التشكيل السيرذاتي في شعر البهاء حسين.. قراءة في قصيدة “كاتب الخطابات”

محمد سعيد شحاته
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. محمد سعيد شحاتة

تمتاز تجربة البهاء حسين الشعرية بالخصوبة الشديدة؛ فهو شاعر يمتلك تجربة شعرية خاصة، وصوتا شعريا شديد التميُّز بين أبناء جيله من ناحية، وبين أقرانه من الشعراء من ناحية أخرى، بحيث تستطيع العين الناقدة التقاط قصيدته من بين عشرات القصائد لشعراء مختلفين، واستطاعت قصيدته أن تعمِّق المجرى الشعرى لقصيدة النثر بما يمتلكه من إطار فكري محدَّد يتحرك فيه، وتناور قصيدته ملتقطة ما يبرز هذا الإطار الفكري، ويرسم ملامحه، وبما يمتلكه كذلك من انحياز جمالي شديد الخصوصية يميزه عن غيره من الشعراء، فهو لا يقف عند تلك الموانئ التي احتوت شعراء آخرين، ولا يلوِّح لتلك الأشرعة التي لوَّح لها غيره، ولا يسير على الأرصفة نفسها التي حفظت أقدام غيره من المبدعين، وقصيدته مسكونة بالحزن والأسى، ومشحونة بتاريخ الأرامل والفقراء في لغة تتصف بالشظف والتكثيف الشديد رغم طول القصيدة في كثير من الأحيان.

تنتمي قصيدة (كاتب الخطابات) للشاعر البهاء حسين إلى التشكيل السيرذاتي؛ فهي قصيدة ذات نزعة سردية اعتمد الشاعر فيها على تسجيل جزء من سيرته الذاتية، بيد أن الذات في القصيدة ليست متمركزة حول ضمير الأنا، ولكنها متمركزة حول ضمير الهو، كما أنها تعبر عن حوادث الذات الشاعرة وحكاياتها في أزمنة وأمكنة ذات حضور واقعي خارج ميدان المتخيل الشعري، كذلك فإن القصيدة تعكس طبيعة الترتيب التصاعدي على مستويات الحدث والسرد والفضاء، ويمكن بطريقة أو بأخرى تأكيدُ المرجعيات الزمانية والمكانية والشخصية للحوادث والحكايات التي تتضمنها القصيدة، فالشاعر صحفي والكتابة هي مهنته التي يمتهنها، كما أنه ينتمي إلى قرية من قرى صعيد مصر، مما يرشِّح انتماء الأحداث في القصيدة إلى التشكيل الواقعي المسكون بالتجربة الحياتية، مما جعلنا نقول بإمكانية تأكيد المرجعيات الزمانية والمكانية والشخصية للأحداث. أما بالنسبة للتشكيل السيرذاتي فهو (تشكيل مزدوج يجمع بين رؤيتين وسياقين ومجالين وفضاءين، رؤية وسياق ومجال وفضاء السيرة الذاتية وهي تحيل على واقع وتجربة في الحياة، ورؤية وسياق ومجال وفضاء الكتابة الإبداعية وهي تنهل من معين الصنعة الكتابية التي تنهض على الموهبة والمعرفة وضبط آليات الكتابة وتقاناتها، وهذا الازدواج التشكيلي ينعكس انعكاسا إيجابيا على تخصيب الكتابة وخروجها إلى فضاء آخر جامع ومختلف وغني وثري وقابل للإدهاش، ومشحون بكثافة الجنسين) (محمد صابر عبيد، التشكيل السيرذاتي – التجربة والكتابة، ص5) فالجانب الأول وهو رؤية وسياق ومجال وفضاء السيرة الذاتية ينتمي إلى التشكيل الواقعي من حيث كونه منظورا محدَّدا من خلال الطبيعة المحيطة بالواقع، وهو مسكون بالتجربة الحياتية المختزنة في الذاكرة، والتي تكتسب أهمية وعمقا لدى المبدع، مع الوضع في الاعتبار التغيير الذي يمكن أن يحدث في الفضاء المكاني والزماني بحكم التحول الحادث في الزمن الشخصي والعام والذي يمكن أن يؤثر على احتفاظ الحادثة الواقعية بنقائها ومحمولاتها، ولكنها تظل محتفظة ببؤرتها المركزية التي تنبني عليها تجربة التشكيل السيرذاتي، وأما الجانب الثاني وهو رؤية وسياق ومجال وفضاء الكتابة الإبداعية فإنه ينتمي إلى التشكيل التخييلي من حيث كونه محدَّدا من خلال البلاغة وأطرها الفنية والجمالية، وهو الذي يساهم في نقل التجربة الذاتية الواقعية المنتمية للسيرة الذاتية إلى المجال الفني الجمالي، ومعنى ذلك أن التشكيل السيرذاتي حين يتداخل في تكوينه التشكيلان السابقان في تفاعل حيٍّ وديناميكيٍّ سوف يتنازل كل تشكيل عن جزء من ملامحه من أجل التوافق والاندماج الذي يؤدي بالضرورة إلى تشكيل موحَّد يحمل سمات وملامح الجانبين معا، وهو التشكيل السيرذاتي.

إن دوافع استعادة  الذكريات والبوح  بها قد تكون دوافع عقلانية، كالرغبة في التبرير، أو الإدلاء بشهادة، أو دوافع عاطفية كالرغبة في التباري مع الزمن، وفي عثور المرء على معنى لوجوده، وهذا ما أبرزه جورج ماي في كتابه السيرة الذاتية إذ يقول (الدوافع المتنوعة التي يمكن أن تنشأ عنها كتابة السيرة الذاتية يسهل تقسيمها طائفتين يمكن أن نميز في كل منهما بين أضرب من المقاصد، أما الطائفة الأولى فتضم المقاصد العقلانية المنطقية الرصينة إلى أبعد الحدود، وبإمكاننا أن نصنف هذه المقاصد صنفين اصطلحنا عليهما بكلمتي التسويغ والشهادة، وأما الطائفة الثانية التي تضم دوافع أقرب إلى الانفعالات والعواطف واللاعقلانية وأبعد عن الإدراك  أيضا في بعض الأحيان فلنا أن نميز فيها أيضا صنفين: صنفا يتصل بشعور المؤلف بمرور الزمن، وقوامه التلذذ بالتذكار أو الجزع من المستقبل، وصنفا يتصل بالحاجة إلى العثور على معنى الحياة المنقضية أو استعادته، ونقصد بذلك اتجاه الحياة ودلالتها معا) (جورج ماي، السيرة الذاتية، ص 69، 70) فهل كان الشاعر/كاتب الخطابات يستند في استعادة ذكرياته إلى دوافع عقلانية منطقية راغبا في التبرير لهذه الذكريات، أو مبديا شهادته على أحداث مختارة من حياته، أو أنه كان يستند إلى دوافع عاطفية قوامها التلذذ بالتذكار، أو الجزع من المستقبل، أو محاولة العثور على معنى الحياة المنقضية، وفهم دلالتها؟ إننا سوف نسير مع القصيدة عبر ملمحيْها الواقعي/السيرة الذاتية، والإبداعي/التخييلي محاولين اكتشاف جوانبها السردية وملامحها الإبداعية.

