لوحة المصائر التائهة في “جنازة جديدة لعماد حمدي”

جنازة جديدة لعماد حمدي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أماني خليل

حين تحدثك السلطة بنفسها:
 من الوهلة الأولى لقراءة رواية “جنازة جديدة لعماد حمدي” للروائي وحيد  الطويلة سوف يفاجأ القارئ بسلطة قاهرة  تحدثه وتأمره، تفكر معه، وتحذره، هذه السلطة هي صوت الرواي العليم الذي يستعمل ضمير المخاطب في سرد الرواية، السلطة التي لصوت الراوي تصحب القارئ  لآخر الكتاب، هي سلطة غير صديقة ولا عدوة، لكنها  سلطة غاشمة متحكمة، تتماهى تماما مع طبيعة عمل شخصية بطل الرواية ضابط مباحث  يجد نفسه في عدة صراعات متتالية، صراعه الأول مع سلطة والده الضابط السابق الذي يرغب أن يمتهن ابنه مهنة ضابط المباحث، وأن لا يصبح فناناً يرسم اللوحات كما يرغب، الضابط لا نعرف له اسماً هو ليس شخصاً، لكنه حالة إنسانية شديدة الثراء يطلق عليه أحد جنوده لقب “فجنون” وهو مزج كلمتي فن وجنون ويصير معروفا به بين زملاؤه.

الضابط خريج المدارس الفرنسية، رسام موهوب، يقول الطويلة على لسان الوالد لابنه “لو ترك أبناء الضباط المهنة للرعاع لتسلل الأوباش إلى حياتنا ولن نستطيع أن نعيش، ثم أن الزمن القادم هو زمن الضباط وأنا أعرف أكثر منك” تتذكر أنك شعرت وقتها وكأنك في قاع قبر أو قبو معتم لُذت بفرشاتك ولوحاتك مقهوراً كنت ترسم لا تعرف كيف ترسم القهر والرضوخ في لوحة، كنت تخربش بقلم أسود جاف دون دموع الحزن يطلق الدموع والقهر يحولها إلى حجارة.”
“كم مرة استعمل الناس القلم أو الفرشاة لأنهم لم يستطيعوا ضغط الزناد”! فرجينيا وولف في تصدير الرواية.

السرادق قلب الحزن، الولوج إلى العالم السفلي:
 يغالب الضابط الفنان نفسه في هل يذهب لعزاء ابن ناجح أحد كبار المرشدين الذين يقدمون خدمات متنوعه للحكومة، السرادق هو مكان و مركز الرواية ونقطة انطلاقها الثابتة تدور الكاميرا في حركة بانورامية ليرسم الراوي لوحات إنسانية شديدة الدقة والرهافة للعالم السفلي للقتلة، تجار المخدرات، النصابين، المزورين، مقاولي أنفار الانتخابات، فتيات الليل، القوادات، وشهود الزور الذين يذهبون لعزاء  المعلم ناجح.
 يصارع الضابط نفسه، هل يغلب إحساسه الإنساني أم تتغلب مقتضيات وظيفته كضابط.
ناجح مرشد الحكومة هو الشخصية المحورية الثانية في الرواية، شخصية شديدة الذكاء آسرة، أب يرغب أن يكون ابنه ضابطاُ، مسجل خطر، تاجر حشيش لكنه شخص وطني، لا يتاجر في الهيروين حيث يعتقد أنه مؤامرة إسرائيلية ضد شباب البلاد. يقدم خدماته للضابط يحل معه ألغاز بوليسية وقضايا عديدة، يكشف ناجح للضابط سر مقتل أحد عمال المقاهي، العامل قتل بطريقة بشعة، لم يتبقى منه إلا شبشب محترق، آثار الحريق  تكشف كيف قتل الفتى من صديق له إثر خلاف مالي.
 ناجح أيضا يساعد الضابط في كشف لغز الهجوم على أحد كمائن الشرطة، تعتقد الداخلية أن الحادث عمل إرهابي، لكن ناجح يكتشف أنهم مجرد لصوص ارتبكوا فأطلقوا الرصاص على الكمين!
يحل ناجح القضايا المعقدة، يقدم الإجابات، يسلم الجناة واللصوص، يتهم أحد تجار المخدرات الضابط بتعذيبه، لكن ناجح ينجح في تبرئة الضابط حيث يشهد لصالح الضابط صبيان ناجح.
الجميل المتبادل والمنفعة بين  النقيضين، تشكل دانتيلا دقيقة جدا من المشاعر النفسية المتناقضة بين رجلين تحتم طبيعة وجودهما ومهنتهما أن يظلا متصارعين
 السرداق هو مكان الاختبار الحقيقي، هل كانت علاقة يحتمها العمل أم امتدت لعمق الرجلين؟
من أمتع فصول الرواية هو وصف تفاصيل تلقي العزاء في الجمهورية السفلية للمسجلين. لكل شيء أصول، لكل عزاء قدسية حتى لو كان القتيل خارجأً عن القانون يقول الطويلة: “إذا كنت تتخيل أنك حين تدخل السرادق ستجد جهاز التسجيل به شرائط قرآن أو سي دي أو حتى فلاشة يو إس بي يبدلونها خلف بعضها البعض فأنت واهم، أنت أمام سرادق حقيقي كما أُنزل، من النوع الفاخر، به خمسة مقرئين لا يأكل الواحد منهم أقل من كيلو لحم لوحده بين الربع والآخر.
كانوا يشيعون عن الشيخ عنتر والشيخ مصطفى وأبو العينين شعيشع أن كلا منهم يأكل ثلاثة كيلو لوحده وفي غرفة مغلقة.
ثلاثة كيلوجرامات وسط كل هذا الهبو الأزرق، وتخيل وحدك كيف ستكون التلاوة
كانوا يهمسون أن الشيخ لا يدخل قبل ان يأخذ التعميرة ويضبط دماغه، وكل شيء معد هنا سلفا لما يكفي سرادقين.
فكروا أن يأتوا بالشيخ مصطفى يشيل الليلة لوحده وهو قادر، لكنهم بعد محاولات اكتشفوا انه مات من زمان.
سترى نفرًا من اتباع ناجح يطوفون على المعزين بزجاجات البيرة من النوع القديم، بعلب الكانز منها للمستجدين ومدعي الأناقة، ستسمع فرقعة فتح الزجاجات كأنها قنابل صغيرة لو صوت فشنك لسلاح، كمسدس صوت، ستعرف حمية المعركة حين تشاهد الزجاجات الفارغة الرابضة بجوار المقاعد، لا أحد يعيد فوارغه بل يكدسها بجانبه.
من يعب أكثر يشارك أفضل بفمه وقلبه في دفع الحزن عن صاحب الحزن”..

 موزاييك المصائر التائهة:
يتراص المعزون داخل السرادق،  عماد مورد أنفار للانتخابات، يشكل روابط مشجعي الكرة، قبل ظهور ألتراس النوادي الذين شاركوا في الثورة لاحقاً، المزور الروسي الوسيم،، مسعد النصاب الذي يزور تأشيرات العمرة للراغبين قبل أن يلقي بجوازات سفرهم في النيل، الضابط المزور الذي ينتحل شخصية ضابط بأوراق مزورة وينجح في تبوأ منصب وسرقة سلطة غير شرعية لسنوات.
 هناك أيضا من هم بين الضباط و المجرمين،ه ناك فئة هواة الداخلية  محبي البوليس من فاتهم قطار الميري فقرروا التطوع له محبة وشغفاً.
  الشخصية الأولى عبقرينو، مهندس الاتصالات الناجح الذي يساعد  الضابط فجنون في حل القضايا، والثانية هي باسل الذي يتمتع بذكاء شديد يمكنه من انتحال شخصية فجنون نفسه من اجل الحصول على النساء،  العلاقة مع هؤلاء المريدين  أيضا هي احد جوانب الصراع التي يواجهها الضابط الفنان، ضابط يرفض والده ان يكون ابنه ضابط تشريفة يحرس جنازات، حين تمر جنازة الفنان عماد حمدي ويحرسها، يطلب والده ان  ينقل ابنه للمباحث أن يكون ضابطاً حقيقياً يعمل من اجل العدالة ولو قدم لها حياته
  فجنون بين رحى العشق:
 تمر نساء كثيرات على حياة فجنون، جارات، صحفيات، عابرات للطريق، خادمات، كل منهن تقتنص جزءا من روحه ويسرق جزءا من روحها، أبرز نساءه ضي الصحفية التي تكتب قصة من ملفات البوليس والتي حضرت  لمكتبه بتوصية، ضي فتاة هشة رقيقة ضئيلة الجسد، تحب القطط  يقول عنها” لا تعشق امرأة تحب القطط!
سوف تتوه في حكايات غريبة وأسماء أغرب، ستتبدل رائحتك، ربما يصبح اسمك سيمو أو زغلول حسب مزاج حبيبتك، تنادي عليك بأسماء قططها، وستعرف ان سيمو هذا عاشق رقيق، بالكاد يخمش بعينيه، يمد يداً حانية تغطي عنق حبيبته، ويتراجع فوراً إن خمشته تدللاً او تمنعاً، يقف في منتصف المسافة ولا يعيد المحاولة مرة أخرى، بل ينتظر إشارة واضحة، يرمي منديله وإن صدّته حبيبه يتمنع أيضآ ويحتفظ بكرامته، أما زغلول هذا أو زغلول الكبير كما يقال أحيانا فهو ولا فخر الفحل الذي يقوم بتلقيح كل القطط، لا يمد يداً حانية أو يرسل نظرة الغرام، خلق بدون غدد العواطف مواؤه زئير ممدود، عاطل لا يعرف غير القفز، وحين يهبط من فوق ظهر الفريسة يرسل نظرة متشفية للأخ سيمو الذي يسخر منه بنظرة، بحاجب ايسر مرفوع لأعلى: انت لست سوى ماكينة عمياء، لن يتذكرك احد انها ذاكرة إناث القطط التي تتفوق على ذاكرة السمك.
لا يمكن ان يكون زغلول هذا أو أي زغلول عاشقاً.”
 هناك أيضاً الخادمة السارقة، التي تقوم بدور الأم والراعية واللصة، التي تكمن حتى تضرب ضربتها القاصمة وبين مشاعر السيد صاحب المنزل والضابط الصارم وبين مشاعر الإنسان الفنان المرهف الذي يرغب أن يساعد  امرأة في محنة يعيش الضابط في صراع أخر..
 هذه الصراعات وتلك النماذج يسطرها الراوي الذي يتحدث بصوت السلطة القاهرة، والذي يتحول في الفصل الثالث عشر إلى صوت الماضي، ذاكرة الأحداث وأحيانا إلى صوت الصديق الغائب. وكأن الراوي يتخلى عن سلطته ليصبح ذاكرة صديقة في بعض الأحيان، وحين يحضر فجنون الفنان والإنسان، ونركن نجوم الضابط جانباً
 أنت متهم بإقامة أكثر من علاقة..!
هذه الصراعات النفسية والعلاقات الملتبسة تحسم في النهاية، المؤسسة لا تتحمل ضابطاً فنان،  أما الفن او البوليس، أما الرهافة أو الصرامة، إما الفرشاة او الزناد، يتم توجيه اللوم للضابط: انت متهم بإقامة أكثر من علاقة مع مسجل خطر، تعرف المؤسسة الخدمات التي قدمها المسجل لها، تعرف تلك الخدمات المتبادلة،  لكن يجب  أن تنأى بنفسها عنن حساسية  تلك العلاقة ان لا تدفع ثمنها، ان تغسل يدها من درنها، يتم تسريح فجنون، يأتي ضابط جديد مكانه ويحاول التنكيل بناجح ليثبت قوته، ويتربع على عرش سلطته، يصبح الضابط حراً يخطو بقدمه داخل السرادق رغم التحذيرات، اسقط من كاهله عبء منصبه، وانتصر لإنسانيته، ينهي  لوحته التي رسمها الروي لكل تلك الشخوص يرسم مصائرهم  يغلق حكاياتهم المعلقة’ يقفل قوس حيواتهم المشتعلة.

 الزمن يتحرك في القسم الأخير من الرواية من زمن  السرادق الثابت إلى زمن سائل متحرك، زمن يشبه ألوان لوحة تكتمل امام عيون القارئ كل لون منسكب يحدد مصيراً لقصة صاحبها..
 في السرادق يقدم الضابط العزاء، ويقابله ناجح دون حميمية، في الشارع يتفرق عبقرينو الذي ترك مهمة خدمة المؤسسة بعد ان ودع الضابط، وتفرق كل منهما في طريق، يذهب الضابط لحياته الجديدة،  بفرشاته وأحلامه دون أن يخاف من أن يسأله أحد” أنت متهم بإقامة أكثر من علاقة”..
 يقول الطويلة “كنت تشعر بالحصار من “جملة” الآن يمكنك  أن تنفلت حتى ’خر الطرف، تلعب أمام لوحاتك بجد تختاره ولا يفرض عليك، الآن يجب أن تنسى البدايات، النهاية مشرعة امامك، كلها ألوان لوحات ومعارض”
بعد روايته حذاء فلليني التي كانت تدور عن القمع السياسي الذي يمارسه بطل الرواية الضابط  في ارض روائية مختلفة تماماً، وبعد روايته “باب الليل”  التي وعلى نهجها يواصل إثبات نفسه كحكاء لا يبارى.
 في “جنازة جديدة لعماد حمدي”، يلج وحيد طويلة أرضاً جديدة بأصوات سردية مدهشة، بحيوات وحكايات براقة مثل حبات الكريستال داخل مشكال  ملون، ألوان لوحة مبهرة لا يستطيع ان يغمض عينه أمام إبهار تفاصيلها..

مقالات من نفس القسم