لوحات من متحف البطن

"ذاكرة هجرتها الألوان
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. فضيلة ملهاق

.. كان المطعم شبه خال من الزبائن وبحلول الساعة منتصف النهار، امتلأت الكراسي الفارغة وتكاثرت إفرازات الألسنة..(…)

قال أحدهم لمرافقه:

-هل سمعت آخر نكتة، واحد النهار “الشّاذلي” قام بزيارة إلى “ريغن”، فأُعجب بـ..

قاطعه الآخر:

– واحد النهار الشاذلي بن جديد…واحد النهار قط رونالد ريغن.. واحد النهار كلب فرانسوا ميتران.. سنوات ونحن نغلّف إرادتنا بنُكتة، ونُلخّص أحلامنا في أخرى.. ونكتفي في مطالبنا بأخرى، لحدّ أن أصبح واقعنا نُكتة. في الوقت الذي كانت الأمم تستثمر في تطوير المصانع والمخابر العلمية كُنا نستعرض أفلام الثّورة الزّراعية، وعُذرية البترول المتجدّدة.. وفي الوقت الذي كانت الأمم تستثمر في عائدات مسرحيات الحرب الباردة بين المعسكرين الشّرقي والغربي، كنا نستمتع بالتّرويج لأخلاقنا السّياسية، وعدم انحرافنا الايديولوجي.. وها هي الأزمة الاقتصادية الدّولية لسنة 1986 تضع الحكومات أمام المرآة، مجرد أن انهارت أسعار النّفط ازدادت جُرأة قوّادي النفط.. إما عُهر البرميل أو انفضاح عُقم الاستنساخ الإيديولوجي.. مجرد أن تفكّكت الدُّمية الرّوسية وانكشفت عورتها، كشف الاستحياء التّنموي عن مكبوتاته، وتجاسرت قلّة أدب السياسة..وانحشرنا مع المُنهكين اقتصاديا.

     تظاهر المتحدث بالتركيز في صحنه لكن نظراته لفّت دورة كاملة في المحل قبل أن يهمس لجليسه بصوت أجشَّ علا عليه صوت طقطقة الشّوكة على الطاولة:

-الوضع الاقتصادي العالمي لا يُطَمئن، نُكتة عدم انحياز لم تعد تستثير لا الشّفقة ولا الإعجاب، دُرنا..دُرنا كالزّنبور ثم رجعنا إلى الجدل نفسه حول بناء العُشّ السياسي.   

-هذه الملحمة ليست غريبة عَلي!

 علّق جمال بصوت مرتفع يستقطبُ انتباه ذلك المتحدث، ثم ابتسم وحرّك شفتيه بشكل غير مسموع نحو رحيم: الخيّاط.

     نبّه لكونه رفيقهما “عثمان” الذي يكنّونه بـالخياط بسبب طريقته المثيرة للجدل في حياكة الأحاديث، ثمُّ أمال رأسه وأومأ له بأنه يمهّد لحديث مطول(…)

   انفجر “رحيم” ضحكا ونبهه بدوره أن “عثمان” قضى على جميع الأطباق التي وُضعت أمامه بينما أصبحت الوجبات التي طلبها المستمعون إليه ساخنة طازجة باردة تُذوي الشّهيّة.

    كان الجالسون إلى الطاولات المجاورة يستمعون إلى “عثمان” باهتمام وهو يُمدّد أفكاره بحرارة التجاوب، ويمسح انطباعها في الأنفس مع أول بادرة اعتراض، ويتفاعلون معه وكأنه يملك مفاتيح خزائن التاريخ، بينما “رحيم” و”جمال” يكتمان الضحكات ونظراتهما تبصم على أنه زئبق آدمي، تذكرا حين أخبرهما أن وجوديات الشُّيوعي “كارل ماركس” تصلح لتحليل الطُّرق الصوفية، وحين أشار على رفيقهم “وليد” أن يدعو والده الحاج إلى الملهى الليلي الذي افتتحه ليُصحّح فكرته عن مشروعه.. ولم يعلق أي واحد منهم أو يستنكر، فهو يجيد تمييع المعاني بشكل يصعب معه الانتباه لضبابية مواقفه وأهدافه، ويُزاوج بين التّناقضات بطريقة تكاد لا تلفت الأنظار، ويُتقن مزج الهزل بالجد…واليقين بالشّك.  