  • 1 –

كان يربّى الكلمات فى فمه      

كما تربى أمه الكتاكيت فى باحة البيت

تلك التربية التى لا يمكن أن تعرف

كم من السنوات استغرقت ولا كم من التجاعيد

لكنها تظهر فى اليدين

يرصد الشاعر في هذا المقطع أولى الملامح المؤسِّسة لسيرته الذاتية من الناحيتين الاجتماعية والفكرية، فهو يربي الكلمات في فمه، أي يحاول تكوين نفسه فكريا وثقافيا، ويربي وعيه، وفي الزاوية الأخرى من المشهد نجد أمه تربي الكتاكيت في باحة البيت في إشارة إلى البيئة الفقيرة التي ينتمي إليها كاتب الخطابات، إن هذه التربية في الاتجاهين تستغرق وقتا وتراكما على المستويين الاجتماعي/الكتاكيت، والفكري/الكلمات، وسوف تظهر نتائج هذه التربية في المراحل التالية، وكلما كانت التربية متقنة كانت النتائج إيجابية، وهي تربية مستمرة، فإن الأسرة تتوقف حياتها على تربية الكتاكيت التي ستكون فيما بعد طعاما لأبنائها، وزادا يساعدهم على مواصلة الحياة، وكذلك تربية الكلمات ومراكمة حالات القراءة ستكون الزاد الذي يعتمد عليه الشاعر/كاتب الخطابات في مواصلة حياته الفكرية، واستغراق السنوات في هذه التربية دليل على قدرتها وفاعليتها، فلا يمكن إحصاء السنوات التي تستغرقها هذه التربية، وهذا يعني أن القراءة ومراكمة البنى الفكرية والجمالية لا يمكن أن تكون لها سنوات محددة، ولكنها مستمرة على مدار العمر، وهو ما عبَّر عنه الشاعر بقوله (تلك التربية التى لا يمكن أن تعرف كم من السنوات استغرقت .. ولا كم من التجاعيد .. لكنها تظهر فى اليدين) ومن الملاحظ أن الشاعر أقام المقطع على ثنائية ليست بالضرورة ضدية؛ لأن كلا الطرفين ليسا متناقضين، وإن كانا ينتميان إلى دائرتين دلاليتين مختلفتين، ولكن يكشف أحدهما الآخر، ويحدد أبعاده وملامحه، فإذا تخيلنا تربية الكتاكيت، وما تحتاج إليه من صبر وأناة، ورعاية مستمرة، وإدراك تام للغذاء اللازم، والتحصين المستمر ضد الأمراض المفترضة، والملاحظة الدائمة لحالة هذه الكتاكيت، إذا تخيلنا ذلك أدركنا ملامح تربية الكلمات/الفكر وما يحتاجه من صبر وأناة ومراقبة مستمرة لحالة الفكر وتناميه، وتراكم المعارف، وقدرة الوعي على الإدراك التام لما يحتاجه الفكر من مراقبة دائمة؛ حتى لا تختلط به الرؤى المتناقضة التي تربكه، وتخرجه عن إطاره العام، ومن الملاحظ كذلك أن الشاعر/ كاتب الخطابات قد أبان في هذا المقطع أن البيئة الفقيرة/القرية لا يملك أبناؤها خلاصًا إلا من خلال العلم، فالفكرة المترسخة في أذهان شرائح القرية كلها أن العلم هو الخلاص الوحيد للإنسان، فهو الحياة للعقل كما أن الكتاكيت تمثل طعاما للجسد، ومن هنا قلنا إن هذا المقطع يمثِّل أولى الملامح المؤسِّسة للسيرة الذاتية للشاعر/كاتب الخطابات، أما المقطع الثاني فإنه ينفتح على الواقع وتشعباته وسراديبه واحتياجاته.

  • 2 –

كان يتصرف فى حصة القرية من الكلمات

كأنه وريثها الوحيد

بحيث يجد لكل قلب ما يناسبه

يعرف من انتصاب الحلمات

أن إحداهن تريد أن ترسل خطابًا إلى زوجها المغترب

من شحوب الوجه

من اللوعة

من اشتياق الملامح ليد تلمسها

من العين حين تلمع وتصبح سريرًا

يعرف أن السيدة بحاجة لأن تتقمص دور ملاءة تتلوى

وحين لا تتوفر الكلمات التى تلبى الحب

يلجأ إلى تذكيرها بأحزانها

ربما أرادت أن ترسل خطابًا إلى أخيها الذى مات فى الحرب ولم يجدوا جثته

فأرسلوا أشياءه بدلاً منه

الجورب الغليظ وبقايا جرة المشّ

وصورة مكرمشة لحبيبته

ولأن كاتب الخطابات لا يجد عند السيدة دموعاً تكفى لنصب مأتم

يستلف من الرصيد الحىّ كلمات مؤثرة

تقبّل المرسل إليه والعنوان

وعندما ينتهى

تلزق السيدة الخطاب بلسانها

لتطمئن على أنها أحكمت المظروف على الوحشة

ينفتح المقطع الثاني انفتاحًا كبيرًا على مشهد سيرذاتي (زمكاني) إذ يجمع فيه الشاعر بين زمان ومكان مرتبطين ارتباطا وثيقا بسيرته الذاتية وذاكرته التي تختزن تلك السيرة، أما المكان فهو القرية بكل ما تستدعيه من أطر اجتماعية وفكرية وثقافية، وأما الزمان فمن الواضح أنه مرحلة التكوين الفكري للشاعر، وهي مرحلة الشباب التي يكون فيها مندمجا إلى حد كبير في مجتمع القرية بكل تفاصيله، وبؤرة اهتمام نساء القرية الراغبات في المساعدة بحكم كونه متعلما، ومن ثم قادرا على كتابة الخطابات إلى الأزواج في الغربة (كان يتصرف فى حصة القرية من الكلمات .. كأنه وريثها الوحيد) إن المتعلم في القرية هو الوريث الشرعي والوحيد للكلمات/الفكر؛ فهو الذي تقدمه القرية للحديث باسمها مفتخرة به رمزا لها، ومباهية بما يمتلك من قدرة علمية وفكرية قادرة على إفهام الأهالي ما يدور حولهم، وتقديم الخدمات لهم، والحديث باسمهم، وقد جعل الشاعر العلاقة بين الزمان والمكان مع الأحداث الحياتية للقرية في سيرته متبادلة، وكل ذلك يختزل شحنات إيحائية ودلالية ورمزية مرتبطة بحياة الشاعر وسيرته الذاتية، وهو ما يعبر عن وعيه التام بما يحققانه من حيوية وتأثير في توثيق سيرته الذاتية، ومن ثم إضفاء المشروعية الفكرية على تجربته الحياتية، ومدى قابليتها للتأمل، وفاعليتها في نفس المتلقي. إن المتأمل للمقطع الثاني من القصيدة يجده منطلقا من عتبة المكان الواقعي والزمان الحقيقي، وإن كان مستندا على رؤية إبداعية وفضاء تخييلي؛ فالشاعر يرصد قدرة صاحب السيرة الذاتية على رصد احتياجات أفراد المجتمع من خلال الملامح، أو حركات الجسد، أو نظرة العينين، وهو ما عبَّر عنه بقوله (بحيث يجد لكل قلب ما يناسبه) وترصد القصيدة مجموعة من آليات الإدراك داخل المجتمع القروي، وبخاصة للنساء اللاتي يلجأن للمتعلم/الشاعر لتلبية احتياجاتهن (يعرف من انتصاب الحلمات أن إحداهن تريد أن ترسل خطابًا إلى زوجها المغترب .. من شحوب الوجه .. من اللوعة .. من اشتياق الملامح ليد تلمسها .. من العين حين تلمع وتصبح سريرًا .. يعرف أن السيدة بحاجة لأن تتقمص دور ملاءة تتلوى) إن الربط بين الجانبين النفسي والجسدي وبين الإدراك مهم لدى صاحب الخطابات؛ لأنه ستكون عليه مهمة اختيار الجمل والألفاظ الدالة على الرغبة المطلوبة، فانتصاب الحلمات وشحوب الوجه واللوعة كلها علامات دالة على رغبة الزوجة في زوجها، وملامحها دالة على اشتياقها إلى يده لتعانقها، فترتمي بين أحضانه مطفئة ظمأها إليه، وشوقها إل جواره، ولكن إذا غابت تلك العلامات الدالة على الحب والرغبة فإن على صاحب الخطابات أن يبحث عن سبب آخر لكتابة الخطاب (وحين لا تتوفر الكلمات التى تلبى الحب .. يلجأ إلى تذكيرها بأحزانها .. ربما أرادت أن ترسل خطابًا إلى أخيها الذى مات فى الحرب ولم يجدوا جثته .. فأرسلوا أشياءه بدلاً منه .. الجورب الغليظ وبقايا جرة المشّ .. وصورة مكرمشة لحبيبته) وهنا إشارة إلى ما تقدمه القرية من تضحيات للوطن الكبير، فالذاكرة تختزن صورة الجندي الذي استشهد في المعركة دفاعا عن وطنه، وقد عاد زملاؤه حاملين أغراضه البسيطة التي تعبر عن بساطة أهل القرية وفقرهم المدقع، فالزملاء يحملون مع أغراض الجندي الشهيد جوربه الغليظ وبقايا جرة المشِّ، وهما صورتان معبرتان عمَّا يعانيه أهل القرى من فقر واحتياج، ولكنهم في الوقت نفسه يحملون الوطن في صدورهم، ويدافعون عنه بدمائهم متخلين عن حياتهم وحبيباتهم في سبيله؛ إذ يعود زملاء الجندي الشهيد بصورة حبيبته المكرمشة التي كان يحتفظ بها، وهذا المشهد من المشاهد التي تكررت كثيرا في الروايات والأفلام التي تحدثت عن الحروب التي خاضها الوطن ضد أعدائه بحيث أصبحت علامة مميزة، وهنا يبحث كاتب الخطابات في رصيده الذي ادخره عبر قراءاته المتعددة والمتنوعة عن الكلمات المؤثرة بعد أن لمح عجزالسيدة عن تقديم الدموع اللازمة لنصب مأتم (ولأن كاتب الخطابات لا يجد عند السيدة دموعاً تكفى لنصب مأتم .. يستلف من الرصيد الحىّ كلمات مؤثرة) ثم تقدِّم القصيدة اللفتة الواقعية المتوارثة والمعبرة عن طبيعة المرأة الريفية الساذجة، وهي تقبيل الخطاب والعنوان في إشارة إلى حبها وشوقها إلى أخيها المرسل إليه، ولزق الخطاب بلسانها لتطمئن على أنها أحكمت الخطاب (تقبّل المرسل إليه والعنوان .. وعندما ينتهى .. تلزق السيدة الخطاب بلسانها .. لتطمئن على أنها أحكمت المظروف على الوحشة) من الواضح أن المقطع الثاني من القصيدة قد انفتح انفتاحا كبيرا على مجتمع القرية وملامح أبنائها ونسائها وملامح حياتهم، وبناهم الفكرية والاجتماعية التي تحكم حياتهم وتتحكم في تصرفاتهم، فقدَّم الشاعر صورة تفصيلية مختلطة بسيرته الذاتية، ورصد سمات أهل القرية، وطبائعهم، وهي بالضرورة سماته من حيث كونه واحدا منهم.

