باسمة العنزي
بعد تناول القطعة الأخيرة من حلوى التيرامسيو في مقهى ” GINORI 1735 ” في روما، وأمام الأطباق الملونة ذات النقوش المبهجة التي يمكنك شراؤها من متجرهم مباشرة، أو عبر موقعهم الإلكتروني، وقبل أن تحضر النادلة الإيطالية البشوشة المولودة لأبوين مصريين من الإسكندرية فاتورة الحساب، تذكرت أن الرحلة شارفت على نهايتها.
جولة اليوم في روما، حرارة شهر أغسطس، وإجازة الصيف، كلها تدفع إلى حافة الذكرى.
لطالما احتفينا بالبدايات في حياتنا، وتجاهلنا النهايات بعناد طفولي، تبدو كلمة “بداية” مبشرة ومكتنزة بالوعود والآمال، بينما تأتي مفردة “نهاية” في سياقات رصينة، أغلبيتها تبعث على المواساة والتعاطف، ونصائح التقبل، ورغبات التخلّي!
على الرغم من نعومة البدايات وتأرجحها وارتباكنا معها، إلا أن النهايات تتغلّب عليها، بصرامتها، وقطعيّتها، وصعوبة الاحتيال عليها أو تأجيلها. نهاية العلاقة، فصول السنة، الدراسة، الوظيفة، المقتنيات.
كمستهلكين؛ نشهد يوميًّا لحظة إطلاق العلامات التجارية لسلع جديدة في الأسواق، الترقب، بهجة الحصول على ما نظن أننا بحاجة إليه، الإعلانات الملحة، والأحاديث حوله، ثم يتلاشى ذلك تدريجيًّا لنتخلى عمّا امتلكناه، ولتشهد المنتجات -شبه الجديدة- نهايتها، وحيدة في فراغ عدم الحاجة بعد دورة استهلاك قصيرة وإن طالت.
أجهزة الهواتف النقالة، الثياب، الأحذية، قناني العطور نصف الفارغة، كلها تتلاشى رغبتنا بها، نخرجها ببساطة لتلقّي الأحدث منها بأذرع مفتوحة.
في الفيلم الوثائقي الرائع من نتفلكس Buy Now! The shopping Conspiracy المنتج عام 2024 عن نزعة الإفراط في الاستهلاك، وخطورة استراتيجيات التسويق الحديثة على البيئة، ذكرت المديرة السابقة في شركة أمازون عبارة تعنينا جميعًا:
“لا أظن أننا كنا نفكر بمآل هذه الأشياء في النهاية”.
ملايين السلع التي تجوب أنحاء العالم بضغطة زر، تصل كهدايا ومكافآت منا لأنفسنا، لتنتهي بعد ذلك بمحاولات التخلص منها، أو تكديسها في ظلام المخازن، أو تمريرها لآخرين نظن أنهم بحاجة لها!
بمناسبة الحديث عن التجارة الإلكترونية، هناك سلع تطلب وتضلّ الطريق لأصحابها، لذلك عمدت بعض شركات التوصيل إلى وضع نهاية لمكوثها الطويل في مخازنها المكتظة. مئات القطع الجديدة في الطرود المغلفة معروضة للبيع بالكيلو في متجر”Surprise Box” الذي تم افتتاحه بداية السنة في الحي القوطي ببرشلونة، يمكن لأي مشتر أن يختار مغلّفًا ويدفع ثمنه حسب وزنه بالكيلو، ويحمله معه مخمّنًا ما ينتظره، سلعة طلبها مستهلك لم يستدل عليه من خلف الشاشة، وأصبحت الآن بين يدي آخر بدافع الفضول، قد تحوي الطرود الغامضة ملعقة خشبية أو مملحة طعام، ولربما جهاز “لاب توب” أو فستان سهرة من فالنتينو!
كما لدورة حياة المنتج العصري بداية ونهاية، تبدأ صفحات الأعمال الأدبية وتنتهي معتمدة على ذكاء الكاتب، هناك أعمال تتسم بجاذبية بدايتها وروعة نهايتها.
