هاني عبد المريد
لم يكن أحد يعرف ما يعاني منه جدي بالضبط، لكن الجميع بالرغم من كل شيء يعرفون أنه يحب جدتي، لا يستطيع البقاء من دونها ولو لدقيقة واحدة، كان يعاملها كبرتقالة يلمسها كما تلمس أيدينا برتقالة، يستشعر رائحة البرتقال ما دام يجانبها، يجانبها! يجانب الشيء ربما تأتي بمعنى يتجنبه أي لا يخالطه، لم أكن أعني ذلك، أظنني عنيت ما دام بجانبها، نعم كان جدي يستشعر رائحة البرتقال ما دام بجانبها، كان يقشر جدتي، يفصفصها، أتخيلني أخطأت مرة أخرى، نعم أعرف أن الفصفص هو نبات البرسيم، بالتأكيد لم يكن جدي يحوّل جدتي لبرسيم، وهو الذي يعاملها كبرتقالة بل كان يفصصها، نعم يفصصها ويأكلها في كل ليلة، وكان رزاز قشرها يتطاير من حوله، وقد يسعل، بل يلسع عينيه لو لم يحذر، أعرف أن بعض الخبثاء يأخذون كلامي على محمل آخر، وأنا بدوري أتفهم طريقة تفكيرهم التي اعتادت المجاز، وبدوري أقرر تأكيدي كما أكرره دومًا للجميع، إذن كنت أقصد قول أكرر تأكيدي، وربما قصدت أقر تأكيدي بأن كلامي يخلو من المجاز، نعم كلامي يخلو من المجاز، أنا رجل لا يعرف المجاز، لا تحمل كلماتي أي مقاصد أخرى غير ما نطقت به بالضبط.
سردي ممل، به الكثير من الأخطاء والارتباك، أنا رجل مرتبك، ترددت كثيرًا في الإقدام على ما أفعل، لكنه الاضطرار، وأنا أتفهم موقفكم تمامًا ليس لكم ذنب في تحمل ما أعاني، لذا فأنتم في حل عن المتابعة، يمكنكم الآن تركي، يمكنكم نسيان أمري تمامًا قبل التورط معي أكثر، أعرف أن لا شيء يلزمكم بمتابعة سرد متعثر لقصة قد لا تهمكم.
إذا كنتم موجودون حتى الآن فأنتم نوعان إما متعاطفون مع تعثري أو مهتمون بما سأقول، على المتعاطفين الرحيل، فمهما كانت مشاكلي لا أطيق نظرات التعاطف في عيونكم، تذبحني وتقضي على ما تبقى لدي من تركيز، أظن أن الباقين معي الآن هم الأكثر صبرًا واهتمامًا، إذن تعالوا.
كان جدي ينادي جدتي بالبرتقالة، وحين يريد تدليلها ينسبها لنفسه فيقول برتقالتي، اعتبر الناس الأمر زيادة في المحبة، وكان كثير من الرجال لا يحبون أن تشاهد زوجاتهم معاملة جدي لجدتي، لم يكن أحد حينها يسمع شيئًا عن العمه الإبصاري، العلم يقول إن جدي كان مريضًا، لم يكن أعمى كان يرى جيدًا، ربما كان ذا بصر حاد بمقاييس الرؤية العادية، لكنه كان مصابًا بالعمه، هذا ما قيل وما لم أفهمه على نحو دقيق، لكنني أظنه في لحظات ما يرى بوعيه، وربما كان وعيه مشوشًا، لا أعرف، لا أفهم أيضًا كيف توصف مثل هذه الرقة بالمرض، جدي قد لا يرى ما تراه عيناه، لديه طريقة أخرى للتعامل مع الأشياء، فقد يتعامل مع زميله بالعمل باعتباره عمود إناره، هل يلقي أحد السلام على عمود إنارة، لذا كان يتلقى اللوم طوال الوقت، على أشياء لم يقترفها أوعلى أشياء اقترفها، دون أن يرى سببًا للوم.