  • 3 –

ياما كتب عن نفسه

وهو يكتب للأرامل خطابات يستنجدن فيها بالحظ

كان يقول إن طرقات القرية أكثر حظــًّا منهن

حيث تمشى فيها البغال والحمير عارية

لا شىء يستر رغباتها

كان يكتب أن الأرامل أولى من الطرقات بهذه التلقائية

لكن لم يعرف أبداً لمن يوجه الخطابات !

ويأتي المقطع الثالث لينفتح على زاوية أخرى من زوايا السيرة الذاتية مختلطة بسيرة القرية وأهلها وأنماط حياتهم، وهي زاوية الأرامل، وهنا يعود الشاعر للربط بينه وبين الأرامل من حيث  سوء حظ كل منهما (ياما كتب عن نفسه وهو يكتب للأرامل خطابات يستنجدن فيها بالحظ) لقد كان يكتب عن نفسه، ومن ثم كانت لغته وعباراته نابعة من القلب، وفي ذلك إشارة واضحة إلى اختلاط سيرته الذاتية بسيرة قريته، كما أن في ذلك إشارة إلى أن الشرائح الاجتماعية في القرى تكاد تتشابه؛ فاستخدام لفظ (الأرامل) جمعا يشير إلى شريحة اجتماعية محددة وليس واحدة فقط من هؤلاء الأرامل، بمعنى أن الشاعر لا يتحدث عن تجربة فردية لأرملة من الأرامل، ولكنه يتحدث عن الأرامل في القرية بصفة عامة، وهو ما يجعل سيرته الذاتية تكتسب أهمية؛ إذ ترصد في هذا المقطع ملامح شريحة عامة من شرائح المجتمع القروي، فالأرامل تستنجدن بالحظ الذي ينفر منهن، وكذلك الشاعر (كان يقول إن طرقات القرية أكثر حظــًّا منهن) ولم يرد في الحديث ما يدل على شيء محدد تبحث عنه الأرامل مما يشير إلى أن معاناتهن متعددة الجوانب، ومتنوعة الأشكال، ومشاكلهن كثيرة، بيد أن الرؤية تخونه هذه المرة؛ إذ لا يعرف لمن يتوجه بخطاباته حين يكتب للأرامل تلك الخطابات (لكن لم يعرف أبداً لمن يوجه الخطابات !) وفي ذلك إشارة إلى أن المشاكل التي تتعرض لها الأرامل في القرى هي جزء من نسيج الحياة الاجتماعية للقرية، وهو نسيج متوارث، ومن ثم فإن الشاعر لا يعرف بالتحديد من الذين يستطيعون تغيير هذا الواقع الاجتماعي للأرامل، أو من الممكن أن يكون في ذلك إشارة إلى أن الحلول متشابكة ومتداخلة بين جهات عديدة: ثقافية واجتماعية ودينية، وغير ذلك من الجهات التي تعمل على الأرض في القرية، ولديها القدرة على التغيير، ومن الملاحظ أن الشاعر يقيم هذه المقطع على ثنائية طرفاها الأرامل اللاتي يكتب لهن الخطابات يستنجدن بالحظ، أما الطرف الثاني فهو الشاعر/كاتب الخطابات، وهنا يحيلنا مرة أخرى إلى أنه جزء من القرية بكل تفاصيلها، والمفردات المشكلة لهذا المقطع هي مفردات ريفية بامتياز (الأرامل – طرقات القرية – البغال – الخمير) وإذا كانت الأرامل لم تصرحن عن مضمون الخطابات فإن  الشاعر يكشف عن ذلك ضمنيا في قوله (حيث تمشى فيها البغال والحمير عارية لا شىء يستر رغباتها ) وفي ذلك إشارة إلى أن كون المرأة أرملة لايحق لها الحلم أو الرغبة أيا كانت، ومن ثم فإنهن يسترن رغباتهن ويستنجدن بالحظ الذي لا يأتي في غالب الأحيان فتظل الأرملة تعاني.

  • 4 –

حتى القرية

كان يكتب بالنيابة عنها خطابات إلى الله

عن انتظارها المزمن

عن البلهارسيا قبل أن تتقوض سلطتها

عن الأقفال الصدئة التى ملَّت دورها

عن البيوت الواطئة التى لم تكن قادرة يومًا على تبرير فقرها

كان يكتب أحياناً فى الهواء

دون أن ينسى وضع النقاط على الحروف

غير أن الله لم يكن يحفل بالرد على ولد

يستخدم الدموع على أنها حبر أو كلمات

يأتي المقطع الرابع لتتسع زاوية الرؤية أكثر على قضايا القرية ومشاكلها المزمنة، فكاتب الخطابات/الشاعر يتجه في هذا المقطع إلى رصد أكثر تفصيلا عن القضايا المصيرية للقرية، فيتحدث عن القضايا الدينية والأمراض المزمنة التي تحاصر أبناء القرية، وعن الفقر الذي يتحكم في حياتهم ويحكم مصائرهم، وفي كل حديث عن قضية من القضايا كان يصف الحلول اللازمة والناجعة التي تخلص القرية من مأساتها المتوارثة منذ عقود طويلة (كان يكتب أحياناً فى الهواء دون أن ينسى وضع النقاط على الحروف) ورغم التشخيص الدقيق للداء والوصف الناجع للدواء فلا شيء يتغير؛ إذ لا يهتم أحد، ولا يلين قلب لهذا الاستجداء المستمر والدموع النازفة (غير أن الله لم يكن يحفل بالرد على ولد يستخدم الدموع على أنها حبر أو كلمات) إذ لم يكن من أهل القرية أحد له سلطة القرار، فهم فقراء بسطاء وليس من بينهم ذو سلطة أو جاه يمكن أن يتحدث باسمهم، ولكن المتحدث باسمهم واحد منهم ينتمي إلى البيئة نفسها، ويعاني من المشاكل نفسها التي تعاني منها القرية، ولا يملك الجميع سوى الاستجداء والدموع لعل أحدا يرى أحوالهم البائسة وفقرهم المدقع فيتعطف عليهم بقرار ينتشلهم من مآسيهم المتعددة ومعاناتهم المتنوعة. لقد استطاع كاتب الخطابات بحكم موقعه المعرفي في القرية أن يعبر عن أوجاعها ومآسي أبنائها، ولكنه لا يملك غير ذلك، وهنا لابد من الإشارة إلى جوانب الرؤية في هذا المقطع التي رصدها كاتب الخطابات، فالقرية تعاني من الجمود الديني الذي يجعل معظم أبنائها يسيرون في دوائر التقليد التي تحرم القرية وأبناءها من أي شكل من أشكال التغيير في أنماط الحياة الدينية ومن ثم تغيير النظرة المتوارثة لشرائح المجتمع القروي (كان يكتب بالنيابة عنها خطابات إلى الله/عن انتظارها المزمن) إن الله وحده هو المنقذ للقرية وأهلها بعد أن يئسوا من قرار ينتشلهم من واقعهم المأساوي، ثم يأتي الحديث عن الفقر (عن البيوت الواطئة التى لم تكن قادرة يومًا على تبرير فقرها) فالإشارة واضحة إلى أن الإهمال للقرية هو السبب وراء هذه المآسي، ولكن أهل القرية لم يكونوا قادرين على فهم الأسباب الحقيقية وراء هذا الإهمال، وتبرير الفقر المدقع الذي يعيشون فيه،ثم ينتقل كاتب الخطابات إلى جانب آخر مظلم في حياة القرية وأهلها (عن البلهارسيا قبل أن تتقوض سلطتها) وهو المرض الذي حصد أرواح الآلاف من أبناء القرى قبل أن تتقوض سلطته بإيجاد علاج ناجع له. إن حديث كاتب الخطابات يحكمه كله قوله (عن انتظارها المزمن – الأقفال الصدئة التى ملَّت دورها) فالانتظار المزمن للحلول، والأقفال الصدئة التي لم يستطع أحد أن يكسرها هما الإطاران اللذان يكبِّلان القرى ويتحكمان في مصير أبنائها؛ ليظلوا جميعا يدورون في دوائر الفقر والجهل والمرض، تلك الدوائر الجهنمية التي حصدت الأرواح، وقضت على مظاهر الجمال والحياة في القرية.

