علاء الديب
أعتقد أن الوقت مناسب لمحاولة النظر في المنجز الشعري والثقافي للشاعر الكبير رفعت سلام.
صدر أخيرًا “ديوان رفعت سلام” عن الهيئة العامة للكتاب. وبالطبع، فما زال الشاعر الكبير في قمة العطاء.
هو من مواليد 16 نوفمبر 1951. بلده الأصلي “منية شبين – قليوبية”. ورغم رحلة المدينة الطويلة، والاغتراب الطويل في الجزائر، “مديرًا لمكتب وكالة الشرق الأوسط”، ورحلات الروح التي قادته إلى مختلف الأنحاء والأجواء؛ فما تزال الأسرة الريفية، ومنية شبين، جزءًا أساسيًّا من عمله، ومن حياته.
يقول في أول قصيدة “فاطمة” في ديوان “إلى النهار الماضي” (1998):
“لاَ تَعرِفُ النَّومَ، وَلاَ يَعرِفُهَا السَّهَر.
تَمشِي الفُصُولُ فِي أَقدَامِهَا،
وَيُورِقُ الحَجَر.
مَرجُ زَعفَرَانٍ فِي امرَأَةٍ،
وَامرَأَةٌ مِن الصَّحوِ الجَمِيلِ المُنهَمِر.
أَنسَلُّ مِنهَا إِلَيهَا.. بينَنَا خَيطُ دَمٍ وَيَاسَمِين.
لاَ يَعرِفُه الزَّمَنُ وَلاَ عَوَامِلُ التَّعرِيَةِ، أَنَا الوَلَدُ الصَّغِيرُ لاَ أَبلُغُ حَافَّتَهَا، جَنَاحَايَ بِلاَ رِيشٍ يُرَفرِفَانِ إِلَيهَا؛ أَيَّتُهَا البَاذِخَةُ لَم تُولَد مِن رَحِمٍ، سِربُ أَسَاطِيرَ غَائِرَةٍ، غَيمَةٌ تَهطِلُ المَنَّ وَالسَّلوَى عَلَى الأَقرَبِين”.
يكتب الشاعر شعره الخاص الذي لا يقف عند نوع أو تقسيم. فعلى الرغم من أنه دائمًا ما يُقال إنه ينتمي إلى جيل السبعينيات، فإن الدواوين التي أمامنا: ذلك الصرح الشعري الباذخ، ينطلق بعيدًا في محاولة فريدة لتقديم مشروع شعري كبير: كأنه يريد أن يقبض على إيقاعات وموسيقى الوجود، ويعيد تنظيمها في روح قصيد بلا نهاية.
كم تمنيتُ – أمام دواوين الشاعر الكبير – أن أكون ناقدًا شعريًّا متخصصًا، حتى أستطيع أن أغوص في تجربة الشاعر الواسعة، وأن أعيد تحليل رحلته الطويلة من القصيد العمودي إلى قصيدة التفعيلة، ثم عبوره إلى الأنواع المختلفة لقصيدة النثر، وصولًا إلى “صوته الشعري الفريد، الذي لا يشبه سوى ذاته”؛ لكنني اكتفيت بنظرة المتذوق الذي يحب الشعر ويقدر وجوده.
يقول سلام – في ديوانه الأول “وردة الفوضى الجميلة” (1987) – عندما كان صلاح عبد الصبور حاضرًا في روح الشعر، يقول في قصيدة “نظرة”:
أغفُــو.
وَالزُّرقَةُ وَطَنٌ لاَ يَبلُغُه الحُلم.
لاَ شَيء.
لاَ غَيمٌ، أَو صَوتٌ، أَو نَسمَةُ رِيح.
تَتَوَارَى الأَشيَاء.
تَنسَابُ الذِّكرَى وَالأَحلاَمُ مِن الذَّاكِرَةِ إِلَى المَاء”.
ثم يقول، في هامش قصيدة “مراودة”، في ديوان “إشراقات رفعت سلام”:
بَاحَ بِي وَقتِي،
وَأَسلَمَنِي؛
فَأغفَت وَردَةُ النِّسيَانِ فِي بَدَنِي.
لاَ الغَارُ مَعقُودٌ عَلَى رَأسِي،
وَلاَ امرَأَةٌ مِن الأَمطَارِ وَاللَّيمُونِ
تَرقُبُ مَقدِمِي فِي المُفتَرَق.
وفي ديوان “حجَر يطفُو على الماء”، أغرق صفحاته برسم وتخطيطات صاحبت القصائد. اما في آخر الدواوين “هكذا تكلم الكركدن”، الذي صدر 2012، وكان الشاعر قد فرغ منه قبل الثورة، نراه يقول:
لَا رِثَاء.
فَرَارٌ سَيِّدٌ وَذِهَابٌ وَرَاء.
صَرخَةٌ نَائِمَةٌ عَلَى سَمَاء.
وَفَضَاءٌ فَضَاء.
بَصَرٌ بِلاَ بَصِيرَةٍ،
وَبَصِيرَةٌ عَمَاء.
v
سلَّام قامةٌ كبيرةٌ ليس في الشعر فقط، ولكن في الترجمة أيضًا. اصدر الأعمال الكاملة لكل من رامبو وبودلير وكفافيس. كما راجع أهم كتاب في “قصيدة النثر” من تأليف سوزان برنار وترجمة راوية صادق.
تحية تقدير ومحبة متأخرة لمناضل ثقافي وشعري كبير، واحدٌ من الذين يريدون تحرير روح الشعر العربي.