    من يعرف عثمان حقّ المعرفة يُدرك مثلهما أن تلك المواقف المُتناطحة برؤوسها ليست سليقة، وإنما هو نفخ في أرمدة طموحات متفحّمة، وتوسّد لمخلفات مشاتل لم يكن إدراكه الغضّ مهيئ للانزراع فيها، وأصبحت بعدها ممارسة لمظهر من مظاهر التّرف الفِكري الذي يعوّضه عن وضعه المادي.. أو ربما خلاصة لحالات نفسية وضعه فيها إفلاسه المادي بسبب ملاءة رصيده الفكري الذي عمل على بنائه منذ نعومة أظافره.

      كان “عثمان” الشاب يمتلأ طموحا ورغبة في ولوج مختلف الفضاءات، ووجد في انتمائه للاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين، التابع آنذاك للمنظمة الجماهيرية “الاتّحاد الوطني للشبيبة الجزائرية”، فرصة مؤجلة ومطلاّ مستقبليا على أفق السّلطة.

   كان يعدّ نفسه سياسيا بعلاقة متعدية، باعتبار أن هذه المنظمة كانت تابعة بدورها للحزب الواحد “جبهة التحرير الوطني”، ولم يعد يعنيه الحصول على الشهادة بقدر ما يعنيه إثبات نبوغه وحنكته في إطار تنظيم تراهن عليه جهات فاعلة في صنع القرارات الفوقية، ويلفت انتباه تليسكوب الجهات الخارجية.

   ومع بداية انفتاح البلاد على مختلف التوجهات الايديولجية، وتكثّف نشاطات جماعات التيّار الإسلامي، عرفت الجامعة أجواء جديدة للتنافس، تميّزت بتنوّع التّنظيمات الطُّلّابية وسعي كُلّ منها إلى التوغل في الجامعة، فوقف بينها محتارا يتقرّب من هذه ويتجنّب هذه ..ثم يعاود التعامل مع أخرى، ومع مرور الوقت بدأ البريق يخفت، والحماس يفْتُر.. وكَبُر شعوره بفراغ القضية.

    لم يعد يجد قضيته في أيّ من الصّراعات المُعلنة والخفيّة بين الطلبة بسبب توجّهاتهم الفكرية، التي حوّلت الجامعة حلبة لجسّ النبض واختبار القوى بين مختلف الجهات، بلغه إفلاس الحماس وقرّر أن ينسحب، وكتب خلسة بالطّلاء الأسود على السُّور المُحاذي لمدخل الجامعة:

“الطُّموح في وضع أرض-أرض في انعدام جسر جوي لهاث مبتذل، ينتهي بصاحبه إلى إدمان ساذج.. حتى فُتات الكعكة السياسية يتم توزيعه بحسابات جو-جو!” (…)

    

 ولعل التجربة التي حفرت في نفس “عثمان” عميقا، ولعبت دورها في تغيّر سلوكاته، هي تلك التي تمّ فصله فيها من الفريق الثّقافي لجريدة يومية معروف، كان أول مقال نشر له فيها هو آخر مقال، هاجمته جهات إعلامية داخليّة وخارجيّة لأنه انتقد تحت عنوان “الغموض يروّج للإبداع”                                     بعض اللّوحات الشهيرة لرُوّاد في الرّسم السيريالي وقال أنَّ: “خيال المُشاهد هو الذي يعطيها قيمتها بتفسيرها بشكل لا يقصده أحيانا صاحبها.”

-قنّاص شهيتي هنا! بادره رحيم ممازحا. لست أدري أي حظّ هذا الذي يقذفك في طريقها كلّما انتعشت!.. حتّى في الأماكن المخصّصة للبطن لا تُعتقننا من هَلْوَساتك!