  • 5 –

يا الله

الأرامل ما زلن ينتظرننى

وشوارع القرية أخذت منى خطواتى على سبيل الرهن

لحين الوفاء بالدين

فلا تحرج أصابعى

أقلامى الجافة التى كتبت إليك

أن تسمح لـ ” أبى ” بزيارة أمى

حتى فى أحلامها

أن يستأذن من قبره ساعة كل ليلة ويترك لها

ما يكفيها من المصاريف والقبلات

كى تكفّ عن البكاء

لقد انتقل الشاعر/كاتب الخطابات إلى زاوية أخرى متجاوزا الزمان الماضي لينتقل إلى الزمن الحاضر؛ فلقد غادر القرية التي شكَّلت وجدانه، ورسمت ملامحه، وسيطرت قضاياها على تفكيره، (كان يتصرف فى حصة القرية من الكلمات كأنه وريثها الوحيد بحيث يجد لكل قلب ما يناسبه ) غادر الشاعر إلى عالمه الفسيح متجهًا صوب المدينة، ولكن القرية وأراملها ما زلن ينتظرنه للتعبير عن معاناتهن (الأرامل ما زلن ينتظرننى وشوارع القرية أخذت منى خطواتى على سبيل الرهن لحين الوفاء بالدين) فهل يُعَدُّ ذلك إدانة من كاتب الخطابات/الشاعر لنفسه أن وقع فيما انتقد فيه غيره فيما مضى؟ أو كان اعترافا بتقصيره في حق بيئته التي نشأ فيها وتحدث باسمها في بداياته، وعبَّر عن معاناة أهلها؟ يبدأ الشاعر/كاتب الخطابات المقطع بالنداء التعجبي (يا الله) ليسجل أن القرية ما زالت على حالها من الإهمال رغم مرور الزمن، وما زالت الأرامل في انتظار من يعبِّر عنهن (الأرامل ما زلن ينتظرننى ) وقد أخذت منه شوارع القرية خطواته رهنًا إلى حين يسدد دينه الذي عليه، وهو الوفاء لقريته التي نشأ فيها وعلم مأساتها، ومعاناة أهلها، وهذا يعني أنه لم يعد يسير في شوارع القرية، فهل حرمته القرية من السير في شوارعها أو أنه تاه عنها في المدينة التي استحوذت عليه؟ وازداد الإحساس بالابتعاد عن القرية وقضاياها، فكانت أمنيته أن تمنح القرية والده الذي توفي أن يزور أمه في أحلامها، فكأن والد الشاعر/كاتب الخطابات قد امتنع عن زيارة والدة الشاعرة تلبية لرغبة القرية إلى حين عودة الابن/كاتب الخطابات إلى قضايا القرية، والتعبير عنها وعن مشاكلها، وإن كانت الأم لا تكفُّ عن البكاء لفراق والده الذي توقف عن زيارتها في المنام تضامنا مع القرية التي أخذت خطوات الشاعر/كاتب الخطابات على سبيل الرهن إلى حين الوفاء بالدين، لقد نجح الشاعر في تصوير الانتقال عن القرية، وارتباط القرية وأهلها به، وحرصها على أبنائها حتى وإن ابتعدوا عنها، وأخذتهم الحياة بشواغلها، كما عبَّر الشاعر عن أن مشاكل القرى لم تنتهِ، وقضاياها مازالت تحتاج إلى الاهتمام اللازم.

  • 6 –

أنا كاتب الخطابات يا رب

كانت السطور تجرى تحت يدى كما تجرى السنوات دون أمجاد

بالعكس

كم من حياة ترملتْ فى صناديق البريد بسببى

عاد الأزواج فوجدوا زوجاتهم فى حضن التراب

وأحياناً كانت خطاباتى تذهب إلى العناوين الخطأ

ومرات كثيرة لم تستطع اجتياز الحدود

أنا كاتب الخطابات

عشت عالقاً

أتجول فى المسافة بين كل قلبين

حتى تحولتُ إلى خطاب أرسل منذ زمن بعيد

لكن لم يصل عليه جواب .

ثم يأتي المقطع السادس والأخير من القصيدة ليغلق الدلالة فيما يشبه مناجاة اليائس، ولجوء العاجز إلى الله داعيا إياه، وطالبا عونه، معترفا بعجزه، في لوحة بالغة العمق والدلالة، تبدأ بالتعريف عن النفس (أنا كاتب الخطابات يا رب) إنها بداية تشبه الإقرار بالعجز التام، ومحاولة الاستغفار عن شيء ما سيتضح فيما بعد (كانت السطور تجري تحت يدي كما تجرى السنوات دون أمجاد) هل كان كاتب الخطابات مسؤولا بشكل أو آخر عن المأساة؟! فهو لم يكتسب أية أمجاد خلال فترات كتابته للخطابات، ولكنه كان سببا في الضياع بما يشبه إقرارا بذنب ما (كم من حياة ترملتْ فى صناديق البريد بسببى/عاد الأزواج فوجدوا زوجاتهم فى حضن التراب/وأحياناً كانت خطاباتى تذهب إلى العناوين الخطأ/ومرات كثيرة لم تستطع اجتياز الحدود) لقد فشل في أداء مهمته باعتباره مسؤولا عن القرية من حيث كونه المتعلم الذي ينبغي أن يقود مجتمع القرية إلى حياة أفضل، ولكنه فشل في ذلك؛ فقد ضاعت حيوات كثيرة بسببه، فالأزواج الذين خرجوا باحثين عن الحياة الكريمة عادوا فوجدوا زوجاتهم في حضن التراب، فقد ضاعت حيواتهم بسبب فشل ذلك المتعلم/كاتب الخطابات في الحفاظ على هذه الحيوات، فهل كان مجرد كاتب خطابات؟! أم أن القصيدة إدانة للمثقفين الذين فشلوا في انتشال المجتمع من مآسيه؟! وهل كان كاتب الخطابات رمزًا للمثقفين، والمتعلمين الذين كان ينبغي أن يأخذوا على عاتقهم تطوير المجتمع؟ ومن ثم تصبح القصيدة إدانة للفكر والثقافة وأهلهما الذين اكتفوا بالكلام دون الفعل وفشلوا في تطوير المجتمع فتركوه نهبا للجهل والفقر والمرض، ومن ثم تصبح القصيدة سيرة ذاتية للمجتمع إلى جانب كونها سيرة ذاتية للشاعر/كاتب الخطابات، ذلك المجتمع الذي أفنى حياته في تعليم أبنائه ليكونوا فاعلين، ولكنهم لم يستطيعوا الحفاظ على بنية المجتمع متماسكة، ولا الحفاظ على حيوات أهله، وقد سجَّل كاتب الخطابات ذلك صراحة (كم من حيوات ترمَّلت في صناديق البريد بسببي) ولفظ (كم) هنا دال على الكثرة، وفي إشارة أخرى دالة على الفشل يسجلها الشاعر/كاتب الخطابات قائلا (وأحياناً كانت خطاباتى تذهب إلى العناوين الخطأ) فما المقصود بالعناوين الخطأ؟ هل يقصد بها فشل الحلول المصروحة للخروج بالقرية من أزماتها؟ فلا يمكن اعتباره مجرد تعبير عادي، ثم يصل الإقرار بالفشل مداه في قوله (حتى تحولتُ إلى خطاب أرسل منذ زمن بعيد لكن لم يصل عليه جواب) فكاتب الخطابات لم يستطع انتشال مجتمعه من مآسيه، وتحول هو الآخر إلى نسيج ضائع من أنسجة هذا المجتمع، لم يعد المثقف/كاتب الخطابات هو السيف القاصم لظلام العقول والقلوب، ولا مؤرخ الشعوب وأمجادها ومحررها من مآسيها وأمراضها المزمنة، بل أصبح جزءا من مأساتها، وعلامة بارزة على فشله وفشلها، وقبل أن ننتقل إلى الجانب الثاني من جوانب التشكيل السيرذاتي وهو الجانب الإبداعي التخييلي لابد من العودة إلى ما أشار إليه جورج ماي في كتابه السيرة الذاتية عن دوافع استعادة  الذكريات والبوح  بها لنقرر أن الدوافع لدى الشاعر/كاتب الخطابات كانت مختلطة بين دوافع عقلانية تمثلت في الإدلاء بشهادة على أحداث اختزلتها الذاكرة الحياتية للشاعر، ودوافع عاطفية تمثلت في محاولة لعثور المرء على معنى لوجوده

                                            *** 

العنوان مفتاح تأويلي:                              

يعدُّ العنوان العتبة الأولى للولوج إلى عالم النص ودسائسه غير الممكنة، كما أنه الرسالة المشفَّرة بين الناصِّ والنصِّ من جهة والقارئ والنص من جهة أخرى، ومن ثم فإن رصد العنوان وتفكيكه من شأنه أن يكشف عن دلالات الخطاب وأسراره، وهذا يعني أن العنوان ذو دلالة خاصة ومثيرة بالنسبة للعمل الأدبي، ومتلقي هذا العمل في الوقت نفسه؛ فالعنوان يثير في المتلقي هاجس التوغل في كنه العمل الأدبي ومحاولة اكتشاف أسراره ودسائسه، والسباحة بين عوالمه الداخلية التي لا تنكشف للوهلة الأولى، ومن هنا يكتسب العنوان أهميته المائزة من حيث كونه نصا قصيرا أما العمل الأدبي فهو النص الطويل، وإذا نظرنا إلى عنوان النص/ كاتب الخطابات فإنه يضعنا منذ اللحظة الأولى في بؤرة التصور الدلالي للنص؛ إذ يتشكل من جملة اسمية حذف المبتدأ فيها، والتقدير (هذا كاتب الخطابات – أنا كاتب الخطابات) وبذلك يكون العنوان خبرًا لمبتدأ محذوف، ومن الممكن أن يكون تقدير الجملة الاسمية (هذه حياة كاتب الخطابات) وبذلك يكون العنوان مضافا إلى الخبر، ويكون المبتدأ والخبر في الجملة محذوفين، ومن الممكن أن يكون العنوان متشكلا من جملة فعلية، والتقدير (قال كاتب الخطابات)، فإذا افترضنا العنوان (هذا كاتب الخطابات) فإن هذا التكييف النحوي يقودنا إلى التصور الدلالي للنص؛ إذ يكون بذلك النص كله تسجيلا لحياة كاتب الخطابات، وكأن الشاعر يصف حياة هذا الكاتب الذي عاش فقيرا، وتصوَّر أن العلم سيمنحه الحياة الكريمة من خلال تربية الكلمات/الفكر، ورأى أن الحياة ينبغي أن يحكمها الفكر المتنامي الذي لا يملُّ التجدد والارتقاء، وتظهر علاماته بارزة في كل شيء، وتنعكس على الحياة بأسرها (تلك التربية التى لا يمكن أن تعرف كم من السنوات استغرقت ولا كم من التجاعيد لكنها تظهر فى اليدين) فهذا الفكر هو الزاد الذي ينتشل الحياة من مآسيها المتوارثة، ولكن كاتب الخطابات يكتشف أنه أصبح مجرد كاتب لخطابات النسوة في القرية، بل أصبح مجرد نسيج من أنسجة القرية يعاني مما تعاني منه بدلا من انتشالها، وفشلت الكلمات التي كان يربيها كما تربي أمه الكتاكيت في انتشاله هو أيضا من مأساته (ياما كتب عن نفسه وهو يكتب للأرامل خطابات يستنجدن فيها بالحظ) فالقرية لم تستطع أن تخرج من معاناتها، على الرغم من أنها قدَّمت التضحيات الكبيرة، وساهمت في الدفاع عن الوطن، ودفع أبناؤها حياتهم وسعادتهم ثمنا لهذا الوطن، لكن هذه القرية وأبناءها لم يستطيعوا رغم كل هذه التضحيات أن يخرجوا من مأساتهم التي يحكمها الفقر والجهل والمرض، وتحوَّل كاتب الخطابات نفسه  إلى رسالة من الرسائل التي ضلَّت طريقها، أو لم تعرف عنوانها الذي ينبغي أن تصل إليه (أتجول فى المسافة بين كل قلبين حتى تحولتُ إلى خطاب أرسل منذ زمن بعيد لكن لم يصل عليه جواب) ويكتشف في نهاية الأمر أنه جزء من أنسجة القرية المختلفة التي تشكلت من المعاناة، وأن التصوُّرات التي كانت تعانق فكره ووجدانه بالخلاص ما هي إلا سراب وأوهام، بل إنه كان ممن ساهموا بهذه التصورات في معاناة القرية وأهلها؛ إذ يقول (كم من حياة ترملتْ فى صناديق البريد بسببى) فهل كان يوهم أهل القرية أن الخطابات سوف تحلُّ مشاكلهم؟! وأنه عاش في هذا الوهم وجعلهم يعيشون فيه؟! ليصل في النهاية إلى هذا الاعتراف (أنا كاتب الخطابات .. عشت عالقاً أتجول فى المسافة بين كل قلبين حتى تحولتُ إلى خطاب أرسل منذ زمن بعيد لكن لم يصل عليه جواب). إن التكييف النحوي للعنوان جعلنا نتصوَّر هذا التشكُّل الدلالي، ولا يختلف الأمر إذا كان العنوان (أنا كاتب الخطابات) ولكن الاختلاف الوحيد في الدلالة هو أن الشاعر يعترف بأن هذه الحياة هي حياته، بيد ملامحها التي أشرنا إليها سابقا لن تتغير، ونحن نميل إلى هذا التصور؛ لأن الشاعر يقول ذلك صراحة في نهاية نصه فيما يشبه حالة وجدانية متدفقة، ومعبرة عن اليأس الذي وصل إليه فلم يجد أمامه سوى الاعتراف مناجيا ربه، وكأنه لم يجد مخرجا لهذه القرية من المعاناة سوى الله (أنا كاتب الخطابات يا رب .. كانت السطور تجرى تحت يدى كما تجرى السنوات دون أمجاد)، وإذا تخيلنا أن العنوان (قال كاتب الخطابات) فإن هذا التكييف النحوي يدفعنا إلى تصور النص حكاية لكاتب الخطابات يحكيها عن قرية من القرى مرَّت بهذه الأحداث، ثم يشير إلى أنه يشبه كاتب الخطابات في معاناته. وفي جميع الأحوال فإن العنوان قد أصبح مفتاحا تأويليا يقونا إلى التصوُّر الدلالي للنص، واستكناه عالمه.

لقد اشتمل العنوان (كاتب الخطابات) على عنصرين اثنين، هما (كاتب) الذي يمثل فاعل الحدث، و(الخطابات) التي تمثل تسجيلاً للحدث، وجاء اللفظان منزوعيْ الملامح، وهو ما سوف يكون فاعلا في تشكيل العلاقات اللغوية داخل النص والتي تتشكل بمقتضاها لعبة المعنى، كما أن نوعية الجملة من حيث خبريتها سوف تكون فاعلة أيضا في تشكيل المعنى العام للنص؛ إذ يتحول النص بذلك إلى خبر يحمله الشاعر إلى المتلقي، ولكنه ليس خبرا بالمفهوم التقليدي للخبر وإنما همٌّ يؤرِّق الشاعر، ويستحوذ على تفكيره، ويريد من المتلقي أن يشاركه هذا الهمَّ، ويتحمل معه أعباءه.

البناء الدرامي في النص

تتجلى قضية المعاناة بملامحها المتنوعة في النص، وتتقاطع أشكالها ومحمولاتها الرمزية؛ لتشكل زاوية مهمة من زوايا الرؤية، فالنص يحتفي بالبسيط والمهمَّش، ويرسم صورة محددة تضعهما في متن الرؤية، ومحور الفعل الشعري، وينقسم البناء الدرامي في القصيدة إلى ثلاثة محاور، المحور الأول الأمُّ التي تربي الكتاكيت في باحة البيت والابن الذي يربي الكلمات في فمه، في إشارة إلى الفقر المسيطر على المنزل وأهله، ورغبة أفراد هذا المنزل في الخلاص من هذا الفقر بالعلم الذي يرونه بابا للخلاص، ومن الملاحظ قلة عناصر هذا المحور وشخوصه وأحداثه؛ فهو يتشكل من عنصرين هما الأم والابن إلى جانب الكتاكيت، وبالتالي ضيق فضاء الرؤية  المتركزة على بيت واحد من بيوت القرية، واتساعها في الوقت نفسه لتكون نواة مؤسِّسة ينبني عليها مجتمع القرية بأكمله، ثم يأتي المحور الثاني ليشكل تطورا دراميا في النص فينفتح على مجتمع أوسع هو مجتمع القرية بأكملها، وهنا تتعدد عناصر المشهد الدرامي وتتنوع أحداثه، ليتشكل من كاتب الخطابات والأرامل والنساء اللاتي سافرن أزواجهن بحثا عن العمل والأخت التي تريد أن ترسل خطابًا إلى أخيها الذى مات فى الحرب ولم يجدوا جثته، وزملاء الجندي الشهيد، وهم عائدون يحملون أشياءه بدلا منه (فأرسلوا أشياءه بدلاً منه: الجورب الغليظ وبقايا جرة المشّ وصورة مكرمشة لحبيبته) والسيدة التي تلزق الخطاب بلسانها؛ لتطمئن على أنها أحكمت المظروف على الوحشة بعد أن تقبِّل المرسل إليه والعنوان، ومع كل عنصر من عناصر هذا المشهد الدرامي مجموعة من الأحداث ذات محمولات رمزية متنوعة، ثم يأتي المحور الثالث من محاور البناء الدرامي ليمثِّل خاتمة للنص الشعري وقصته بأكملها ونتيجة مأساوية للقرية وأهلها الذين حاولوا الخلاص بطرق شتى، منها العلم/تربية الكلمات/الفكر؛ للخلاص من الجهل، والسفر إلى الخارج بحثا عن الرزق؛ للخلاص من الفقر، والتضحية بالنفس والحبيبات دفاعا عن الوطن، وقد جاء المحور الثالث من محاور البناء الدرامي  منقسما إلى قسمين في مقابلة للمحورين الأول والثاني ليمثل انتكاسة لعناصر المحور الأول وكذلك انتكاسة لعناصر المحور الثاني؛ ففي الجزء الأول من هذا المحور نجد الأرامل ما زلن ينتظرن كاتب الخطابات؛ ليكتب لهن خطابات يستنجدن فيها بالحظ، في إشارة إلى أن خلاصهن بعيد المنال، وكذلك فإن الأزواج قد عادوا ليجدوا زوجاتهم فى حضن التراب، ومن ثم فقد ضاعت الحياة، وإذا كانت المرأة رمزا للنماء والعطاء والحياة فإن وفاتها يمثل ضياعا للحياة وانتفاء الرغبة في الاستمرار، وإذا كانت هذه المرأة زوجة تمثل السكن والراحة والأمان فإن فقدانها يعدُّ فقدانا لتلك العناصر، ومن ثم فإن هذا الجزء من المحور الثالث كان انتكاسة لعناصر المحور الثاني الذين كانوا راغبين في الخلاص من معاناتهم ومآسيهم، أما الجزء الثاني من المحور الثالث فإنه يمثل انتكاسة لعناصر المحور الأول المتمثل في الشاعر/كاتب الخطابات الذي كان يرى في العلم خلاصا، إذ كان يتصرف فى حصة القرية من الكلمات كأنه وريثها الوحيد، كما كان يجد لكل قلب ما يناسبه، وكذلك كان يكتب بالنيابة عن القرية وأهلها خطابات إلى الله، في إشارة إلى الناحية الدينية، ولكنه يكتشف أن السطور تجرى تحت يده كما تجرى السنوات دون أمجاد، فلم يحقق شيئا، بل إنه عاش عالقًا يتجول فى المسافة بين كل قلبين حتى تحوَّل هو نفسه إلى خطاب أرسل منذ زمن بعيد لكن لم يصل عليه جواب، وبذلك تنغلق الدلالة ويضع النص عصا الترحال على نهاية مأساوية مفادها ألا خلاص من معاناة الشاعر وقريته.

من الواضح أن القصيدة منذ سطورها الأولى تختطُّ لنفسها خطا دراميا محددا يتناسب مع شكلها السردي الهادئ المتدفق ظاهريا، والمتفاعل الموَّار الهادر باطنيا، ومنذ العنوان تنبئ القصيدة أن الشخوص الواردة فيها ليسوا شخوصا محدَّدين، ولكنهم يمثلون  قيما اجتماعية وفكرية عامة يتوزع حضورها على مساحة القرى بأكملها، وفضاءات البنى الاجتماعية والفكرية والدينية الفاعلة والمشكِّلة لأنسجة الحياة بكل تفاصيلها، والمتحكمة في مصائر القرى وشرائحها المختلفة مهما علا قدرها أو انخفض، وبذلك تخرج القصيدة من إطارها المحدود بحدود السيرة الذاتية لشاعر عاش في مكان محدد، ورصد ملامح فضائه الاجتماعي والفكري إلى اتساع زاوية الرؤية، فتشكل بذلك إطارا عاما لملامح القرى في بلدان متعددة ومجتمعات مختلفة، ومعنى ذلك أن الأنا الشاعرة/كاتب الخطابات، ومعه كافة عناصر القصيدة/الأرامل والأم التي تربي الكتاكيت، والجندي وزملاؤه، وغير ذلك من عناصر القصيدة، كل هؤلاء قد خرجوا من الطبيعة الفيزيائية ليصبحوا تجريدا خالصا، فتتخلى القصيدة بذلك من خلال عناصرها المشكلة لها عن الطبيعة الفيزيائية لتتلبس بالطبيعة التجريدية فتتحول إلى طبيعة إدراكية سائلة، فكاتب الخطابات لم يعد ذلك الشاعر الذي عاش في بيئة فقيرة، وعبَّر عن شرائحها الاجتماعية، ولكنه أصبح رمزا لكل معبِّر عن المجتمعات وما يعتورها من تغييرات حادة تجعلها رازحة تحت قبضة الفقر والجهل والمرض، واهتراء المشهد الثقافي والفكري والديني، وحيرة كاتب الخطابات، وعجزه عن معرفة الجهة التي يوجِّه لها رسائله وخطاباته، في إشارة إلى تشابك الجهات المختلفة ومسؤوليتها عن الوصول إلى هذه الحالة التي وصلت إليها القرية لحساب شرائح اجتماعية أخرى لا ترى من الضروري العاجل انتشال القرية/البيئات الفقيرة من حالات الضياع والمعاناة، أو لا تلتفت إلى تلك المعاناة المتعددة المستويات، وهنا تخرج القصيدة من إطارها المحلي لتعانق أطرًا إقليمية نستطيع أن نرصدها من خلال إبداعات متعددة في بيئات مختلفة، وأقاليم متنوعة، لتكون القصيدة بذلك ناطقا رسميا باسم هذه الشرائح والمجتمعات، وراصدة لملامحها مهما اختلفت البيئات وتنوَّعت الأقاليم، ولم تكن القصيدة لتكتسب هذه الصفة لولا خروجها من الطبيعة الفيزيائية إلى الطبيعة التجريدية السائلة، وهذه طبيعة قصيدة النثر عند البهاء حسين التي تحاول جاهدة أن تتخلى عن الغنائية المفرطة منعتقة من أسر الأطر الفكرية والبلاغية التقليدية، أو الانغماس الحاد في مخاطبة العالم الداخلي للشاعر في شكل طلاسم عصيَّة على الفهم والتأويل.

الثنائيات ودورها في إنتاج الدلالة

تسيطر على النص مجموعة من الثنائيات التي تتحكم في إنتاج الدلالة، وليست بالضرورة أن تكون هذه الثنائيات متضادة أو متطابقة، ولكنها يوضح بعضها بعضا ويكشف دلالته، ويختزل بعض بعضا، فمنذ اللحظة الأولى يخبرنا النص أننا أمام موقفين يؤديان مهمة متشابهة من الناحية الدلالية، ولكن كل واحد منهما يسير في اتجاه مختلف عن الآخر تماما، يقول النص (كان يربي الكلمات في فمه كما تربي أمه الكتاكيت في باحة البيت) فنحن أمام ثنائية تحتل المشهد كاملا في هذه السطور الشعرية، الأولى أمٌّ تربي الكتاكيت في باحة البيت، ويستدعي ذلك في البيئة الريفية أن تكون هذه الأم غير متعلمة، ومن ثم فإن وقتها كله أو معظمه يدور حول هذه المهمة، وهي تربية الكتاكيت، أما الطرف الثاني من الثنائية فهو شاب يربي الكلمات في فمه، وتتجه الدلالة هنا إلى الفكر، فهذا الشاب يقرأ ويداوم على القراءة والمعرفة، واكتساب الجديد، ، فطرفا الثنائية متشابهان من الناحية الدلالية وهي التربية، وقد أشرنا سابقا إلى أن أحد الطرفين يكشف ملامح الآخر، ويحدد أبعاده ودلالته،  وقلنا إننا إذا تخيلنا تربية الكتاكيت، وما تحتاج إليه من صبر وأناة، ورعاية مستمرة، وإدراك تام للغذاء اللازم، والتحصين المستمر ضد الأمراض المفترضة، والملاحظة الدائمة لحالة هذه الكتاكيت، إذا تخيلنا ذلك أدركنا ملامح تربية الفكر وما يحتاجه من صبر وأناة ومراقبة مستمرة لحالته وتناميه، وتراكم المعارف، وقدرة الوعي على الإدراك التام لما يحتاجه الفكر من مراقبة دائمة؛ حتى لا تختلط به الرؤى المتناقضة التي تربكه، وتخرجه عن إطاره العام.

