذي وصفته بأنه عشيقها”(ص87). لكن هذه الميتات كلها حدثت قبل أن تتفتح عينا “مريم” على الحياة، لكنها تستدعيها لنا مع الميتة التي عاشت كل تفاصيلها: موت أبيها وهو في طريقه إلى بيت “كوثر” التي طالما اصطحبها إليه معه. بل كان هذا الأب يعاملها وكأنها ابنه لا بنته. يصطحبها معه إلى العمل في الصيدلية، وحتى إلى الغرز التي يدخن فيها الحشيش.

هذا كله لأن “مريم” هي ابنته الوحيدة، وهي آخر من تبقى من أسرة التاجي فإن قصتها تكتسب ثقلا دلاليا خاصا. فما يخرج بقصة “مريم” برغم خصوصيتها المفرطة من الخاص إلى العام هو هذا الجدل المستمر بين النصين السرديين في الرواية ككل من ناحية، والخيطين التاريخي والشخصي في عملية التنقيب عن ذاتها وتاريخها من ناحية أخرى. فهذا الجدل السردي المستمر في البنية الروائية هو الذي يفتح الرواية على كل ما جرى لمصر في العقود الثلاثة الماضية، ويحيلها إلى استعارة مضيئة لواقع هذا الجيل التسعيني سيء الحظ، ولما جرى لمصر معه. فالرواية تقيم في مستوى من مستويات المعنى توازيها الاستعاري بين “مريم” بدلالات اسمها الدينية والميثولوجية وبين مصر. فـ”مريم” كما ذكرت هي ثمرة الزواج بين الشريحتين الأساسيتين في النسيج الاجتماعي المصري: شريحة ملاك الأراضي الكبار، وشريحة الفلاحين المعدمين الذين انصفهم الإصلاح الزراعي في عهد عبدالناصر حينما نال “صالح” شيئا من فتات أراضي التاجي. فالرواية حريصة على أن تقدم لنا دلالات التغير الاجتماعي الرمزية التي اتاحت لابنة “صالح” أن تتزوج في نهاية الأمر ابن التاجي من خلال هذا المشهد الفكاهي المترع بالدلالات والذي ذهب فيه صالح للتاجي الكبير يعرض عليه فتات مدخراته ثمنا لما قدمته الدولة له من أراضيه. “غرق التاجي في ضحك متقطع، بدا كأنما بلانهاية … قبل أن يمنحه عصاه الأبنوس الفاخرة ذات الرأس العاجي على هيئة أسد كطريقة لإنهاء الحوار. وتذكيره بأنه مجرد خادم يستجدي العطايا”(ص58). وظلت هذه العصاالصولجان التي سعد بها “صالح” أيما سعادة تحمل دلالاتها الرمزية في النص معه لسنوات طوال. لأن “سعادته بعصا الأبنوس باعتبارها أفخم شيء رآه في حياته”(ص58) هي في مستوى التأويل الرمزي سعادة بانتقال الصولجان ــــ ولو شكليا ـــ من طبقة التاجي إلى طبقة صالح. ولذلك “ظل محتفظا بها إلى أن ضاعت منه في خضم جنازة الزعيم”(ص58) تروي لنا الرواية قصة ضياعها منه بالتفصيل: “حين مات ناصر كان صالح قد باع محصول أرضه من القطن فشد الرحال إلى مصر. صالح الذي كان مولعا بالجنازات وجد في جنازة الزعيم فرصة لاتعوّض. فارتدي جلبابه الكشمير وعباءته السوداء، وأمسك بعصاه الفاخرة من الأبنوس ومضى إلى محطة القطار. في القاهرة تاه وسط الحشود الباكية المولولة. بكى معهم وصرخ وأضاع عصاه”(ص54) فقد ضاع بموت عبدالناصر صولجان طبقة برمتها، وتمرغت بعده في الهوان. أكان يدرك أنه يبكي مع الزعيم طبقة برمتها؟ لا أظن، لأن “صالح” لايحمل وعي النص من ناحية، ولأنه من الذين أفلتوا من مصير هذه الطبقة التعيس من ناحية أخرى، بفضل تعليمه لأولاده. ليس فقط لأنه زوّج أبنته “نرجس” من ابن التاجي، ولكن أيضا لأنه ما أن مرت عشر سنوات على جنازة الزعيم حتى كان ابنه من الذين استفادوا من “انفتاح” الزعيم التالي. فعند موت السادات ذهب صالح “هذه المرة بسيارة ابنه المرسيدس وهو يلعن أبناء الحرام الذين يقتلون الزعماء الطيبين الساهرين على خدمة الشعب، والخاطبين فيه ليل نهار، والعاقدين للاتفاقات من أجله”(ص54). فياله من تغير! لكن مريم ليست ابن هذا التغير، وإنما هي ابنة انكسار الحلم بعدما “مات عبدالناصر، فانكسر الجميع. بكت نرجس وأخفت صورته الممهورة بتوقيعه في ألبوم العائلة”(ص53). وهي في الوقت نفسه بنت التغيرات العاصفة التي اهتصرت مصر وعصرتها منذ خروجها للحياة في عقد السبعينات العصيب. لذلك كان طبيعيا أن تغترب عن الجغرافيا كما اغتربت عن التاريخ. فحينما “زارت البلدة التي من المفترض أن تكون بلدتها، لم يعرفها أحد هناك. ولم تعرف هي أحدا، كانت تخطو كشبح، خفيفة، أثيرية محمولة بفعل الهواء الخفيف الذي يهدهد المكان… كان كل شيء مخالفا لفكرتها السابقة عنه إلى درجة مروعة. أحست مريم أنها في مواجهة مع العدم”(ص66). وعندما عادت إلى المدينة لم يكن حظها فيها أفضل من حظها في القرية. فقد وجدت “الآن هي أمام مدينة أخرى جهنمية تحاول لفظها خارج الحدود” ــــ أليس هذا ما فعلته المدينة مع صديقتها “رضوى”؟ ـــ “لاتعرف أحدا من سكانها كأنهم استبدلوا جميعا بكائنات أخرى تستميت في محاكاتهم كي لا تنكشف اللعبة ويظل الجميع كل في تيهه الخاص”(ص74).

وتضيف هذه المحاكاة للضياع عنصرا أخر لمتاهة مريم هو الاغتراب عن الذات نفسها، كما اغتربت مصر نفسها عن نفسها بعد الزج بها في وهاد الدمار والتبعية. لكن الرواية تنجح من خلال عملية تأنيث الكتابة فيها وتقديم قصة “مريم” وهي تنعكس بمراوغة ماكرة على مرايا من سبقها من النساء في هذه العائلة في أن تكسب شخصية مريم مجموعة من الدلالات الرمزية والاستعارية. وتخرج بها من نطاق كوينها شخصية محددة ومتعينة إلى مجال الاستعارات الفسيح من خلال تحويلها إلى آخر صيغ التجسيد لحالة متكررة، تتناسخ فيها المصائر النسوية من جيل إلى آخر. لأن صورة مريم في هذه الرواية المتاهة تنعكس على مرايا معظم شخصيات النص النسائية بدءا من “صوفيا” الجميلة “أبنة تاجر القماش الألباني التي أسمتها أمها على اسم صديقة يونانية تربت معها في حي الظاهر”(ص88) والتي انتهى بها الحال إلى الجنون بعد معاملة التاجي القاسية لها، وانتهاء بـ”نرجس” أمها التي لم توفر لها الأمومة الحقة، فقد شغلتها وساوسها حول جسدها الذي غيره الحمل وخوفها من “ألا يعود أبدا إلى سيرته الأولى”(ص42)، عن إنجاب وريث لأسرة التاجي الذي شارق قاربها على الغرق. ثم ضاعف من وطأة الأمر إهمال زوجها الذي انتزعته منها “كوثر” وتركتها تنهشها الغيرة والقلق حتى الموت، عن العناية الحقيقة بابنتها، وعن أن تكون لها أما حقيقية توفر لها الأمن والأمان، مرورا بـ”زينب” الزوجة الثانية للتاجي الكبير والتي ضاعفت من تعاسة “صوفيا” ، ثم فقدت ابنها وهو في شرخ الشباب نتيجة للثأر، فما كان منها إلا أن استأجرت القاتل المحترف “النمر” الذي “قام بقتل القاتل وتقطيع جثته، بل ويقال إنه حمل كبده وزجاجة من دمه إلى زينب التي قامت بشي الكبد وتوزيعه على خدمها”(ص86).

