عاطف محمد عبد المجيد
المزيفون أكثر حكمة في لحظات السقوط، كلهم يكتبون حٍكَمًا على صفحاتهم، والناس تعصرها الدهشة، وتردد: ناس ملهاش عينين! الفاجرة ست جيرانها، الزناة أكثر من يتحدثون عن الفضيلة! ناس طارت حمامة وِشها! ناس لا تخجل!
هذا ما نقرأه على لسان الراوي في رواية الشاعر والروائي المصري ماهر مهران ” المزيفون ” الصادرة حديثًا عن دار نفرتيتي للنشر والدراسات والترجمة، وفيها يرسم لنا مفردات وتفاصيل الواقع الذي يحياه صعيد مصر، راصدًا معاناة الناس هناك وفقرهم واحتياجهم وتعرضهم طوال الوقت للإيذاء والابتزاز والإهانة والظلم من قِبل موظفي الجهات الحكومية وأقسام الشرطة.
الرواية تستنكر هنا الانتقام الذي يمارسه كثيرون ينتمون إلى السلطة ضد مشعلي الضوء، وحاملي شعلة التنوير، فاعلين بهم أشد أنواع التعذيب والتنكيل الجسدي والنفسي، متسائلة لماذا يحدث هذا معهم وأياديهم لم تتلوث بدم، ولم يسرقوا، ولم يتكاسلوا عن أداء عملهم، ولم يشهدوا زورًا ولم ينصروا قويًّا على ضعيف؟ كما تصف الجنوب بأنه بقعة معتمة، يتم حجب الضوء عنها، وإذا ما حاول مشعلو الضوء أن ينيروا هذه البقعة، نالهم ما نالهم من المضايقات والعديد من أنواع الأذى، مشيرة إلى أن الصراع بين الضوء والظلام وصل هناك إلى أشده، إلى جانب أنواع أخرى من الصراع بين القبح والجمال، الفن والجمود، الحلم والرجعية، وفي ظل هذه الظروف يكثر مشعلو الفتن، ويزداد حراس الظلام، مما جعل الناس يرون الخوف والرعب، العتمة والظلام، الظلم والموت.
غياب العدل والمساواة
غير أن الرواية تؤكد أن الضوء لا يخاف الحشرات أو الكلاب أو الذئاب، بل يجذبهم نحو مصابيحه ثم يكشفهم ويهزمهم ويطهر الوطن منهم، كما يرسم الضوء المستقبل ويخط طريق الخلود، ويشيد الأوطان العظيمة، ويكشف المزيفين والأفاقين واللصوص والمحتالين، وكل من انتفخ وتضخم وبات يمشي مختالًا وهو يدوس على سيادة القانون، كما ترصد واقع الذين حققوا ثروات طائلة من الرشا واستخدام نفوذ السلطة، في ظل غياب تام للعدل والمساواة، والمتسلقين الذين قفزوا من الحضيض إلى أعلى السلم المجتمعي ثروة وجاهًا، والكذابين والمدعين الذين يوهمون الناس بأنهم قادرون على فعل أي شيء دون أن تطولهم يد القانون، والمنتفعين واللصوص والجبناء، مثلما ترصد، في خط مواز، ما يقوم به محاربو الظلام، دون أن يتمكن اليأس منهم، محاولين ري الأرواح الظمأى قبل أن تجف وتتشقق عندما تشرب ملوحة المزيفين الفاسدين، مثمّنةً ومقدرةً الدور العظيم الذي يقوم به التنوير والتعليم إلى جانب بقية الفنون من موسيقى وشعر وغناء في محاربة قوى الظلام والتزمت، ناقلة لنا حجم المرارة التي يحملها هؤلاء الذين يحلمون بتغيير الواقع السيئ الذي يدهس البسطاء الذين لا حول لهم ولا قوة تحت سيقان أصحاب السلطة والأموال. ولننظر معًا إلى الرواية وهي تصور واقع هؤلاء: الناس في غاية الاستياء، الحلوق جفت، العيون جمرة نار، القلوب غاضبة، الألسن مقطوعة، البطون موجوعة، النفوس مكسورة، الأرواح محصورة، العيش حلم، الستر طموح، وتجاوز هذه الأيام العصيبة بدون سقوط انتصار.
الرواية التي ترى أن من عاش بالحكمة مات بالمرض، وأن حَمْل مشاعل الضوء هواية لا تغني ولا تطعم جائعًا، في واقع بائس كهذا، وأن مساحات الفساد والعفن قد زادت، وزاد معها الفقر والجوع والقهر، تنتقد كل مسئول، كبر أم صغر، استغل منصبه ليكوّن ثروات طائلة، ناهبًا أموال الناس وحقوقهم، متكاسلًا عن أداء واجبه الوظيفي حيال المجتمع، وضاغطًا بأسواط سلطته على رؤوس الناس، مثلما تنتقد غطرسة بعض رجال الشرطة وتجاوزاتهم، وجبروتهم الذي يمارسونه ضد المواطنين المساكين الذين ليس لهم أقرباء يعملون في جهاز الشرطة أو أقرباء متخمين بالثروات التي يستطيعون بها شراء أي أحد، داعية إلى عدم المتاجرة بحب الإله، وإلى الحلم بنور قادم يقتل العتمة والظلم والحماقة.
صوت المظلومين
المزيفون التي تلعن الظلام الذي صار ثقيلًا، وتبحث عن ثقوب يمر منها الضوء، معلنة أن الصمت يصبح ضرورة أحيانًا، تُلقي حجرًا في بركة المخبرين الذين أصبحوا يتحكمون في مصائر الناس، كما تحاول أن تقوم بتوصيل صوت المظلومين الذين عانوا كثيرًا من ظلم وظلام هؤلاء الذين يستقوون بسلطتهم أو بمعرفتهم بأصحاب السلطة الذين لم تعد لديهم مصلحة سوى مصلحتهم هم أنفسهم وأهليهم، متسائلة هل يبول حاملو مشاعل الضوء على جراحهم، كبقية الناس، أم يكبسونها بالرماد؟
هنا أيضًا يتساءل بطل الرواية، مشعل الضوء، لماذا يتم عقابه بهذه القسوة وهو لم يسرق سعادة المستضعفين ويمنحها للأكابر والأعيان، إنما جعل من مقلب قمامة بيتًا جميلًا نوافذه عالية، تحيط به أشجار عطرية وحوله تزقزق العصافير؟
كذلك تشير الرواية إلى أن الظلام ضيق، يُخرج العفن، ينتج العفاريت واللصوص والأكاذيب والخرافات، ويجر المواطنين للخلف، وأن الخوف هو العامل المشترك في الجنوب، وأن الناس من كثرة ضيقهم واختناقهم وهمومهم يبحثون عن أي شيء يخرجهم من حالتهم الكئيبة، يريدون الذهاب إلى الصحارى حيث النور والرؤية الواضحة بعيدًا عن قبضة الجبابرة المتسلطين الذين يعيثون فسادًا في كل شبر من أرضهم، دون أن يكون هناك أي رادع يوقفهم عما يفعلونه بالناس، وكأن الجميع قد تواطأ معهم في تعذيب وتخويف وإذلال هؤلاء الناس الذين لا ذنب لهم إلا أنهم لا يعرفون نافذًا يجعل من منصبه مشنقة لكل من لا يسمع كلامه وينفذ كل أوامره دون تبرم أو نقاش.
المزيفون التي قسّمها ماهر مهران إلى خمسة وعشرين مقطعًا روائيًّا وانتهت صفحاتها عند الرقم 122، ويعلن في بدايتها أنها لا علاقة لها بالواقع، تضعنا من خلال الخيال الذي امتطاه الكاتب، في واقع مؤلم ومحزن، صوّر لنا، مستخدمًا لغة وإيقاعًا مناسبين، معاناة أناس طحنتهم الظروف وداستهم بأحذيتها دون رحمة أو شفقة، ولا يزالون يعانون دون أن يفكر أحد في إنقاذهم من معاناتهم هذه، وكأنهم يعيشون على هامش حياة لن يسمع عنها أحد، ولن يصل إليها أحد ذات يوم.