أما الثنائية الثانية التي تظهر بوضوح في النص فهي ثنائية الحضور والغياب، وهي ثنائية ضدية، وقد بدت هذه الثنائية في العلاقة بين الأزواج في القرية، فالزوجات حاضرات أما الأزواج فإنهم غائبون، وعندما حضر الأزواج في نهاية النص غابت الزوجات، ولكن غياب الأزواج في بداية النص كان غيابا عن المكان فقط، بيد أن غياب الزوجات في نهاية النص كان غيابا أبديا نتيجة الموت، وقد تحكمت هذه الثنائية بصورة كبيرة في إنتاج دلالة النص، فغياب الأزواج أدى إلى تمزق الأسر، وحنين الزوجات الذي عبَّر عنه الشاعر بقوله (يعرف من انتصاب الحلمات أن إحداهن تريد أن ترسل خطابًا إلى زوجها المغترب من شحوب الوجه من اللوعة من اشتياق الملامح ليد تلمسها من العين حين تلمع وتصبح سريرًا يعرف أن السيدة بحاجة لأن تتقمص دور ملاءة تتلوى) فالحياة الزوجية ليست طبيعية؛ لأن الزوج غائب والزوجة في لوعة دائمة وحنين مستمر، فلا هي قادرة على تحقيق مفهوم الزواج من خلال الارتواء نفسيا أو جسديا أو اجتماعيا، ولا هي قادرة على الركون إلى زوجها وقت الشدة والاحتياج إليه، ومن ثم فإن الثنائية هنا قد أبرزت تمزق العلاقات الزوجية، والتفكك الذي أصاب الأسرة في القرية، وحين حضر الأزواج كانت الزوجات قد غادرت الحياة نهائيا في إشارة إلى طول غياب الأزواج، ومن ثم فإن الأسرة في القرية تعيش في ضياع سواء حضر الأزواج أو غابوا؛ لأن غيابهم غياب للرعاية للأسرة والزوجة، وحضورهم فيه غياب للزوجة، وبالتالي فإن اللقاء المباشر بين الأزواج يكاد يكون مستحيلا نتيجة هذه المعادلة الصعبة.

التشكيل البلاغي وإنتاج الدلالة

وسوف نتوقف في هذا الجزء من الدراسة عند التشكيل البلاغي للنص، ومدى قدرته على إنتاج الدلالة، فنتوقف أولا عند التشكيل البديعي للنص، ثم نتوقف مع النص بين الخبرية والإنشائية، كما نتوقف أمام بعض الصور البلاغية الواردة في النص محاولين اكتشاف علاقة كل ذلك بالإطار العام للرؤية التي أوضحناها سابقا، وقدرة ذلك على استكناه عالم النص، والبوح بما لم يبح به في التحليل السابق؛ فقد تعاضدت الآليات جميعا للكشف عن الرؤية المتخفية خلف شبكة العلاقات اللغوية، والانحيازات الجمالية في النص، فهذه الزاوية من زوايا التحليل هي محاولة لاكتشاف جوانب أخرى لم تستطع زاوية التحليل السابقة الكشف عنها، أو لتأكيد ما رصدته زاوية التحليل السابقة؛ لتتجلى بذلك عوالم النص، وتنكشف الدلالة، وتصل الرسالة التي أرادها المبدع، وأطلقها مغلَّفة بمجموعة من الأقنعة؛ كي يغري المتلقي بمتابعة إغواءات النص من أجل اكتشاف دسائسه.

أولا: التشكيل البديعي للنص

يعدُّ أسلوب التفصيل بعد الإجمال أحد العناصر البديعية التي يعتمد عليها الشاعر في بناء صوره، ولابد أن نؤكد أن “الجانب الإشاري للتركيب هو الذي يقوم بتشكيل الدلالة وإنتاجها من خلال مجيء هذا التركيب ضمن شبكة من العلاقات التي تربط بينه وبين غيره من الدلالات المتخفية خلفه، والتي تمثل خلفية تصوُّرية يمكن دفعها إلى ذهن المتلقي من خلال التركيب البارز على السطح” (د . محمد سعيد شحاتة، قصيدة المديح في شعر حمد أبو شهاب: مقاربة نقدية، 150) أما الإجمال فقد عرَّفه علي بن عبد العزيز الجرجاني بأنه (إيرادُ الكلام على وجه يحتمل أمورا متعددة) (التعريفات، ص 13)  وفي تعريف آخر (إيراد الكلام على وجه مجمل) وهذا يعني أن اللفظ المجمل غير دال بصورة واضحة ودقيقة على المعنى المراد التعبير عنه؛ لأنه يحتمل أمورا متعددة، ومن ثم فهو غير محدد الدلالة، فيأتي التفصيل ليوضح ذلك، وقد عرَّف الجرجاني التفصيل بأنه (تعيين تلك المحتملات أو كلها) ومن ثم فإن التفصيل هو ما كان مبينا ومفسرا لمجمل كلام سابق لغرض من الأغراض البلاغية، أو كما قال الخطيب القزويني (البيان الذي يرد على الإجمال فيزيل الإجمال عنه) (الإيضاح في علوم البلاغة 3/196) وقد لجأ الشاعر إلى أسلوب التفصيل بعد الإجمال للكشف عن المعنى المراد التعبير عنه فقال (فأرسلوا أشياءه بدلاً منه: الجورب الغليظ  .. وبقايا جرة المشّ .. وصورة مكرمشة لحبيبته) ففي البداية أورد الشاعر المعنى مجملا (فأرسلوا أشياءه بدلا منه) ولكن هذا المعنى المجمل لم يكن قادرا على الإيفاء بالدلالة المراد التعبير عنها والإشارة إليها، بل قد يؤدي تماما إلى غير المعنى المراد من الشاعر، فمن الممكن أن تكون هذه الأشياء التي تم إرسالها هي حقائبه ومقتنياته والأموال التي كان يدخرها، وهنا يذهب ذهن المتلقي إلى غير ما أراده الشاعر؛ فالدلالة المرادة هنا هي الإشارة إلى الفقر الشديد الذي يعاني منه هذا الجندي؛ فهو لم يأخذ معه سوى ما توفر له من بيئته الفقيرة، ومن ثم استدرك الشاعر فأثبت الأشياء التي أرسلت؛ ليكون ذلك دالا على المعنى المتوافق مع الرؤية العامة للنص، فقال (الجورب الغليظ  .. وبقايا جرة المشّ .. وصورة مكرمشة لحبيبته) وهذا التفصيل يرتبط بالدلالة الكلية للنص، والرؤية الفكرية للشاعر، ومن التفصيل بعد الإجمال كذلك قول الشاعر (كان يكتب بالنيابة عنها خطابات إلى الله .. عن انتظارها المزمن .. عن البلهارسيا قبل أن تتقوض سلطتها .. عن الأقفال الصدئة التى ملَّت دورها  .. عن البيوت الواطئة التى لم تكن قادرة يومًا على تبرير فقرها) فقد أورد المعنى مجملا في البداية حين قال (يكتب بالنيابة عنها) ولكن هذا التعبير وحده لم يكن قادرا على الإيفاء بالدلالة المرادة فلجأ الشاعر إلى التفصيل فذكر الانتظار المزمن، وفيها إشارة إلى أن هذا الانتظار لا نهاية له؛ لأنه كالمرض المزمن الذي لا شفاء منه، ولكن على المريض أن يتعايش معه، وكذلك على القرية أن تتعايش مع ذلك الانتظار دون أن يكون له نهاية مرجوة، كما أشار الشاعر إلى البلهارسيا قبل أن تتقوَّض سلطتها في إشارة إلى ما حصدته البلهارسيا من أرواح أهل القرية قبل أن تتراجع حدَّتُها، ويتم اكتشاف العلاج لها، ثم ذكر الشاعر البيوت الواطئة في إشارة إلى الفقر الذي يعانيه أهلها، ولم تستطع هذه البيوت ولا أهلها تبرير فقرهم، أو معرفة أسبابه، وإن كانوا قادرين على معرفة نتائجه الملموسة بينهم، ومن ثم كان التفصيل قادرا على رسم ملامح المشهد كاملا، ولو لم يذكر الشاعر التفصيل وعناصره لما استطاع المتلقي أن يدرك مرامي الشاعر من قوله (يكتب بالنيابة عنها) في إشارة إلى القرية.

وقد يلجأ الشاعر إلى التفصيل مباشرة مع حذف اللفظ المجمل توافقا مع التكثيف اللغوي الذي تتصف به القصيدة مع عدم الإخلال بالمعنى والدلالة فيقول (يعرف من انتصاب الحلمات .. أن إحداهن تريد أن ترسل خطابًا إلى زوجها المغترب  .. من شحوب الوجه .. من اللوعة .. من اشتياق الملامح ليد تلمسها .. من العين حين تلمع وتصبح سريرًا) فقد لجأ الشاعر إلى التفصيل مباشرة فذكر انتصاب الحلمات وشحوب الوجه واللوعة واشتياق الملامح والعين اللامعة، وكلها علامات دالة على شوق الزوجة إلى التحدث إلى زوجها من خلال الخطاب؛ لتعبر عن شوقها إليها، ورغبتها في التواصل معه معبِّرة عن حبها له، وافتقادها إياه. وإذا كانت الأغراض البلاغية للتفصيل بعد الإجمال متعددة بين التشويق والتوكيد والتوضيح فإننا نرى أن الغرض من استخدام الشاعر لهذا الأسلوب هنا هو التوضيح؛ فقد عرَّفه الجرجاني بأنه (عبارة عن رفع الإضمار الحاصل عن المعارف) ولكن ذلك لا يمنع أن تنضاف دلالة التشويق إلى دلالة التوضيح؛ فليس غرض الشاعر التخييلي مجرد الشرح والتوضيح فقط، ولكنه أيضا يلجأ إلى تشويق المتلقي لمتابعة النص، والبحث عن دلالاته المتخفية خلف شبكة علاقاته اللغوية. لقد نجح الشاعر من خلال استخدامه أسلوب التفصيل بعد الإجمال في الكشف عن المعنى المراد، وإنتاج الدلالة في الجمل الوارد فيها هذا الأسلوب لتتوافق بذلك مع الدلالة الكلية للنص.

ثانيا: النص بين الخبرية والإنشائية

يحكم الأسلوب الخبري سيطرته على النص بشكل كامل؛ فلم يرد في النص سوى أسلوب  إنشائي واحد في النهاية في قول الشاعر (أنا كاتب الخطابات يا رب) وهو أسلوب نداء خرج عن معناه الحقيقي إلى أداء معنى مجازي الغرض منه التضرع، أما بقية أساليب النص فقد جاءت كلها خبرية، ومن البدهي أن يكون للأسلوب الخبري حضور بارز في النص؛ لأن الشاعر يخبر عن التجربة الحياتية بكل تفاصيلها، وتشابكات عناصرها، وتداخل خيوطها، وتنوُّع أحداثها، وقد تنوَّعت الأغراض البلاغية لهذه الأساليب الخبرية، ويعدُّ السياق المحدد الفعلي لدلالة الأساليب من خلال (كشفه عن دلالات الأبنية اللغوية التركيبية بصورة دقيقة لا ينصرف الذهن إلى غيرها من الدلالات التي يمكن أن تتضمنها أو تؤديها سيما تلك التراكيب المحتملة لأكثر من معنى وبواسطة تجاوز الكلمات حدودها المعجمية المعروفة إلى دلالات جديدة قد تكون مجازية أو إضافية أو نفسية أو إيحائية أو اجتماعية، أو غير ذلك من الدلالات) (شاذلية سيد محمد السيد، السياق وأثره في بيان الدلالة، ص 6) ومن الأساليب الخبرية ما جاء دالا على التقرير، مثل (كان يربي الكلمات في فمه كما تربي أمه الكتاكيت في باحة البيت)  فالشاعر يقرر واقعا حيًّا تعيشه القرية وأبناؤها؛ فتربية الكتاكيت صفة ملازمة لأبناء القرية، وفي الجوار قد نرى الأبناء وهم يقرأون، فلا يوجد في ذلك الوقت في القرية إلا نادرا اختصاصُ الأبناء بحجرات منفصلة للقراءة أو المذاكرة، ولكنهم يكونون في باحة البيت، ومن ثم فإن الشاعر حين يرصد مشهد تربية الكتاكيت وبجواره مشهد تربية الكلمات، أي القراءة والتعلم فإنه يقرر واقعا معاشا في القرية بصفة عامة. ومن الأساليب الخبرية الواردة في النص قول الشاعر (كان يتصرف فى حصة القرية من الكلمات كأنه وريثها الوحيد .. يجد لكل قلب ما يناسبه) وإذا تأملنا الدائرة اللغوية الوارد فيها الأسلوب سنعرف أن الغرض منه الفخر وارتفاع الشأن، فكاتب الخطابات هو الوريث الوحيد لحصة القرية من الكلمات، أي أنه الذي يمتلك الفكر، ومن ثم فهو القادر على الحديث باسم القرية، والتعبير عن قضاياها وآلامها وهمومها وآمالها، كما أنه يستطيع أن يجد لكل قلب ما يناسبه، وهو يدل على الفهم لاحتياجات الناس في القرية وعلى دراية بما يشغلهم، ويندرج في ذلك أيضا الأسلوب الخبري في قوله ((يعرف من انتصاب الحلمات أن إحداهن تريد أن ترسل خطابًا إلى زوجها المغترب) فهو يدل على الفهم والمعرفة، أما قوله (تقبّل المرسل إليه والعنوان وعندما ينتهى تلزق السيدة الخطاب بلسانها) فإنه يدل على الشوق الشديد، ذلك الشوق الذي ظهر من خلال تقبيل اسم المرسل إليه الموجود على الخطاب وكذلك تقبيل العنوان، وأما قوله (لم يعرف أبداً لمن يوجه الخطابات (فإن الغرض منه الحيرة، تلك الحيرة التي بدت من خلال استخدام اللفظ (لم يعرف)  فرغم أنه القادر على الفهم، وأنه الوريث الوحيد لحصة القرية من الكلمات، وأنه الذي عاش حياته يكتب الخطابات، ويعبر عن المطلوب، ويفهم من خلال الحركات الجسمانية ما يعتمل في الصدور، وما يدور في الأذهان إلا أنه لم يستطع أن يعرف الجهة أو الشخص الذي يوجه له الخطابات في لمحة موحية بالعبثية المفرطة من صاحب الخطابات الذي عاش حياته كاتبا للخطابات، وكان يظن أنه يفهم كل شيء بحكم كونه متعلما، ووارثا وحيدا لميراث القرية من الكلمات لينتهي به الأمر غير عارف لمن يوجِّه الخطابات، بل ينتهي به الأمر بالأسلوب الخبري الدال على التحسر في قوله (تحولتُ إلى خطاب أرسل منذ زمن بعيد لكن لم يصل عليه جواب) فهو أسلوب خبري أنهى به الشاعر النص؛ ليدل على التحسر على حاله الذي آل إليه من تحوله إلى مجرد خطاب أرسل منذ زمن بعيد ولم يصل إلى عنوانه في إشارة إلى فقدان الأمل في تحقيق أهدافه، وقد كان ذلك واضحا منذ زمن بعيد ولكنه لم يره، ومن ثم تحسَّر على نهايته التي انتهى إليها. ومن الملاحظ تنوُّع الأساليب الخبرية بين أساليب خبرية ابتدائية، وأساليب خبرية دالة على الشك أو الإنكار أما الأساليب الابتدائية فهي التي لا يوجد فيها أي نوع من أنواع التوكيد مفترضة خلوَّ ذهن المتلقي، فهو ليس شاكًّا ولا منكرا، وقد ورد  هذا النوع من الأساليب بكثرة في النص، منها (فأرسلوا أشياءه بدلاً منه: الجورب الغليظ وبقايا جرة المشّ وصورة مكرمشة لحبيبته – تقبّل المرسل إليه والعنوان وعندما ينتهى تلزق السيدة الخطاب بلسانها – كان يتصرف فى حصة القرية من الكلمات كأنه وريثها الوحيد … الخ) أما الأساليب الخبرية غير الابتدائية فإنها تقوم بإنزال غير الشاكّ منزلة الشاكِّ وهذا الغرض يجعل من المُخاطب “خالي الذِّهن” شاكًّا أو منكرًا لمعلومة يقولها المُتكلِّم، فيسوق المُتكلِّم في الجُملة مؤكِّدًا واحدا أو أكثر؛ ليواجه بها شكَّ المخاطَب أو إنكاره – وإن لم يكن مُنكِراً في حقيقة الأمر- وينبغي أن نشير إلى أنّ المُؤكِّدات في هذه الأغراض البلاغيّة ليست إضافاتٍ شكليّة زخرفيّة، ولكنها تمثل إضافات لغويّة تُعطي قوة للمعنى، ومن ذلك قوله (كان يقول إن طرقات القرية أكثر حظاً منهن حيث تمشى فيها البغال والحمير عارية) فقد ورد في النص أداة التوكيد (إنَّ) فيما يشبه أن تصوُّر المتلقي قد شكَّ في الخبر الذي هو أن طرقات القرية أكثر حظا من الأرامل؛ لأن الطرقات تمشي فيها البغال والحمير عارية، أي دون خجل على عكس الأرامل التي تخجل من التصريح برغباتهن وإن كانت مشروعة، وعندما تصوَّر المبدع شكَّ المتلقي في هذا الخبر أورد التوكيد؛ ليؤكد صحة الخبر الوارد على لسان المبدع، وبذلك أنزل المبدع المتلقي الخالي الذهن منزلة الشاكِّ فأورد التوكيد، وتكثر المؤكدات كلما ازداد شكَّ المتلقي في الخبر.

لقد ساهم التشكيل البلاغي في النص في الكشف عن ملامح الرؤية المتخفية خلف شبكة العلاقات اللغوية، وتحولت العلاقات البلاغية إلى معادل للعلاقات اللغوية في النص.

وهنا تضع الدراسة عصا الترحال لتكتفي بهذه الإشارات موقنة أن النص يشتمل على الكثير الذي يمكن قوله، ولكن الإشارة تكفي المتلقي الذكيَّ الذي يستنتج مما أشير إليه سابقا كلَّ ما لم تشر إليه الدراسة.

 

مقالات من نفس القسم