أحمد رحيمة
الغروب. يجلس فوق السور الكبير عند نهاية الأزقة. سرب الحمام يطير فوقه. يفتح الكيس الصغير ويضع بعضًا من المخدر الجديد في باطن يده. يلمس المسحوق بأنفه. يسحب فتنسحب الآلام. لا يبقى سوى الحمام السابح في السماء القرمزية. يلفون في نفس اللحظة. يصنعون لوحة حقيقية.
نظر أمامه. رأى الفتاة..
تقف بعيدًا.. بعيدًا وراء واحدة من العمارات المهدمة. شعرها أبيض كالسحاب. ناعم ويصل إلى ردفيها. بارعة الجمال. رائحتها رائحة بيتٍ لم يعرفه. يستطيع شمها من مكانه هنا. لم تكن المرة الأولى. لا يراها إلا حين يستنشق. مع ذلك لا تظهر كل مرة. أغمض عينيه. فتحهما. لم تعد هناك. لم تأتِ إليه. لم تأتِ اليوم أيضًا.
هل يذهب إليها؟
لمح حركة على يساره. نظر. خمسة رجال. يسيرون نحوه. أغمض عينيه. فتحهما. يقتربون. رأى ملامحهم والأسلحة في أيديهم. لا يتخيل. لقد جاءوا. كما قالوا.
نزل من فوق السور بهدوء وسار بروية. لا فائدة. وضع ما تبقى من المخدر في يده واستنشقه بعنف. لا فائدة. رآهم يسرعون. تخترق ذرات المسحوق خلايا رأسه. بدأ يجري. بدأوا يجرون. كان يعرف أنهم سيستهدفونه اليوم. يتسلل المخدر إلى مسام عقله. هددوه وعمته عدة مرات. رأى النجوم تعوم أمامه. عمته تريد الحرب ولا تملك ما تتطلبه. ابتسم. لا سبيل للهرب.
أسقطوه على بطنه. جلس أحدهم فوقه. ألصقوا وجهه بالأرض.
خده الأيمن يحتضن الأسفلت الخشن. أشعة شمس الغروب الناعمة تحتضن خده الأيسر. يراها. يراها كرة برتقالية بعيدة. تقترب منه. المخدر يأخذه إليها. بجوارها. تقترب الشمس أكثر. تلمس أصابع يده.. وتدخل تحت الأظافر..
عاد إلى الواقع في لحظة واحدة يصرخ ويحاول الإفلات. نظر إلى الأسفل. يحرقون أظافره بنيران الولاعة. اخترق المخدر أحد مسام رأسه. هبط إلى الأرض السفلى السابعة. نظر إلى الشيطان. كان الشيطان من الماء. ماء يشتعل. يبتسم. الماء الملتهب يقطر من عينيه. دموع دامية. رأسه تنزف؟ عاد إلى الحاضر. شعر بزحف الدماء. يضربونه. انسحب مرة أخرى. رأى نفسه من الأعلى. يمرِّرون نيران الولاعة على كل بقعة في جسده. الماء الملتهب. جلده. يشعر به وهو يسيح. السلاسل التي تكبِّله. تذوب. يقف في طريق والضباب يغشاه. الضباب ينقشع. صارت الأشياء واضحة الآن. لطالما كانت واضحة. هو الذي كان مختبئًا خلف السلاسل. خلف الضباب. النيران تمحو ما كان يخفي الحقيقة. النيران قادمة من الأيام الأولى. اتخذ قراره. والحقيقة كالشمس. والشمس هناك تغرب. تشرق بداخله. اتخذ قراره. أن تلمسها. أن تلمسها. أرأيتها؟ لقد كانت هنا طوال الوقت. أفهمت؟ يسمع صراخه. ولكنه يأتي من الداخل. والنيران.. النيران صرخة الحقيقة متجسدة في صورة مادية. تخترق لحمه بحسم. تصل إلى داخله فتلمس الفتيل.
تركوه. وقد اتخذ القرار.
سمع أحدهم يقول: “الساعة 3 الفجر في الشقة تكون البضاعة جاهزة.”
***
فتح عينيه وعمته تركله في بطنه: “قوم! قوم! قوم!”
ممدد على أرضية الشقة. جلس بسرعة وهو يصرخ كي تكف عن الركل. شعر بالاحتراق. كل الحروق والجروح تنهشه.
نظر إلى الساعة. الثالثة إلا ربع فجرًا.
سمعها تصرخ وهي تقترب: “فاكرينِّي هجيب ورا؟!”
رمَت مسدسًا على وجهه. أمسكه. رأى مسدسًا في يدها. نظر إليها. إنها ترفِّص الفرفصات الأخيرة قبل الموت. هي تعرف، وتعرف أنه يعرف. ولَّى زمنها. حالفها الحظ طوال عشرين عامًا واستمرتْ عجلتها في الدوران بقوة الحظ والصدفة وضيق نطاق تجارتها وقلة زبائنها الدائمين. لعبتْ بهدوء فلم تجذب أي مفترس من أبناء عائلة كبيرة أو بلطجية ذوي نفوذ. لم تحتج إلى حماية. لم تكن جاهزة لبيع المخدر الجديد. وجدته في حقيبة كبيرة تحتضنها جثة امرأة عارية ظهرتْ فجأة أمام العمارة. لم تعرف من أين أتت الجثة ولا من أين ستأتي بالمزيد من المخدر حين ينتهي. لم تعرف سوى أن شمة واحدة من ذلك المسحوق الإلهي تحول من يأخذه ملكًا يحلق بأجنحة بيضاء فوق سحائب النشوة. سُعِر الزبائن القلائل المعتادون. طلبوا المزيد وجلبوا أصدقاؤهم. أصيب الجميع بالهوس. خلال أيام صارت تجلس على عرش منطقة توسَّعتْ فجأة وهي لا تستوعب خطورة ما تفعله.
