لعل ما يمنح نصوص ” لمح البصر” مانعتبره صدقية الوثيقة، هو أنها اختارت أن تسلك في التعبير عن حساسيتها لخطاب العنف المعاصر، أن تتدفق رأسا من منطقة اللاوعي، متيحة للأحلام الفرصة كاملة لأن تشغل مساحة السرد، كلها، وتنطلق بمخزونها من التجارب والخبرات النفسية الأعمق، والأكثر مباشرة وصراحة في التعبير عن ذلك الجانب المعتم من الذات، وإفشاء صور معاناته الوجود في العالم . ذلك الجانب الذي يقدمه الكاتب بوصفه أرض الحقيقة، وهو ما يمكن أن نقرأه في ذلك الحوار المتخيل الذي يصدر به الكاتب مجموعته :
قلت: ما الحلم؟
قالت : أن تنظر بداخلك .
قلت : وما الرؤية ؟
قالت : أن تحدق في النار .
قلت : يالها من وحشة .. ياله من ألم .
قالت : هاأنت في الحقيقة تعيش .
هكذا يصل الكاتب بين الحلم والحقيقة. الحلم نظر في الداخل، يتوازى مع التحديق في النار، بما يجره ذلك التحديق من شعور بالألم والوحشة. ذلك هو العيش في الحقيقة .
لم تنشغل المجموعة ـ إذن ــ بمحاكاة صورة العالم الصلبة، كما تتجلى للوعي، إنما سعت لاقتناص ظلال تلك الصورة، التي تسربت إلى المنطقة المظلمة من النفس، مشكلة بنية عميقة، ومنسية، من صور وانفعالات، وهواجس، تعد خلاصة صورة العالم وتردداتها الأكثر إيغالا وحضورا في الوعي الكلى للذات الساردة، وقد عمل الكاتب على اقتناص تلك البنية المنسية، بواسطة الأحلام، معيدا تركيب خطابها، عبر وسيط لغوى، اجتماعي، واعِ، يخرجها إلى النور، فيمَكِّن من التعرف عليها، محافظا ـ في الوقت ذاته ـ على طابعها الحلمى، السيريالى، وصورها الرجراجة، الغرائبية، التي تتجسد فيها تلك المعرفة الخام، تتجسد فيها الحقيقة .
تسبح صور المجموعة، وتتركب نصوصها، فوق، ومن، حزمة من الانفعالات والهواجس ؛ الخوف والقلق، اللا يقين، اللا أمان، الشعور بالتهديد، الضياع، الحصار، المطاردة . تضعنا أمام غرائز بدائية مستَنفَرة بفعل هذا الشعور بالتهديد، والقلق على المصير، أو لعلها مُجَسِّدة لهذه الانفعالات ذاتها . يضعنا النشاط الدرامي في المجموعة أمام غريزتي الحياة والموت، الهدم والبناء، نراهما تتعاركان، عبر فضاءات متعددة، وتمثيلات رمزية واستعارية مختلفة . تحاول كل منهما، هزيمة الأخرى، بما لديها من آليات ووسائل.
يمكن أن نمثل لهاتين الغريزتين بثنائية ( الجثة ــ الجنس ) وهى ثنائية تكاد تكون حاكمة لمجمل حركة النصوص .
ربما يمكن إرجاع بعض هذه الحمولات من الهواجس والمخاوف، والشعور بالتهديد إلى ما يختزنه اللاوعي الجمعي، من انفعالات بدائية تجاه المجهول ( إن استخدمنا لغة يونج )، غير أننا ــ بالتأكيد ــ سنجد أن الكثير من هذه المشاعر والانفعالات العميقة التي تجسدها نصوص المجموعة، تمثل ترديدا داخليا، لأصوات العالم الخارجي، وسلطاته، تلك التي تحيط بسارد أحلام المجموعة، وتطارده .
من هذه الحمولات نفسها ـ فيما أرى ـ تشكلت مجموعة ” لمح البصر ” لسيد الوكيل، لتشير بطرف إلى لاوعي فردى، وجمعي يموج بالكوابيس، من ناحية، بينما تشير، من ناحية أخرى، إلى خارج يٌصَنِّع هذه الكوابيس في معامِله، قبل أن يروح يوزعها فيما بين اليقظة والنوم، وفيما بين الخارج والداخل .
هذا “العام” الذي يتم التعبير عنه من خلال “الخاص”، هو ما أحسب أنه يضع مجموعة ” لمح البصر ” في الموقع ذاته، الذي تشغله الأعمال الأدبية المهمة في تاريخ النوع الأدبي، والتي تكتسب أهميتها بسبب حساسيتها الفنية في التعبير عن خطاب لحظتها الآنية، وملامسة سماته. تلك الحساسية التي تجعل بعض الأعمال الفنية، التي تبدو ذاتية، بمثابة قراءات أكثر عمقا وصدقا والتصاقا بالوجود الإنساني، من الأرقام والإحصائيات .
تتكون مجموعة ” لمح البصر” من 39 نصا قصيرا. تنبئنا عبر عدد من مؤشراتها النصية بانتمائها إلى مادة الأحلام، وبنيتها . مررنا بالتصدير الحواري القصير، عن علاقة الحلم بالحقيقة، وهاهو الإهداء : إلى نجيب محفوظ، سارد الأحلام العظيم الذي جاءني في المنام، وأعطيته حجرا فقبله “، وهو ما يمكن قراءته بوصفه محاولة من الكاتب ” تنسيب ” سردية مجموعته إلى “سرد الأحلام”، وقد مثّل لها الإهداء بالحَجَر الذي أعطاه الكاتب ” لسارد الأحلام العظيم” فقبله منه، كأنما هو حجر آخر َقبِلَ محفوظ أن يضيفه الوكيل إلى بناء سرد الأحلام الذي استهله محفوظ بعمله ” أحلام فترة النقاهة ” .
نتعرف هذا المعنى أيضا في النص الأخير من المجموعة ” لمح البصر ” وإن كان سارد الحلم في النص، لم يمتلك يقين كاتب الإهداء؛ حيث ارتبك بعد أن تناول محفوظ منه الحجر ووضعه في الخُرج جواره، وعاد ينكب على كتابه، فيما يحيط به مريدوه، مما دفع الحالم للتساؤل : لا أدرى، إن كنت أجلس بينهم، أم أعود من حيث أتيت ؟ ولم تفارق النصوص كلها تلك المؤشرات، وجاءت داعمة لها، متخذة من بنية الحلم ــ َسمِّه الكابوس إن شئت ــ وآلياته، ولا ترابطه، شكلا للكتابة، ومن مادته الرجراجة، الغرائبية متنا للحكاية.
تتبدى في مجمل نصوص المجموعة جملة من التمثيلات التي تتصل بتلك الانفعالات والهواجس التي ذكرناها، والتي تنتاب السارد في كل النصوص، لتعكس ما انسرب إلى لا وعيه من تهديدات ألقاها العالم الخارجي داخله. وهو ما تجسد في الشوارع المظلمة، الطرق الممتدة، الباردة، المصمتة، المتاهات، السراديب الأرضية، الآبار والبالوعات المكشوفة وسط الشوارع، المقابر التي على الجانبين، الجثث الكثيرة والرؤوس المهشمة التي يتعثر فيها السارد، ويحمل بعضها؛ في الشارع المطير، في سيارة الصديق، فوق سطح السفينة، في غرفته، جثة الأب، جثة الصديق، جثته هو شخصيا، تنفيذ أمر هدد شقته، مغادرة الشقق التي يسكن فيها باستمرار، بحثه عن بيتهم القديم، محو معالم بيت الجد، ذلك المحو المستمر للمكان، يقوم به العمال في صمت، بيت عائلته الذي يعاقبه فيغلق بابه في وجهه، ويتركه في الخارج نهبا للخطر الداهم، وأصوات الكلاب غير المنظورة، ابتعاده عن بيت العائلة مطاردا من أولاد الجيران، واستحالة العودة، البحث عن حق العودة، تلك الأطواف الصغيرة التي تحمل السارد وأهله ومعارفه، و تنداح بهم، فرادى، على سطح البحيرة، فتتسع الهوة فيما بينهم، وينقطع التواصل، حتى لا يعودون يرون الشاطئ، فيما تنطلق قذائف من شاشة العرض الخلفية وتهددهم جميعا بالغرق، رعب الخفة مع تلاشى الذات، وحبسها في بقعة الضوء وعدم استطاعة التواصل مع الزوجة، مطاردات كثيرة، بحث متكرر عن طريق للعودة بعد مغادرة المجموع ونسيانهم للسارد في أماكن بعيدة، تهديد مقيم في كل نص، ملازم لشعور السارد بوجود نقص ما، أو خطأ ما، هنا أو هناك، في نفسه، أو في العالم المحيط، يدفعه باستمرار للبحث عن طوق نجاة، عن اتزان، عن موقع للذات، عن حبر للكتابة، عن علاج، عن بيت الجد، عن إنقاذ المذيعة، عن مجاوزة المياه الآسنة التي تغرق الشارع. يبحث السارد الكنز، فيحصل عليه أحيانا في صورة اتصال جنسي حميم. في طفلين يعبران به إلى جانب آخر مضيء. مع شيخ يمنحه حبتي تين وبرطمان عسل، أو صديق يمنحه علبة دواء. في امرأة ( هي الكتابة ) تمنحه حجرا فتتيح له أن يلتقي بنجيب محفوظ.
