لو أنك جئت معي مدينتي !
أسماء ياسين
كنت واضحة تمامًا منذ البداية وسألتك: هل إشعال ركوة نار في صحرائنا فعلُ ارتواء؟وأنتَأجبت بنعم، وكانت لك أمنيات أخرى لم يمكننا الوقت من فعلها، ولا من فعل عكسها. لكن بعد فترة ليستبعيدة كانت هناك ركوة النار في الصحراء، والصحراء مثل تخيلنا عنها، متسعة ولا نهائية، ولكن بيضاءهذه المرة.
كانت هناك ركوة النار، وكانت فعل ارتواء.
أنا أعرف الأشياء التي ستحدث، قبل أن تحدث، وهذا يخيف البعض مني، يخيف الذين ولدوا بلا ذراعين. ثم نمالهم ذراعان طويلان،وشكليان، ليسا بقادرين على حمل باقة من الزهور،ورأس مزدحم. يسألون كثيرًا، الأسئلة الكثيرةترهق مبكرًا،الأسئلة الكثيرة تؤدي إلى الوفاة يا عزيزي، لا أبرئ نفسي، أنا أيضًا أفعل. الأسئلة نفسها مرهَقةالآنمن تكرارها. ولم يكن في السماء إلا هلال صغير.
أنا وأنت استمعنا إلى محمد عبد الوهاب وهو يغني " سهرت منه الليالي" وكنا نبتسم، عندتلك المرحلة التي يكون الابتسام فيهاغمازة في الخد،لكن بين كل واحد منا ونفسه سألنابلا صوت " مال الغرام ومالي؟ ". لاحقًا، وحدي، لم أخبرك بذلك،نظرت إلى صورته المعلقة على الحائط في غرفة المعيشة،وقلت له لماذا تفعل بنا ذلك يا محمد؟ حتى لو لم يكن اللحنلك، حتى لو سرقته من أغنية تركية، تمامًاكما هو، الألحان المسروقة تقتل كما تفعل الأصلية يا محمد.
أنا وأنت لم نستمع إلى شيء، ماذا لشيء مثل قدرة الخيال على الذهاب بنا إلى زمان أقرب، أو زمان أقدم؟الخيال سيمنع عني أذى كل تلك الألحان؛المسروقة والأصلية. اذهب بي يا زمن إلىالسنة الماضية؛ كان ثمةرجل يغني من أجلي،وآخر يطعم الفقراء من أجلي،وآخر يعدلي الشاي الذي أحبه، ثم فضّل أن يترك تلك المهمة للعاملين في المقاهي، لأنها في نهاية الأمرمهنتهم القديمة. لا أحد يعدالشاي مجانًا، لا أحد يعدالشاي طويلاً.
وكنت لا أرغب بعد الآن في الذهاب إلى المقاهي، وأود، عوضًا عن ذلك،لو استطعت يوميًا الذهاب إلى نفسي، مشيًا على الأقدام. ثم أعود فيالمساء منهكة، فأنام، نومًا هادئًا بلا أحلام أو كوابيس،وأصحو ليس في رأسي لمحة مما حدث أمس.
لو أنك جئت معي إلى مدينتي،لو أنك جئت إليّ في مدينتي،لما صدقت قط أنني كنت ذات يوم أملأ تنورتي بالحجارة،وأوصلها لمن كانوا يستخدمونها في أغراض ليست سلمية، ولم يكن عليها أن تكون كذلك. الرومانسيون أيضًا ينامون أمام الدبابات كي لا تدهس أحدًا آخر، الرومانسيون يرون جنزير الدبابة فوق رؤوسهم، ويعرفون أنقتيلاً أو أكثرتوفرتأرواحهم لميتة أقل أهمية من هذه. وهم جميعًا- الذين لم يقتلوا حينها- لم يأتوا معي إلى مدينتي، ولو أنهم أتوا،ما صدقوا قط أنني كنت ذات يوم أقف على تلك الناصية،أنظرفي ساعة يد لم تلف معصمي، بينما لم أكن في انتظار شخص؛كنت في انتظار مقطع موسيقيبعينه، لم يؤلفهمنأجلي حتى الآن كل الموسيقيين الذين وقعوا في غرامي.
وبعد أن عرجت على شارع خال من البشر، عدت،وسألت نفسي عن جدوىإضاعة الوقت،مع رجل بلا بوصلة، وكان يعرف جيدًا أنني لم أعد أحب البحارة، ولم تعد عندي تلك الرغبة القديمة أن أصير بحارة، أذهب طويلاً في الماء، بينما الماء - في حقيقة الأمر- هو مايذهب فيّ.
أنا لا أحب الغضب، آه، تخيّل، هؤلاء الذين يستطيعون- دون غيرهم- أن يختاروا كل الأشياء في أعمارهمحتى الآلهة، لا يحبون الغضب. الغضب يعمي،ولن أذكر حين يقترب حتفي إلا رجلاً، كان رقيقًا، وحتى مات لم أره غاصبا،ظللت أقبلهويقبلنيمن الليل حتى الصباح، قبلات ليس أكثر، وكانت كأنها لن تنتهي، قبلات لم تمح السنوات طعمها، لم نفعل أكثر من ذلك، رغم أننا كنا مطلقي الأيادي والقلوب، وهولم يقل هو سوى: أنتِ جميلة، للغاية، وهو يقول ذلك وأنا أضحك فيقول: ضحكتك جميلة، للغاية. اضحكي كثيرًا.
ولكنحتى في الخيال ليس عندي بيت، ليست عندي تلك القدرة على قراءة قصائدي أمام الغرباء. الذين يختارون كل شيء في أعمارهم حتى الآلهة،قدتعز عليهم القدرةعلى قراءة قصائدهم أمام الآخرين. وكنتفي صحبة آمنة، وغيبتنيثمالة نادرًا ما تكون، أو كادت، وقرأت، وأتىصوتي خافتًا، لميستمع إليه من يجلس قربكتفي، ينتظر أن تأتي عليّالكأس التالية، ليأكل نصيبي من الحلوى. وكانت بعض النسوةقديمًا تقرأن الشعر في مجتمع، ولاتخجلن من أصواتهن، ولم أكن أخجل من صوتي، وكنت مثلولادة " أمكّن عاشقي من صحن خدي، وأعطي قبلتي من " أشتهيه".
وأنالست على ذاك القدر من الطيبة الذيتظن،أحب عيناي، وأحب أن أرى، ولم أعد أحبك منذ أمس.