كان من المرفوض أن تعيش جدتي مأساة مع زوج يعاملها كبرتقالة، عفوًا كان من المفروض، لكنها كانت وللمصادفة العجيبة مصابة بالتشيؤ، أن تتعامل مع نفسك كشيء، لعلكم توقعتم الآن، نعم كانت جدتي ترى نفسها بالفعل برتقالة، تتعامل في كثير من الأوقات بوعي برتقالة، فتحب أن تجلس في منتصف الصالة الواسعة وتتدحرج، تحب أن تتكور بين يدي جدي، تشعر بالاحتواء الكامل لكفيه، سيعتقد بعضكم الآن أنها كانت تعيش مأساه بالفعل، وأن ما حدث أنها اقتنعت بكونها برتقالة من معاملة جدي لها لسنوات على هذا الأساس، لكن بالرجوع للعائلة، والبحث الطويل والتقصي، لم يتمكن أحد من تأكيد أيهما أثّر على الآخر، أي لا أحد يعرف بالضبط هل عامل جدي جدتي كبرتقالة لأنها كانت ترى نفسها كذلك، أم رأت جدتي نفسها برتقالة لأن جدي كان يراها كذلك.
لعلها كانت مصادفة سعيدة، لولا وجودهما معًا ما استمرت هذه الأسرة، وما جئت أنا للحياة لأحكي عنها، بالطبع لأنها لن تكون موجودة في الأثاث، فلا أحد غير جدي كان من الممكن أن يقبل العيش مع امرأة ترى نفسها برتقالة، ولا واحدة غير جدتي كانت ستعيش سعيدة مع رجل يعاملها كبرتقالة، لكن المصادفات لم تتخل عن عائلتي، فوسط الجو السابق من الدفء والحب، ولد أبي، كان طفلًا طبيعيًا يرى أمه كأي أم عادية ويرى أباه يبالغ في تدليلها ومحبتها، لم يكن في الأساس يعاني من أي شيء غير طبيعي، نعم في الأساس، لعلني ذكرتها خطأ منذ أسطر قليلة، لكنه حين صار شابًا تتطلع إليه الفتيات، اكتشف مع الوقت أن لديه قدرة لم تكن لدى أحد قبله بالعائلة، كان أبي يسرق الكحل من العين، نعم ما أن ينظر للفتاة حتى تفقد كحل عينيها، ويصير مجرد ذرات سوداء دقيقة يغلق عليها باطن كفه، يتخلص منها في أقرب وقت دون أن يلحظه أحد، لكنه مع الوقت قرر ألا يتخلى عن كحل عيون البنات، تخيل نفسه ينفض عن كفيه ببساطة سمجة طموحاتهن وآمالهن، بات يجمع الذرات هذه في حديقة خلفية لمنزلنا.
لم يكن أحد من معاصري أبي يعرف سره، فلو عرفوا لتجنبوه، ولربما أبلغوا عنه الشرطة كسارق، بل كانوا يحبونه ويحبون مجالسته، فقد كان لديه قدرة المحافظة على فاصل وهمي بينه وبينهم، دون أن يفقد الود الموصول.
أبي كان يبدو مشغولًا طوال الوقت، دون سبب واضح لذلك، حتى وجدها، نعم بالضبط أمي، بالطبع حينها لم تكن قد أصبحت أمي، كانت مجرد فتاه جامعية نحيفة تجلس في كافتريا الكلية كضيفة مع إحدى الصديقات، جذبته لها، جذبته حقيقة، أمسكته أثناء مروره بجانبها وجذبته إليها من ملابسه، نظرت في عينيه بثقة، قالت إنها تعرف سره، قالت ذلك فقط ولم تزد ثم أفلتته، كان أبي يسمعها ويفرك كفه فرحًا لملامسته كحل عينيها، شعر لأول مرة بأنه يستعذب تفرضه هذا، تفرضه من فرض؟ لا بل أقصد تفرضه التي تعني تميزه.
في ذلك اليوم تركها وهو يلف حول نفسه، لن أحتاج للتأكيد على أنني لا أمارس المجاز، بالتأكيد تفهمتم الأمر الآن، لعلكم تتخيلون كيف يلف شاب حول نفسه بلا مجاز، نعم كانت لدى أمي قدرة على أن تجعلك تلف حول نفسك، صار أبي لا يسير في خط مستقيم، وفي نفس الوقت يسير في خط مستقيم!
سأقول لكم، صارت لأبي حركتان، يدور حول نفسه طوال الوقت، ويتقدم في ذات اللحظة أثناء دورانه هذا في أي اتجاه يريد، كان وضعه غريبًا بالنسبة لمن حوله، لكن أمي تفهمت ذلك، وفرحت به، كانت تعرف أنها في يوم ما ستفعل ذلك فقط في من تحب ومن يحبها كما تتمنى، لذا ارتبطا فور التخرج، وكانت مع الوقت تكتشف قدرات أخرى في نفسها، كأن تذهب بك للبحر وتعيدك عطشانًا، أو أن تأخذك لحمًا وترميك عظمًا، كانت تفعل ذلك دومًا أمامي في الطيور، أبي أيضًا استطاع اكتشاف الكثير من الخصائص لديه، كأن وجودهما معًا أظهر أعظم ما فيهما من قدرات.
لعلكم تغبطون هذه العائلة المتميزة، لكنكم لا تعرفون شيئًا عن آلامنا، أنا قضيت عمري بلا مجاز، تحملت الكثير، مؤخرًا صارت المعاني تتداخل لدي، كأنني أبذل مجهودًا حتى أفرّق بين معنى وآخر، هي مآس لا يعرفها إلا من عاشها، كثيرون يسخرون مني، يقولون أي مجاز هذا الذي يزعجك وأي لغة تتحدث عنها والعالم مليء بالأمراض والجوانح والحروب، جوائح، بالتأكيد أقصد جوائح، حين كنت أحكي لأبي عن مأساتي يبتسم بطيبة، يقول لي إن قلبه يحترق وكنت أجري خائفًا بحثًا عن ماء للمساعدة في إطفاء حريق قلبه، تزيد ابتسامته، أفهم أن حياة بلا مجاز، هي حياة بوعي منقوص، بلا خيال وبلا مستقبل.
كان أبي دومًا يحب تخفيف الأمر عليّ، يذكر دومًا أمامي بعضًا من مآسي الآخرين، أخر الأمر أمسك بيدي اصطحبني حتى حديقتنا المهجورة، أشار لجبل أسود ضخم، قال لي كانت هنا حديقة، قٌضى على جمالها، قٌضي أيضًا على أحلام آلاف البنات بجمال أكثر وفتنة أكثر، أتدري معنى أن تسهم في غياب جزء من جمال العالم، أبوك يرتكب جريمة عند كل مواجهة مع عيون مكحلة، قالها بأسى شديد، عرفت أنه ربما يعيش مأساة أكبر من وعيي، أدركت بلا شك أن لكل منا مأساته الخاصة التي يعيش تفاصيلها ولا يرى سواها.
كان عليّ أن أفكر في مصير القادم، كيف سيكون أولادي، ما هي المأساة التي تنتظرهم، العلم تنبأ، أن أولادي سيعانون من فقدان الذاكرة، حين اندهشت قال الطبيب منفعلًا، ماذا تنتظر أن يحدث لمن نشأوا في ظل غياب المجاز؟
تركته وأنا أعرف أن مأساتي ليست فقط في غياب المجاز، بل في تبعاته التي ظننت أنني سأتحملها وحدي، وأنها لن تمس الأجيال القادمة، ظننت أنها ستتوقف عند فقد شعوري بالتذوق، هل تصور أحدكم أن الأمور مرتبطة ببعضها بهذا الشكل، فقد المجاز يفقدني قدرتي على التذوق، تذوق الطعام والشراب، فهم فيلم أو لوحة، التفرقة بين يوم وآخر…
حاولت قدر استطاعتي سرد القصة بشكل يروق لكم، فلم أعد أثق إن كان لدى القادمين نفس المقدرة لسرد حكايتنا أم لا، هل بنهايتي سننتهي بالفعل ولن يذكرنا أحد؟
الآن أفكر كيف سأحتفظ بما كتبت، كيف أضمن أن هناك يدًا ستستقبله بجدية في نهاية الأمر، سأفعل كما فعل القدماء، ألف الورقة وأدخلها في زجاجة، ألقي بها في البخر، وستصل يومًا ما ليد أحد، نعم سأصنع مما كتبت نسختين، واحدة تبقى في البيت، لربما تزوجت ورزقت بأطفال، سأتيحها لهم ليتعرفوا على تاريخهم الذي ربما سيكون مشوشًا حينها بالنسبة لي، وبالتأكيد سيندهشون في كل مرة يقرأون فيها الورقة كأنها القراءة الأولى، النسخة الثانية سألقي بها في البخر لتصل لصاحب النصيب، لكني أظن أن أسمه ليس بخرًا، أظن البخر هو فقد الماء لتعرضه للحرارة أو ما شابه، البخر الذي أقصده هو رقعة كبيرة متسعة من الماء، أعرفه، أعرف زرقته وأمواجه، أعرف مكانه وأستطيع الذهاب إليه وإلقاء زجاجتي فيه، لكنني ما زلت لا أعرف تحديدًا اسمه.
ما يزعجني الآن هو تساؤل طرأ على بالي، هل لو فعلتها أكون قد ألقيت زجاجتي في رقعة الماء الواسعة الزرقاء تلك التي أقصدها، أم أكون قد عرّضت ما فعلته للزوال.