رآها وهي تخفي أكياس المخدر تحت عدة بلاطات متحركة منثورة حول أرضية الشقة: “فاكرين هيركبوني؟! عشان مفيش راجل في ضهري هينطوا عليا؟!”
كانت تصرخ في وجه زوجها الذي تركها قبل سنوات دون أن يقول أي شيء. اختفى فجأة دون أثر. وأخوها، أبوه، الذي مات مخنوقًا بقيئه وهو نائم بعد أن تمدد مخمورًا. لم تتوقف عن معايرته بطريقة موت أبيه. لم يرَ أمه قط. نظر إليها وهي تجري في كل اتجاه. تلك الهيستيرية الخمسينية القبيحة هي كل ما قد يقترب من معنى الأم بالنسبة له.
نظر إلى المسدس في يده. نظر إلى زجاجات الزيت والجاز والكحول بجوار البوتوجاز القديم وأنبوبة الغاز الزرقاء المتسخة وعلبة الكبريت.
وقف. فتح الزجاجات. صب على كل شيء وهو يسير بهدوء. هدوء اليقين والوصول. النيران. لقد ذهب إلى الغروب ولمس الشمس وعاد. كله إلى اشتعال ثم رماد ثابت لا حراك فيه ولا معنى. سيختصر الوقت ويجتاز الزمن ويقفز قفزة واحدة إلى حيث تؤول الأمور. أغلق كل الشبابيك من الداخل جيدًا. فكَّ خرطوم أنبوبة الغاز من البوتوجاز وفتحها. تنفث أنفاسها الطاهرة فيملأ فضاء الشقة النجس.
عمته بالداخل. لا تنتبه لما يفعله. تغرق في أعماق اللوثة. دفنتْ الأكياس المتبقية تحت الدولاب. تمسك الكيس الأخير وتقف. ترتمي على الكنبة المكسورة وتفتحه وتنثره بالكامل فوق الطاولة. المسدس في يدها الأخرى المرتجفة. دبَّتْ وجهها في الطاولة، ألصقت أنفها بالمسحوق وسحبتْ.
رمى الزجاجة الأخيرة. سمع أصوات أقدام تصعد السلم. ابتسم.
صعد إلى الدور الأعلى، الخامس الأخير، المسدس في يد، علبة الكبريت في الأخرى. راقبهم وهم يدخلون الشقة. لم يكن يختبئ. كان يقف والظلمة تلفه. لو نظر أحدهم إلى الأعلى لرآه. لم يبالِ. دخلوا عدا اثنين وقفا على الباب. واحد يرتقب صعود أي أحد وواحد ينظر إلى الداخل. لم يتوقعوا وجوده بالأعلى. درسوا العمارة جيدًا بعد أن تسلل أحدهم في الأيام الماضية استعدادًا للهجوم وعرفوا أن الدور الأخير خرابة وسطوح مهدود. سار من دخلوا إلى الداخل دون أن يكترثوا لابتلال المكان، لم يحسبوه شيئًا يستحق الانتباه. يمسكون مسدساتهم والسواطير. ساروا ببطء يبحثون عن المرأة والفتى. كانت بالداخل تسبح بين النجوم، وفي الوقت نفسه تعمِّر مسدسها وقد سمعتْ خطواتهم. بمجرد أن رأت أولهم يعبر أمام باب الغرفة ضغطت على الزناد وهي تضرب في كل اتجاه وهم يضربون ويصرخون وهي تصرخ وصوت الرصاص يدوي كانفجارات نووية وسط صمت الأزقة المستكينة تحت ستار الرذائل الليلية.
عمَّر مسدسه وهو ينزل السلالم وأطلق على الاثنين الواقفين أمام الباب قبل أن يدخلا.
أغلق الباب بالمفتاح.
مرّر عود الكبريت على جانب العلبة وظهرتْ الشمس الصغيرة. ألقاها فلمست الأرض لتتسلل أشعتها النارية من تحت فتحة الباب إلى داخل الشقة.
نزل بهدوء على السلالم. خرج من العمارة. سار عدة خطوات وانفجرتْ الشقة. تطايرتْ قطع الزجاج والطوب واخترقتْ كتفه من الخلف شظية حديدية. صرخ. نظر إلى الخلف دون أن يستتر. حدق في الألسنة النارية وأذرع الدخان الأسود. أخذ نفسًا عميقًا ورفع المسدس. وضع فوهته على جانب رأسه.
ضغط على الزناد.
صعدت الرصاصة إلى السماء في اللحظة الأخيرة وهو ينظر إلى الفتاة الممسكة بمعصمه توجِّه فوهة المسدس إلى الأعلى.
تنظر إليه في عينيه.
وهو لا يتنفس. لم يجفل. لا يتحرك. لم يبتعد.
شعرها الأبيض الطويل. عيناها. شفتاها.
رائحتها.. رائحتها..
اختفت الأصوات كلها.
أغمض عينيه. فتحهما. لا زالت هنا. لا زالت.
أنزلَتْ يده بهدوء.
أخذَتْ المسدس.
أمسكتْ يده.
مشتْ ومشى بجانبها.
23 مارس 2025