عادة؛ عندما أنتهي من أي رواية مدهشة أعود لأول فقرة، وغالبًا ما تكون بقوة وألق الفقرة الأخيرة، كتناغم بداية السيمفونية مع نهايتها.
رواية مثل “الجزيرة الأخيرة” للكاتب التركي عمر زولفو ليفانيلي ينطبق عليها هذا الوصف، وهي – بالمناسبة – واحدة من أهم الروايات المترجمة من سلسلة إبداعات عالمية عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب عام 2023.
تبدأ الرواية بعبارة “كنا نعيش بسعادة وسلام على أفضل مكان آمن، هو بمنزلة قطعة من الجنة …”
تنتهي الرواية بعبارة “لقد رويت قصة فقداننا الجزيرة الأخيرة بكل تفاصيلها الحزينة”؛ لتبقى آثار الثعالب، وهجرة النوارس، ولدغات الثعابين في ذهن القارئ. المدهش أن ليفانيلي ملحن معروف بإبداعه الموسيقي، وهو أيضًا مخرج سينمائي، مما انعكس على العمل بأكمله.
في الشعر أيضا ننصت للبداية دون أن نتوقع شكل النهاية. قصيدة “المدينة” المكتنزة بالصور الحالمة بصوت الشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن تبدأ بسؤال عذب:
“وين تبدأ هالمدينة كل يوم؟”
لتنتهي بحقيقة الغياب، ولا جدوى الانتظار، وغموض الإجابات.
“صك شباك التذاكر
وانمحى حبر الختوم
وما لقيتك”
إنها النهاية الحزينة لقصص العشاق في كل مكان! ربما لذلك كتب محمود درويش “لا أريد من الحب غير البداية”.
وعلى ذكر النهايات الحزينة حتى في قصص المخذولين، هناك جانب مضيء، كما في المشهد الأخير من فيلم “Dead Poets Society” للفنان “روبن ويليامز” المنتَج عام 1989، عندما وقف طالب مدرسة “ولتون” الداخلية على درج الفصل مرسلًا تحية تقدير للمعلم المطرود بسبب مغايرته. ليتصاعد التأييد، ويقف بقية الطلبة – باستثناء الطالب الواشي – في حركة رمزية مفعمة بالشجاعة، تبعتها ابتسامة المعلم وهو يغلق باب الفصل وراءه.
هناك أيضا بدايات لا تتوّج بالنهاية المتوقعة! أبرز مثال على ذلك كنيسة “ساغرادا فاميليا” غير المكتملة في برشلونة، والمبنية على الطراز القوطي لعبقري الهندسة المعمارية الكتالوني “أنطوني غاودي” الذي توفي عام 1926 ولم ينجز من بنائها سوى الربع!
دفن “غاودي” في سرداب الكنيسة التي سيكتمل العمل بها السنة القادمة في ذكرى وفاته المئوية.
إنها النهاية …. أغلبنا لا يمكنه تقبل الفصل الأخير من دفتر الحياة. لذا نحاول تجاهلها أو مراوغتها – كي تتأخر قليلًا- فنحن لا نستحق قسوتها. ومن آلاف النهايات التي نشهدها، دائمًا ما نتصور أن رحيلنا الموعود هو النهاية الوحيدة المؤكدة!
في نوفيلا “صديق قديم جدًّا” للأديب إبراهيم أصلان المنشورة بعد وفاته بثلاث سنوات، قبل الصفحة الأخيرة عبارة: “لم يعد للكلام بقية”. هل شعر بأنه عمله الروائي الأخير؟!
” لم يعد للكلام بقية” تمتمت بها وأنا أنهض في طريقي لمغادرة المقهى الأنيق نحو السلالم الإسبانية. لتصل في اللحظة نفسها على “الواتس أب” رسالة مبعوثة لمجموعة عشوائية:
“ستدهشك سرعة انتهاء الأشياء التي أوهمتك أنها أبديّة”.
…………………
*كاتبة من الكويت