هكذا تنتهي بعض نصوص قليلة إلى وصول آمن، أو نهاية سعيدة، وهو ما يعد استثناء من القاعدة؛ حيث لاتنتهى معظم نصوص المجموعة بمثل تلك النهايات، فيستمر الراوي مطاردا، في حلقات لاتنتهى، وتسفر الكثير من النصوص عن ما يسمى بالفعل المضاد أو الحبكة المضادة؛ فتنقلب الوعود التي خايلت السارد في بدايات هذه النصوص إلى مآس؛ تسقط الجدة من أعلى بينما كانت تصحبه ليرى الملائكة من فوق السطح، فى ليلة القدر. تموت الأم فيما كانت تصطحبه إلى بيتهم، في حنطور مزين بالذهب والفضة، فيبوخ شغفه بأن يراه أولاد الجيران، على هذه الصورة الجميلة. تلوح له ممرضة بزيها الأبيض، في نهاية شارع مظلم، تطارده فيه سيارات لا يرى غير كشافاتها، فإذا بها تصحبه إلى بناية مظلمة، عبر طرقات لا يضيء فيها غير بياض الأكفان فوق الجثث، ويسمع ممن يحملون هذه الجثث، ما يوحى بأنه أحدها، وقد صدمته سيارة ! . يأنس ــ بعد مطاردة ــ إلى أنثى إنسان الغاب، مقيدة في صخرة، ويستشعر معها بعض الراحة والحنان، عن طريق ملامسة ثدييها، فتطلب منه البحث عن أبنائها التائهين. يذهب إلى الصلاة فيجد نفسه محاصرا في نفق، تحيط به حشود عنيفة، من الجانبين، تريد الفتك به. ثوار يدفعونه عبر سلسلة من أعمال العنف والقتل، إلى قطار سائقه أعمى، يزوده بالجثث حتى يتحرك، يضطر السارد إلى مشاركته تزويد القطار بالمزيد من الجثث، علّه يعرف بنفسه ما المحطة القادمة ؟
هذه بعض علامات يمكنها أن تضع أيدينا على بنية عميقة، أحسب أنها تهيمن على الفضاء الرمزي، في مجمل نصوص المجموعة، وتشكل علاماته، كاشفة عن وعى قلق، خائف، مرتاب، مهدَد، حيران، تحمله الأنا الساردة، ربما لاتدركه بشكل واع، وربما تنكره، فتتكفل الأحلام بإفشائه، عن طريق ما يسربه اللاوعي خلالها، في تحد للعقل، وربما بدافع الحاجة إلى التعويض وإدراك المعرفة الكلية بالذات، ومجاوزة مأزقها الوجودي.
تكشف نصوص المجموعة عن مفارقة، نجح سيد الوكيل في تحقيقها، بحساسية ووعى شديدين، تمثلت في: قدرته على الاحتفاظ بميكانيزمات عمل الحلم التي تعتمد على تدفق الصور من اللاوعي، و تتسم بدرجة واسعة من الحرية، كاشفة عن مساحات لم تكن متاحة للأنا الواعية، بمكنوناتها من مخاوف وهواجس وانفعالات، تتسم باللاترابط واللامنطقية، والغرابة، وتقدم نفسها عبر فجوات واختلالات مكانية وزمانية وشخصية، مفارقة لعوامل الضبط الاجتماعي، والرقابة الذاتية، وهو ما تحقق على مستوى المحتوى السردي، ثم تمثلت في وضع هذه الصور السريالية، الرجراجة، في خطاب لغوى اجتماعي، إطاري، متماسك، استطاع أن يقيم جسرا بين الوعي واللاوعي، وبين الخارج والداخل من ناحية، وبين العام والخاص، من ناحية ثانية، وبين الكتابة بغرابتها، وبين جمهور المتلقين، من ناحية ثالثة، وهى المفارقة التي أحسبها من أبرز وأهم الملامح المميزة للمجموعة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ لمح البصر، سيد الوكيل، دار روافد للنشر والتوزيع .
* محمود الحلواني:شاعر وناقد مصري
*نُشر في مجلة إبداع.