لكن تناسخ مصائر هذه الشخصيات النسائية في مصير “مريم” ودورها في صياغة أبعاد متاهتها يتضافر في أهميته من عملية التناظر التي يقيمها النص بين حياتها وحياة صديقتيها الحميمتين: أولاهما “إديث ملاك منير” التي كانت بالنسبة لمريم في صباها الأول بمثابة “هدية أرسلتها السماء إلى مريم”(ص117) فقد فتحت لها عوالم الشقاوة الطفولية العذبة في زمن الوئام الطائفي القديم الذي استمتعت فيه مريم بحدب عم ملاك منير وطنط هيلانة وإديث. وغامرت بها إديث داخل خلايا النحل، ومكنتها من شرب الشهد المصفى. أديت التي كانت زميلة صبى مريم و”تمنى لها والدها أن تكون قوية كالرجال كي تعوضه عن عدم إنجابه لذكر يساعده في تربية النحل”(ص115). لكنه تجرع “على يديها فضيحة مزدوجة، فأولا هربت ابنته مع رجل، وثانيا فإن هذا الرجل على غير ديانتها”(ص59) لكن ما يجعل الأمر أشد حدة بالنسبة لمريم، ليس أنها فقدت بهروب إديث مع الولد الأسمر صديقتها الأثيرة، ولكن هذا الولد الأسمر الذي يطارد اليمام ببندقيته كان هو من تعلق به قلب “مريم” ذاتها بعدما “أرسل لها قبلة في الهواء بينما تسير في طرقات المدرسة الثانوية، وتجرأ ولمس يدها وهو يمر أمامها في طابور الصباح”(ص95). أما الثانية فهي “رضوى” التي انفقت حياتها في الاستماع إلى إذاعة “صوت أمريكا” التي يعمل بها والدها، تماما كما كانت “مريم” مغرمة بإذاعة مماثلة حيث كانت “تجلس في غرفتها طويلا وهي تستمع لإذاعة مونت كارلو مع العوالم السحرية لفايز مقدسي والصوت المحبب لأنطوان بارود وحبيب محمود”(ص79) وانتهي الأمر بأن “رضوى سافرت لوالدها”(ص119) في أمريكا وضاعت هي الأخرى إلى الأبد. والواقع أن كل هذاالتناسخ والتناظر هو الذي يحيل “مريم” في النهاية إلى استعارة روائية لمصر نفسها ولما جرى لها في هذه المتاهة الحضارية، أم تراها المباءة الحضارية في هذا الزمن الردئ. ويجعل الرواية في الوقت نفسه واحدة من أبرز نصوص هذا الجيل الجديد في تأنيثها للكتابة، الذي يتجسد على مستويين: مستوي بناء الشخصية النسوية وتخليق متاهتها الكيانية، ومستوي محتوى الشكل الروائي الذي يقيم جدله الخلاق بين السردين، ويكشف من خلال انفصالهما وتفاعلهما معا عن منطق البنية النسوية المراوغ والمعقد معا، لأن الفصل بين السردين هو فصل بين منطقين أحدهما هو المنطق الأسطوري بإحالاته الذكورية، وثانيهما هو منطق السرد المتقصلالمتقطع بخصوصيته النسوية.