– الهَلْوسة أيض فكري، والفكر مُتعة يُحرم منها الجُهّال! ردّ عثمان بنبرة مشاكسة مُغلّفة بالجِد.

– دع هذه الأطباق المصفوفة للجُهّال أمثالنا وأمْتع إفرازات أمعائك اللّاذعة بالهلْوسات. أردف رحيم مُصعّدا من ريتم مزاحه.

– لن تكون أول تجربة لي مع الجوع لأجل الشّبع، حين تُقدّم جوع مُخّك على جوع معدتك ستفهم ما أقول، فالتجربة مهما كانت نتائجها هي سعي إلى تحقيق هدف، ولا هدف بلا حُلُم.. الحُلُم من وسائل الشّبع، إذا لم تعرفه سيضطرّك جوعُك إلى أن تتسلّق هَرم العُمْر بالمقلوب، فتتقاعد في طُفولتك، وتشعر باليأس والتقدّم في العُمر في مرحلة الشباب، وتترنّحُ كفرْخ الطُّرسوح على رمال الكُهولة، وتُصبح حفيدا في الوقت الذي يحتاج فيه غيرك لوضعِكَ كجَد.

    للأسف، مشكلة الحُلم عويصة عندنا ومتجذرة (…) وصل الإنسان المعاصر إلى القياس بالسّنة الضوئية لكن إحساسه لا يزال في مرحلته البدائية، لا يزال يكيل ألوان الحياة بثقل معدته ويقيسها بامتداد أمعائه، لذلك فإن كل خطوة يتخذها نحو الحضارة الفعلية تزيده تراجعا عنها، هذه هي الهزيمة التي أصبحت تُلازمه، وتحول دون أن يستمتع بأي ضفر، حتى ولو امتلك كل شيء يحسّ أنه يفتقد كل شيء، وكما يقول الفيلسوف الجائع الشّبعان:” ليس الجوع بشيء، لكن أن تعيشَ مُنهزما مغمورا هو بمثابة الجوع كل يوم”.

في كل مرة نظنه شُفي من جنونه المتقطع وأصبح يتكلم لغة البشر، يُفاجئنا لسانه بمَسْخ جديد!

   علّق رحيم، وندت عنه ابتسامة متراخية أوصلت لـ”عثمان” أنه تفطّن لكونه حرف مقولة: “ليس الموت بشيء، لكن أن تعيش منهزما مغمورا هو بمثابة الموت كل يوم”. فردّ عليه عثمان بضحكة عالية تعلن تفوّقه على مشاكساته المعتادة.

     اعتبر صمته اعتراف باحترافيته في توظيف مقولة “نابليون بونابرت”، فهو لم ينسُبْها لقائل معين ليؤخذ بعدم الموثوقيّة في المعلومات، ولا تركها على ذات المغزى الذي ذكرت فيه ليمسك عليه أمر تحريف ألفاظها.

    ولم يكن “رحيم” مستعدا للانسياق وراء تنبيهه لتلاعباته بالمعلومات وتوظيفها التوظيف الذي يخدم أهدافه، كان يدرك أن أيّ تعليق من تعليقاته سيمدّه بالمزيد من الفرص لاستعراض مُدّخراته من العبارات التي يحفظها عن ظهر قلب لفرط ما رددها على مسامعه، وأوّلها مقولة “الماهاتما غاندي”: “هناك أناس في العالم على درجة من الجوع لدرجة أن الله لا يمكن أن يظهر لهم إلا في شكل الخبز.” ويمارس بالمناسبة هوايته المفضلة، تحريك فضول الآخرين، فيعمد إلى التنويع في الألفاظ والمعاني بشكل يُعطي أكثر من مفهوم لعلاقة الحياة والموت بالجوع والشّبع، ويختلق أكثر من فيلسوف جائع شبعان، بما فيهم نابليون ذاته.

…………………

**فصل مقتطف من رواية ذاكرة هجرتها الألوان (صدرت عن المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية-موفم للنشر والتوزيع-الجزائر 2016)

 

 

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال