إسلام علي
كنت أحد الذين كتب لهم النجاة يومها .. الهاربون من الخدمة العسكرية دوما يوسمون بأقذر الألفاظ و أشنعها لكني لم أهتم يوما بما قيل وبما سيقال، أنا يزن الذي تراجع يوم دقت طبول الحرب.. كان برفقتهم صديقي جيد الذي تقاسمت معه لفافة التبغ وكسرة الخبز وعدة دوواين شعرية لييتس و بيسوا وبودلير ودنقل وقميصي الذي استعاره يوما لمواعدة فتاته سيلينا.. برغم كل ما حذرته منه لم يأبه لما قلت تاركا فتاته بقلب محطم و صديق وحيد يبحث بقية عمره في عالم أسود عن صحبة تهون ليل لا ينتهي، لكن اليوم ليس كباقي الأيام، هو العيد السنوى للموتى الأحياء وفرصة حقيقية لاستعادة البهجة المفقودة، ليس هذا عنوان لرواية كُتبت قديمًا.. هو العيد الذي تحتفل به مدينتنا للتخفيف عن كاهل من تبقّى حيا.. كرنفال أزاس وكل شيء مباح.. لعل سببًا من أسباب ديون سكان المدينة للعشرية هو احتفال بهذا البذخ.. بهذه التاريخية في إهدار المياه النقية والخمور والأطعمة.. اليوم بلا حساب وحتى اليوم السابع بتقدير الساعة الرملية، الماء في كل مكان، على البعد أرى البعض يرقص في سعادة وهو يصب الماء صبًا فوق رأسه صارخًا مهتاجًا.. إذا كان الماء النقي بهذه الوفرة فلماذا وزعوا كل أجهزة التكرير للبول.. حتى أن فقراءنا الذين لم يستطيعوا الحصول على جهاز آخر إذا خرب الأول لم يجدوا سوى البول بدون تكرير.. نسوا أن هناك مشروبًا بدون طعم ولا لون ولا رائحة.. نحب الاحتفالات مثل بلاد كثيرة نسمع عنها فقط.. الاحتفال غريزة في النفس مثل المأكل والمشرب وممارسة الجنس.. الفتيات في بيت السيدة يمارسن الجنس مجانًا وفي الشوارع.. يعلم من يقوم بذلك بأن أحدًا لن يلاحظه ولن يزعجه.. يظهر أزاس يومها فقط في اليوم السابع للعيد.. يحيّي جميع من مقعد صُنع له خصيصًا.. أزاس لا يقوم من مقعده.. الكل يقوم مطأطئ الرأس لأزاس.. يتمنى عيدًا طيبًا مباركًا.. يتفقد الكل بنظرة عين سريعة على شعبه ويعود مجددًا.. أمام المبنى العملاق المتاخم للبحر ومستقر العشرية مظاهر للاحتفال بالعيد.. منطقة الباتل زون حيث يقوم الشباب بمباريات في الرقص والراب .. تأتي سيارات تنقل كبار الزوار من مدينة الموتى إلى القاعة المخصصة لهم.. دراجات بخارية كثيرة حول القصر الكبير.. عصابات مجاورة تدين بالولاء للعشرية.. لابد من حضور المهرجان.. للموتى الحق في الاحتفال ولو لمرة أخيرة.. الشاشة العملاقة التي تعرض مشهد الموت والذي يميز كل سنة عن الأخرى.. لا يعلم أحد من الحضور كيفية الحدث الكبير.. وماهيته.. يعلمون فقط أنهم سيكونون جزءًا من الحدث الذي سيعرض على الشاشة.. من المختارين.. يختارهم أزاس بعناية.. كل من في المهرجان هو جزء مما يحدث، بعضهم سيكتفي بدور المتفرج وسيعودون إلى بيوتهم محملين بالأطعمة والماء، وآخرون هم أبطال الليلة الأخيرة.. أسير متفرجًا كما اعتدت.. لم يصادفني في سنة واحدة أن أكون بطلا مؤهلا.. الميتات مخيفة.. لكن الأكثر رعبًا هو التعايش في هذا المكان.. مجبر على المكوث ولا من مكان آخر يصلح للذهاب إليه.. تصالح الناس لسنوات مع العشرية، قم وسدّد دينك لتكون مواطنا صالحًا.. قانونهم ومن يجرؤ على مخالفته.. سيارة تخترق مجال الرؤية.. نزل منها رجل وامرأة.. هل تمتلك النساء أجنحة؟ فستان أحمر لسهرة مميزة.. شعر أشقر قصير وعيون ذابلة وجناحان من ظهرها.. هل تستطيع الطيران.. جناحان ذابلان.. لم أحتج إلى أكثر من نظرة لكي أكون أحد أبطال حدث الليلة.. لطالما أقرأ عن نظرات تقتل.. ويقول من حولي بأن آخر امرأة على الأرض كانت عيونها تنفذ إلى الروح هي ميلا.. الفتاة التي احتفظ أزاس بعينيها في محلول ملحي.. لكن تلك النظرات نفذت إلى روحي بدون إنذار.. أخترق الصفوف والحفل صاخب متمنيًا أن ألتقيها.. لم تفتنّي النساء يومًا، لكن يبدو أنه لم تشبع عيني من تلك النظرة.. هل مازال هناك ما يسمى بالسحر؟ إذن كيف ظهر لها هذان الجناحان؟ ريشة ملقاة على الأرض يبدو أنها سقطت منها.. ألتقطها.. كانت للريشة رائحة حلوة.. ريشة بيضاء مثل قلب طفل ولد في زمن الشمس، أما الآن فالأطفال يولدون بلا قلوب.. في القاعة الكبيرة المجهزة لاستقبال الضيوف.. كانت تجلس بجوار المومياء الحية التي تجاهد لأخذ أنفاسها.. نظرتها الأولى اخترقتني.. نظرتها الثانية قضت على ماتبقى مني.. حارسان على بوابة كبار الضيوف مثل الجبال.. من يدخل تلك القاعة لديه تذكرة في خلفيتها عقرب ذهبي.. هكذا تجلى لي وأحدهم يُظهر التذكرة للدخول.. الصخب في الخارج والاحتفالات كانت أقل مما يصدر في رأسي المثقلة بالحرمان و التمني.. تقبض يدي على الريشة التي ابتلت بعرقي فازداد شغفي بالمرأة المجنحة, ماذا تفعل الملائكة في هذا الجحيم ؟ وجدتها تخرج من القاعة متجهة إلى حمام النساء.. كنت خلفها كالمفتون يفصلنا الصخب والزحام والأضواء ورائحة العرق.. دخلت وراءها.. التفتت إليّ وكانت أجمل عن قرب، لكن عينيها بدتا وكأنها لم تنم لسنوات.
– هذه تخصك.
مددت لها يدي بالريشة.
– هي لك لعلك تتذكرني للمرة الأخيرة.
وجدتني في قبلة محمومة بكل وجع واشتياق.. لا أعلم كيف وجدتها بدون ملابس.. كانت مكتملة.. مضيئة.. وشهية.. لا أعلم كم الوقت الذي قضيته معها.. لم تكن مثل أي امرأة.. كانت ناعمة.. دافئة مثل ليالي الصيف القديمة.. رائحتها جميلة وكأنها تعطرت لتوها.. كنت آكلُها ببطء، قطعة حلوى محشوة بالعسل فانسال على جانب فمي شيء من حلوها، وفي لحظة تفاجأت.. جناحاها فردتهما وكأنها في وضع استعداد للطيران.. قامت وارتدت ملابسها على عجل قائلة: سيبدأ حفل كبار الضيوف.. شكرًا على اللحظة الحلوة.. من الجميل أن يكون آخر شيء أفعله في هذا الكون هي تلك اللحظة التي كانت معك.
لم أفهم.. لكنها جرت واندفعتُ خلفها.. كانت تجري ناحية الباب.. أعطت التذكرة للحارس العملاق الذي أغلق الباب خلفها.. رأيته يحدجني بنظرة باردة:
– اذهب وشاهد العرض في الشاشة الكبيرة.
كنت غاضبًا.. حاولت فتح الباب والدخول لكنه لكمني لكمة أطاحتني مترين.. كنت على وشك الإغماء، لم أشعر إلا وصوت رفيع.. صوت أزاس المختلط بصوت الجماهير المتابعين لعرض الموت:
ـ أتعرفون الحشرة التي قاومت الإشعاعات النووية بكل بسالة؟
يرددون:
– العقرب.
صوت أزاس:
ـ إن الحشرات التي قاومت فعل الإنسان هي الأجدر على البقاء.. أتمنى لمن يشاهد عرضنا عيدًا سعيدًا.
زحام و أصوات صراخ، وكأن من في الغرفة يقومون بغليهم.. وصياح في الخارج من البهجة لمشاهدي عرض الموت السنوي.. لم أحتج للكثير للفهم أن كل من في الغرفة قد تعرضوا لألف عقرب.. سكان مدينة الموتى يحتفلون بالعيد و هم يشاهدون العقارب تلدغ من تطوله على الشاشة العملاقة .. أسير خارج حدود الاحتفالات المبهجة .. بينما تفلت يدي ريشة بيضاء لازال بها بعض من رائحة يطيرها الهواء بعيدًا ناحية السماء.
……………………..
*مقطع من رواية “كل شيء هادئ في مدينة الرب” الصادرة أخيراً عن دار نيسان