لكن تبقى “مريم” بعد ذلك، وقبله، تجسيدا لوعي مأزوم يعاني من متاهة كيانية حقيقية. فهي تدرك أن بقية البشر “يتمتعون بشروط حياة أفضل مقارنة بها وبأمثالها. قدراتها تفوقهم بمراحل، ورغم ذلك يستحوذون على كل شيء تاركين لها الفتات. يمضون غارقين في جهلهم وتعاليهم دون أن يكترثوا لوجودها. يدوسونها وهم يسيرون، يرقصون أو يتشاجرون. الأمر سيان”(ص107) فقد بخسها الواقع قيمتها، وعصف بحقها في التحقق كجل أبناء هذا الجيل المنكوب. ولهذا خاب زواجها من “يحي الجندي” الذي تبقيه الرواية في دائرة الالتباس والإضمار. ولم يكن غريبا أن نكتشف أن “المرأة الورطة” هو الإسم الذي أطلقه عليها زوجها الملتبس “يحي” بتوجهاته لتي تنتمي للزمن الردئ. خاصة وبعد تأويله للأحلام التي تلح عليها وسخريته منها. وتلعب الأحلام في هذه الرواية دورا بالغ الأهمية في تخليق مستويات المعنى الإضافية فيها. لأن أحلام “مريم” المتكررة الثلاثة تكشف لنا عن افتقاد هذا الجيل التسعيني العميق للإحساس بكيانه، والثقة في واقعه الهش الذي يفتقر للمنطق والانسجام. لكنها تكشف لنا أكثر عن فقدان هذا الجيل للتحقق وللشعور بنفسه، وفهم ما تخبئه له الأيام. فبالإضافة إلى حلم مقتلها التي يفتتح به السرد متاهته يلح عليها حلم الفضيحة والعري في فراش الزوجية الحلال لحدة المفارقة، وكأنها ترتكب شيئا محرما. وحلم الإخفاق المحتم في امتحان لم تستعد حقا له، ولم يتح لها معر فة المقرر الذي ستمتحن فيه، ناهيك عن مذاكرته. وهي كلها أحلام تكشف عن تزعزع الثقة في النفس، وعن فقدان التحقق. وأهم من هذا كله عن العجز عن الانسجام مع عالم تعاني فيه الشخصية الرئيسية من سرعة التغيير أو بالأحري تلاحق التشوهات عليه، والعجز عن ملاحقته أو القبض على إيقاعاته. ولاتجد إزاء هذا الواقع سبيلا للخلاص بطرح النهاية النصية الواثقة في سردها في مواجهة السرد الإشكالي الذي سيطر على النص كله. في هذه النهاية يرتد بنا السرد إلى الماضي، ولعالم القرية القديم الذي تتعرف “مريم” في النهاية على ملامحه السرمدية وكأنها لم تتغير قط. لكن هذا كله سرعان ما يتكشف عن خدعته، حينما يزج بها الواقع القديم في متاهة أخرى تجبرها على الخروج من السرايا وتلقي بها بقسوة في العراء.

ومن هذا العراء تبدأ في البحث عن خلاص. ويقودها المسير هذه المرة إلى بيت “النمر” وقد أصبح رمزا للموت والبعث معا. “دخلت إلى الفناء بوجل. اتجهت إلى الباب الخشبي المتهالك. أبصرت كفا مطبوعة فوقه بالدم، وضعت كفها عليها فتطابقت معها. انفتح الباب فدخلت. قابلتها عتمة شبه كاملة. أغمضت عينيها للحظة، وعندما فتحتهما كان هناك شعاع ضوء ضئيل بدأ يتسلل تدريجيا”(ص127). فهل هو شعاع الأمل في الخلاض؟ هذا هو السؤال الذي تتركه الرواية مفتوحا دون جواب. ولكنها قدمت في ثنايا التفاصيل أكثر من جواب.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم